ميلاد «الديمقراطية المسيحية».. وأحزابها

خليل علي حيدر
كيف ظهرت المسيحية الديمقراطية، وكيف تطورت أحزابها في الغرب؟ وما دور الفاتيكان في ذلك؟ من الممكن فهم «الديمقراطية المسيحية» بوصفها طريقة يستطيع بها المسيحيون، ومعظمهم من الكاثوليك، «أن يواجهوا التحديات السياسية للمجتمعات المعاصرة من جهة، وأن يغتنموا ما تتيحه لهم هذه المجتمعات من فرص من جهة أخرى». ويرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة فلورنسا بإيطاليا، «د. ماريو كاسياجلي»
Caciagli،
أن الديمقراطية المسيحية مرت بثلاث مراحل. كانت الأولى استجابة الكنيسة لظهور حركات سياسية جماهيرية أثارت «القضية الاجتماعية» في إطار علماني أو اشتراكي، ثم أصبحت الديمقراطية المسيحية تتفق مع محاولة الفكر السياسي الكاثوليكي التوفيق بين الكاثوليكية والدولة التعددية الديمقراطية.
وأخيراً تحولت الديمقراطية المسيحية إلى شكلها السائد والناجح للكاثوليكية السياسية، وهو المبدأ الذي اختاره الكاثوليك الذين تقبلوا التنافس الحر على السلطة، مع محاولة تنفيذ برامج. «الفكر السياسي في القرن العشرين، الجزء الأول، موسوعة كمبردج للتاريخ، تيرنس بول، – ريتشارد بيلامي
Ball – Bellamy،
ترجمة مي مقلا، القاهرة، 2009، ص 231».

ويضيف الباحث «كاسياجلي»، أن مصطلح الديمقراطية المسيحية ظهر على المشهد السياسي الأوروبي أول ما ظهر، في نهاية القرن التاسع عشر، ويعد الراهب الفرنسي «دي لامينيه»
de lamennais،
الذي خلعه البابا من المجتمع الكنسي بسبب أفكاره، أحد الآباء المؤسسين للديمقراطية المسيحية، حيث كان دي لامينيه «أول من افترض تفسيراً سياسياً، وليس لاهوتياً، لمسيحية العهد الجديد في اتجاهاتها الديمقراطية والاجتماعية والثورية، وجعل لامينيه للناس دوراً محورياً في السياسة، مقراً القيمة العليا للديمقراطية ومحدداً القيمة العليا للديمقراطية ومحدداً مصدر التشريع السياسي في السلطة السياسية، وجاعلاً من إصلاح النظام الانتخابي الشرط الأساسي والمبدئي للجميع، لتنظيم منافسة سياسية حرة والمشاركة بها».

ويعتبر الباحث أن أول تدخل مباشر للكاثوليك في السياسة ذا أثر مهم، كمؤشر للديمقراطية المسيحية، تمثل في كتابات ومواعظ أسقف مدينة «مينز» الألمانية، «فون كيتلر»
(1811 – 1877) WILHELM VON KETTELER
الذي انحاز بقوة للفقراء والعمال، وتحدث في خطبه عن المشاكل الاجتماعية والسياسية، وكان عضواً في برلمان فرانكفورت وكذلك في البرلمان الألماني لاحقاً أي «الرايخستاج»، كما اشتهر باعتراضه على عصمة البابا، وقد عرض أفكاره الدينية والاجتماعية في كتابه «مشكلة العمل والعمال والمسيحية
Die Arbeiterfrage und das Christen hum، 1864


