الطغيان الذي يسود المجتمع هو طغيان الصيغة

الجزء التاسع عشر
***********************
يومها قهقه فيصل القاسم عرّاف الثورة السورية، وصرخ كذئب جائع يعوي: اجرينا استفتاءا
١٠٪ فقط…. فقط صفوا معك، و٩٠٪ ضدك…ضدك… وقفوا مع ضيفنا الشيخ! وببرودة أعصاب قلبت الطاولة فوقه وبعثرت كل أوراقه ماخفي منها وما ظهر: ١٠٪ معي؟؟؟ يا لها من نسبة رائعة…نسبة رائعة ستفائلني دائما….
….
عندما تصرخ ولأول مرّة في تاريخ أربعة عشر قرنا من الزمن، عندما تصرخ في مقبرة ويستطيع صراخك أن يُحيي ١٠٪ من الموتى في تلك المقبرة، تتستحق بعض المصداقية…. وعندما لا يمنحك اياها أحد اعطها لنفسك! إذ يجب أن تكون أول من يمنح نفسك استحقاقا لأي انجاز. ولا يهم إن بقيت وحدك من تشجع نفسك، عندما تعرف أنك مازلت تصرخ ومازلت تحي المزيد
من الموتى….
بعد ثلاثة عشر عاما لم تبق النسبة نفسها، بل هي متوالية هندسية وأتوقع أن يعرف قرائي مامعني المتوالية الهندسية! ومازلت أنا لم أتغير يحدوني تفاؤل بالمستقبل البعيد ـ إن لم يكن القريب ـ ويأخذني من إنجاز إلى آخر…. ماقلته يومها ومن على أكبر منبر اعلامي اسلامي في التاريخ، مازلت أقوله اليوم وبنفس القوة وبنفس الوضوح وبنفس الصراحة: (الخلل ليس في المسلمين، وإنما يتجذر عميقا في تعاليمهم هم ضحايا، وعلينا انقاذهم)!! يومها كانت حروب الردة ـ ولم تزل ـ مشتعلة وسيف أبي بكر الصديق
لن يرحم وفاء سلطان حتى ولو تعلقت بحبال الكعبة ـ كما ورد في موقع اسلامي معروف في ذلك الحين ـ اليوم خفّ الخطر ـ ولو قليلا ـ لأنهم مشغولون بقطع رقاب بعضهم البعض ليس هذا وحسب، بل صار هناك آلاف يمشون على خطى وفاء سلطان ضاعت الطاسة، واحتاروا رقبة من يقطعون، وخصوصا بعد أن وصل الخطر إلى جدران الكعبة!!
…………………


تذكرت ذلك الحدث وأنا أرد على رسالة وصلتني على الخاص. للأسف وصلت من “صديق” افتراضي، وهو دكتور جامعي سوري، ظن أن شهادته الجامعية تمنحه الحق أن يسمي نفسه مثقفا. أحترم كل شخص يعقب على مقالاتي مهما اختلف معي
حتى ولو شتمني. أحترمه طالما يكتب تعقيبه على الصفحة العامة، ويعطيني فرصة أن ارد وادافع عن نفسي. أما هؤلاء الذين يمطروني بنفاقهم وانحطاطهم على الخاص، وأخصّ بالذات هؤلاء المتعمشقين على سارية النخبة “المثقفة” والذين يحشرون أنفسهم بشق الأنفس تحت مظلة الثقافة. احتقرهم جدا جدا، لأنهم جبناء وأجبن من أن يعطوني نصائحهم على الصفحة العامة….
…..
كتب في رسالته أنه وبطريقته “الرائعة” يغيّر الملايين، لا أعرف أي ملايين يقصد ربما سكان الغوطة، من يدري؟؟ أما وفاء سلطان وبحملها للسيف ـ على حدّ تعبيره ـ لا تغير أحدا… أنا لا أحمل سيفا، بل مشرطا والفرق كبير السيف يقطع رقابا، والمشرط يستأصل الأورام من الأدمغة ويطهرها من سرطانها الخبيث. هذا من جهة ومن جهة أخرى أنا لست محمديّة كي أحمل سيفا،
فلقد ولدت وقلمي تحت جنحي….
……….
إن أكبر جريمة اُرتكبت بحق هذه الشعوب اليائسة والميؤوسة هي جريمة ارتكبها بحقها “مثقفوها”، لأنهم لم يفعلوا شيئا إلا أنهم عززوا وكرسوا الصيغة العامة للمعادلة، تلك المعادلة التي كان الواقع الحالي محصلتها…. أوهموا الجموع بانهم خريجو جامعات، ويملكون مفاتيح المستقبل. وكل مافعلوه أنهم دفشوا تلك الجموع قرونا إلى الوراء….
………….
في كتابه “تجديد الذات” وهو يقصد هنا الذات الشخصية والجمعية يقول المفكر الأمريكي:
John W. Gardener

