وإذا الكنيسة ‘سُئلت’ بأي ذنب ‘هُدمت’

بقلم د. توفيق حميد/
من جديد تطل الأزمة الطائفية البغيضة في إحدى قرى محافظة المنيا في مصر، والتي لم يمر أسابيع على حادث اعتداء آخر في قرية أخرى فيها ضد مسيحيين اعتراضا على بناء كنائسهم.
بدأت الأحداث المؤسفة عقب “صلاة الجمعة” في قرية دمشاو هاشم بسبب الاعتراض على إنشاء كنيسة، حيث تجمهر عدد من المتطرفين، وتم الاعتداء على أربعة منازل مملوكة للأقباط وإصابة شخصين، ونهب كمية من المشغولات الذهبية والأموال، وتحطيم الأجهزة المنزلية والكهربائية، وإضرام النيران في بعض ممتلكاتهم.
وكان المتطرفون في قرية مجاورة (عزبة سلطان) قد فعلوا نفس الشيء منذ أسابيع، وبسبب عدم وجود الردع الكافي وعجز رجال الأزهر عن تقديم فهم جديد للدين انتقلت العدوى إلى هذه القرية؛ ومن بين ما تم ترديده من هتافات أنهم إنما يفعلون ذلك أسوة برجال قرية سلطان، وهو ما يؤشر إلى احتمال امتداد ذلك إلى قرى أخرى.


كنت أتمنى أن يعتبر الأزهر الشريف أن من يهاجمون الكنائس خارجين عن ملة الإسلام
هذا الأمر البشع: استضعاف الأقليات الدينية، وهدم كنائسهم، لا يقتصر فقط على هؤلاء المجرمين الذين يهاجمون بناء كنائس للأقباط في مصر، فلقد رأيناه يتكرر ـ بصورة أبشع أحيانا ـ في جميع الأماكن التي تطبق ما يسمونه “الشريعة الإسلامية”، فمن “داعش” في العراق وسورية إلى “القاعدة” في أفغانستان، فـ”بوكو حرام” في نيجيريا، يتفق هؤلاء الجبناء المجرمون جميعا على “ضرورة” هدم الكنائس!
وأتوجه هنا إلى هؤلاء المجرمين الذين أعمتهم الكراهية، التي تسكن قلوبهم السوداء عن كل معاني الحق والخير والجمال، بهذه الأسئلة:
• هل تريدون هدم كنائس الإخوة المسيحيين لأنها تدرس “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ”؟
• أم لأنها تدرس “طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون”؟
• أم لأنها تدرس “وماذا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ”؟
• أم لأنها تدرس “أولئك الذين أشرق عليهم نورك لم يحتملوا السكنى بين الناس فهم بأجسادهم هاهنا ولكن بأرواحهم هناك أولئك الذين خلقوا لا من مشيئة جسدٍ ولا دم ولكن من مشيئة روح”؟
• أم لأنها تعلم الناس أن “الله محبة”؟ أم يا ترى لأنها تدرس التسامح والمحبة والمغفرة!؟
أم لأنها… أم لأنها … أم لأنها؟
هل تريدون إتباع كتب ما أنزل الله بها من سلطان مثل كتب ابن تيمية وغيره من دعاة الكراهية؟ والتي تحارب بناء كنائس للمسيحيين في الدول الإسلامية أم تريدون اتباع القرآن؟!
أم يا ترى لا يعجبكم أمر القرآن بأن يدافع أتباعه عن الكنائس ودور العبادة غير الإسلامية، كما جاء في قوله تعالى ـ ومن أصدق من الله قيلا ـ “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” (سورة الحج آية 40).
وهذه الآية الكريمة تدعو بوضوح أن يدافع من يتبع القرآن حقا عن دور عبادة الآخرين حتى لو كانوا مختلفين عنه في العقيدة.
فالصوامع والبيع والصلوات وقت نزول الآية كانت أماكن عبادة اليهود والمسيحيين والصابئة وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى. فبالرغم من عدم إيمانهم بمحمد عليه السلام أو بالديانة الإسلامية فقد أمر القرآن بأن يدافع المؤمن الحقيقي عن دور عبادتهم حتى وإن كانوا يدينون بعقيدة أخرى ولا يؤمنون بدينه.
يبدو أن الأزهر “الشريف” مشغول بمهاجمة الملحدين والقرآنيين والمفكرين بدلا عن عرض فكر ديني جديد وقويم يمنع حدوث مثل هذه الجرائم!
والآن على المتطرفين أن يختاروا إما أن يطبقوا ما انزل الله في كتابه العزيز ـ كما جاء في الآية السابقة ـ أو أن يضربوا به عرض الحائط فيتبعوا بدلا منه كتب التراث التي تدعي أن عمر بن الخطاب أمر بهدم كل دور العبادة غير الإسلامية بناء على قول الرسول “لا يجتمع دينان في المدينة”.
ولو كان هذا الحديث صحيحا كما يزعمون فلنا أن نتساءل لماذا لم ينفذه إذاً الرسول في عصره ولماذا لم يفعله ثاني الخلفاء الراشدين أبو بكر الصديق!
وكنت أتمنى أن يعتبر الأزهر الشريف أن من يهاجمون الكنائس خارجين عن ملة الإسلام لمخالفتهم لصريح القرآن الذي أمر بالدفاع عن “الصوامع والبيع والصلوات” كما جاء في الآية الكريمة. ففي ذلك ردع لهم وزجر عن تكرار جرائمهم.
ولكن يبدو أن الأزهر “الشريف” مشغول بمهاجمة الملحدين والقرآنيين والمفكرين بدلا عن عرض فكر ديني جديد وقويم يمنع حدوث مثل هذه الجرائم!
وفي هذه اللحظات المهيبة، وأنا أكتب هذه المقالة، وأتكلم عن آلام إخوتي وأخواتي المسيحيين والمسيحيات، أستحضر موقفا جاء عن يوم القيامة حين يسأل الله من قتل طفلة صغيرة بريئة (الْمَوْءُودَةُ) فيقول لها في يوم يجعل الولدان شيبا “وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ” (سورة التكوير آية 8 ـ 9) وأكاد أرى الآن لحظاتِ سؤال هؤلاء المتطرفين أمام الرحمن في يوم الدين، حين تعرض أمامهم بيوت الله التي هدموها، وينادي المنادي لهم أمام الخلائق جمعاء فيسألهم ـ وهم يرتعدون من هول الموقف ـ ويقول لهم ” وإذا الكنيسة “سئلت” بأي ذنب “هدمت”!

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.