الذي جذب بقوة اهتمام الكنيسة الكاثوليكية بمشاكل العمال وظروفهم. «أنظر الموسوعة البريطانية، ج ق، ص 775».
شارك الأسقف «كيتلر» كذلك في «حزب المركز»
Zentrum
في بروسيا، وهو الحزب الكاثوليكي الذي قدر له أن يلعب دوراً محورياً ومركزياً في المعارك السياسية ما بين الحربين، وسرعان ما تقبل الألمان الحاجة إلى المشاركة في الحياة السياسية وإلى مشاركة الجماهير في نظام سياسي دستوري، سابقين في ذلك نظرائهم الإيطاليين والفرنسيين. وقد نجح حزب المركز أو الوسط
Zentrum – Centre
نفسه، يقول «كاسياجلي»، بين الدفاع الصارم عن المبادئ الكاثولكية والاستقلال السياسي عن روما. وقد نجح قائد الحزب في تحويله إلى حزب برلماني دستوري غير كنسي من أجل التكامل الاجتماعي.
كان «حزب الوسط» براجماتياً، و«كان برنامجه يتضمن العدالة بين مختلف الجماعات الدينية، وحماية القيم والمؤسسات الكاثوليكية، وتوفير لا مركزية فيدرالية في الدولة، وفوق كل ذلك كان يقترح حل المشكلة الاجتماعية عن طريق الموازنة بين مصالح الرأسماليين وأصحاب الأرض والعمال، وحماية الطبقة البرجوازية المتوسطة والفلاحين الذين اهتمت جميع أحزاب الديمقراطية المسيحية المستقبلية بأمورهم».
شهد عهد البابا ليو الثالث عشر
Leo Xlll
مولد الديمقراطية المسيحية، حيث تولى البابوية ما بين 1878 – 1903. وكان «واسع الثقافة عميق الإيمان عظيم الثقة»، كما تصفه الموسوعة الكاثولكية الحديثة
The Modern Catholic Encyclopedia،
وتضيف الموسوعة أن البابا سعى مخلصاً لفهم العالم الحديث، فشجع التعليم ودراسة علوم الفلك والعلوم الطبيعية في الفاتيكان، وفتح الأرشيف الضخم لكل باحث جاد. وبذل كل ما بوسعه من جهد للتفاهم مع الحركة المعادية للبابوية في ألمانيا
Kulturkampf
والمهاجمة للكاثوليكية بقيادة مستشارها «أوتوفون بسمارك» خلال عهد البابا السابق بيوس التاسع.
كما عمق التفاهم مع فرنسا والجمهورية الثالثة وبذل جهوده لإقناع الكاثوليك في فرنسا بتقبل النظام الجمهوري.
غير أنه كان مرتاباً إزاء «الديمقراطية» وتأثيرها على إدارة الكنيسة، وحارب جهود الكاثوليك الأميركيين لإدخال تعديلات على مذهبهم وكنائسهم كي تكون أقرب إلى الثقافة الأميركية وأكثر قبولاً. وكان ليو الثالث عشر كذلك شخصية دولية بارزة أضاف الكثير إلى مكانة البابوية أكثر من أي بابا منذ العصور الوسطى. كما كان يلقب ب «بابا العمال»، وكانت توجيهاته الاجتماعية، كما تقول الموسوعة نفسها «تحدياً عظيماً لكارل ماركس والرأسمالية المنفلتة على حد سواء». وكان منشوره البابوي
Rerum Novarum
الذي حدد مسؤولية كل من الأسرة والملكية الخاصة وحمايتها من تدخل الدولة، وكذلك حقوق العمال من أهم وثائق الكنيسة الحديثة، حيث طالب بضرورة تدخل الدولة لحماية حقوق العمال وبخاصة في تأسيس النقابات.
ويقول الباحث «كاسياجلي» إن الكنيسة الكاثوليكية، بعد أن رفضت كل المستحدثات الأيديولوجية للقرن وأدانتها على مدى عقود، أخذت منعطفاً جديداً تحت زعامة البابا «ليو الثالث عشر»، ففتحت أبوابها لمجموعة من الأفكار والمبادرات اليانعة التي بزغت تحت مسمى الديمقراطية المسيحية، فقد أصبح المرسوم البابوي الصادر عام 1891 بمثابة بيان رسمي للكاثوليكية الاجتماعية وعلامة فارقة في تحول البابا، إذ «أكد هذا المرسوم الوظيفة الاجتماعية للملكية وعهد إلى الدولة بمساندة وتحفيز الازدهار العام والخاص عند الضرورة، كما استنكر الصراع الطبقي، ولكنه اعترف في الوقت نفسه بأن للعمال الحق في تنظيم أنفسهم. كذلك أيّد المواقف الصادرة عمّا يسمى «الكاثوليكية الاجتماعية»، وقام بتشريعه، موضحاً مسلكاً ثالثاً بين الليبرالية والاشتراكية». ويقول الباحث «سكوبولا» في كتاب صادر عام 1972، إن البابا أراد «أن يكون تواجد الكنيسة في المجتمع قائماً لا على أساس التحالف مع الحكومات فحسب، ولكن على مساندة الناس كذلك، وكان القبول بالديمقراطية وإدراك حقوق العمال بمثابة الاشتراكات المبدئية للاتجاه الجديد». وهكذا ظهرت الركيزة الأساسية لكل من «الكاثوليكية الاجتماعية» و«الديمقراطية المسيحية» بعد ذلك.. كما سنرى!

* نقلا عن “الاتحاد”

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.