The tyranny of mass society is not a matter of one man’s foot on another man’s neck. It’s the tyranny of the formula
(الطغيان الذي يسود المجتمع ككل ليس قضية شخص يدوس بقدمه على رقبة شخص آخر إنه طغيان الصيغة….) نعم طغيان الصيغة التي بلورت المجتمع على مدى زمن طويل، والتي تتجسد في العادات والتقاليد والعقائد…. هي وحدها ـ وليست الأنظمة السياسية ـ التي أنجبت الطغاة! تلك الصيغة، وحسب رأي الشخصي، تحشر جميع البشر في قميص واحد، وتمنع أحدا من أن
يتميّز عن القطيع ويمارس فرديته. مع الزمن تصل بالجموع إلى حد لم يعد عنده همّ الشخص أن يخرج عن القطيع ويجدّد ذاته، بل همه الأكبر أن يمنع غيره من فعل ذلك…
……..
ذلك الأمر الذي يذكرني بطرفة رواها لي صديق ايراني: كان الله يتمشى في شارع الشانزلزيه في باريس عندما رأى فرنسيا يبكي، فسأله: لماذا تبكي يا بني؟ رد الفرنسي: جاري يملك بيتا كبيرا في هذا الشارع، وأنا لا أملك واحدا مثله. سأله الله: وماذا تريدني أن أفعل؟
رد الفرنسي: أن تمنحني واحدا مثله!
فلبى الله طلبه.
مرة أخرى كان الله يتمشى في أحد شوارع واشنطن، فرأى أمريكا يبكي
ـ لماذا تبكي يا بني؟
ـ جاري يملك سيارة “هامر” وأنا لا أملك سيارة مثلها.
ـ وماذا تريدني أن أفعل؟
ـ أن تمنحني سيارة مثله!
فلبى الله طلبه.
مرة ثالثة كان الله يتمشى في أزقة مكة فرأى مسلما يبكي. ـ لماذا تبكي يا بني؟
ـ جاري يملك جملا وأنا لا أملك واحدا.
ـ وماذا تريدني أن أفعل؟
ـ اقتل له جمله!!!
إلى هنا وتنتهي الطرفة…. لكنني أود أن اضيف: فرمقه الله بنظرة سخط ، ثم قرر أن يصحّر له حياته وقد فعل!!!
….
الإنسان بطبيعته البشرية ميال لأن يفرح عندما يشجعه الناس ويربتون على كتفه ولكن، تحت أي ظرف، اياك أن تنتظر أحدا كي يثني على انجازاتك قبل أن تأخذ الخطوة التالية. تذكر أنك تعيش في مجتمع تحكمه ثقافة بدوية، تبرمج انسانها على أن يحوّل أخضر الأرض يباسا قبل أن يتركها، تلك العقلية الرعوية تسيطر على انسان ذلك المجتمع، ذلك الإنسان الذي ينتشي فرحا لا عندما ينجح، بل عندما يفشل غيره… ويسربله الحزن لا عندما يفشل، بل عندما ينجح غيره…..
……
الذين تنازلوا عن أحلامهم يتطلعون دوما ليدفنوا حلمك….. المفكر الروحاني الأمريكي واين داير يقول:
Don’t die with your music still in you
(إياك أن تموت وموسيقاك مدفونة في داخلك)
وأنا كذلك، لن أموت قبل أن اُخرج آخر كنز من مكنوناتي، حتى ولو كره الحاسدون. وعندما لا أجد من يربت على كتفي سأصفق لنفسي!!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to الطغيان الذي يسود المجتمع هو طغيان الصيغة

  1. Dr Moh says:

    قصه حقيقيه على علاقه بالموضوع. كنت في مشفى بالرياض وكان هناك الكثير من المصريين اصحاب الدكتوراه ،والتى تعطى في مصر الابيه مقابل لاب توب او اونصه ذهب او اقل من ذلك احيانا احد الزملاء طالب باضافه على راتبه لانه علم ان احد ياخذ ٢٠٠ ريال شهريا اكثر منه مهددا بالاستقاله فقالت له شؤون الموظفين استقل لا مشكله فبدا يتراجع ويفلسف الطلب والامور حتى طلب
    اخيرا ان ينقص راتب زميله عنه ولو ريالين ليكون سعيدا. نسيت كيف انتهت القصه انما نفس الفكر المريض من ثقافه الصحراء الملعونه.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.