مأزق القراءة الحرفية للقرآن والأحاديث (1)

بقلم بابكر فيصل بابكر/
من أكبر الإشكاليات التي تقف في وجه تطوير الخطاب الإسلامي من أجل مواكبة العصر وبلوغ النهضة الحضارية وجود مدارس فقهية كثيرة تعارض الدعوة إلى ضرورة الاجتهاد في قراءة نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية وتكتفي بالقراءة والتفسير الحرفي لتلك النصوص.
وينبني رفض الاجتهاد على مقولة أن القرآن “صالح لكل زمان ومكان”، وهي مقولة لا يعارضها دعاة التجديد وإنما يؤكدون أنها تنطبق في الأساس على القضايا المتعلقة بالعقيدة والعبادات والتي هي بطبيعتها قضايا عابرة للتاريخ، بينما المعاملات أمر متحرك ومتغير وبالتالي فإن الصلاحية المتعلقة بها ترجع للمقاصد وليس للأحكام النصية.
الظرف التاريخي الراهن يفرض على المسلمين العودة لأحكام آيات الأصول واستبعاد آيات الفروع
ومن أجل غلق الباب أمام أي محاولة للتجديد وإرهاب كل من تسول له نفسه فتح باب الاجتهاد مرة أخرى اخترع الفقهاء قاعدتين في غاية الخطورة هما: “إنكار المعلوم من الدين بالضرورة” و”لا اجتهاد مع نص”.
إن قاعدة “إنكار المعلوم من الدين بالضرورة” هي قاعدة غير مضبوطة وغير متفق عليها ويسهل تفسيرها حسب الهوى. ولا توجد في القرآن قائمة تحدد ما هو ذلك المعلوم من الدين بالضرورة، ولا توجد تلك القائمة كذلك في كتب الفقهاء، حيث أن لكل فقيه أمورا يدرجها في هذا الإطار، وهذه الأمور تختلف من فقيه لآخر.
أما قاعدة “لا اجتهاد مع نص” فهي لا تختلف كثيرا عن سابقتها، فهي من ابتكار الفقهاء ولم يقل بها القرآن أو الرسول، ولا يوجد لها سند في الممارسة في أقرب العهود زمنا ومعرفة بالقرآن والسنة لعهد الرسول، وهو حكم الخلفاء الراشدين.
حيث اجتهد الخليفة الثاني عمر ولما يمضي على رحيل الرسول ست سنوات، وكان اجتهاده مع نصوص واضحة وأوامر إلهية، كما حدث في إلغائه سهم المؤلفة قلوبهم رغم قول الله تعالى في سورة التوبة “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم”.


وقد اجتهد الخليفة عمر كذلك في أمور مخالفا الرسول كما فعل في متعتي الحج والنساء عندما قال: “متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء”. وكذلك اجتهد في موضوع توزيع غنائم أراضي سواد العراق، عندما قال: “لولا أني أترك الناس يبابا لا شيء لهم ـ ما فتحت قرية إلا قسمتها، كما قسم رسول الله خيبر”.
وبسبب هاتين القاعدتين يقع الرافضون للاجتهاد في مأزق التناقض مع التطورات الزمانية والحقائق العصرية المستجدة، ويتجلى هذا المأزق في أوضح صوره عند النظر في قضية الجهاد وما يترتب عليها من موضوعات الرق والعبودية وملك اليمين، وكذلك قضايا تعدد الزوجات وحجاب المرأة وعلاقة المسلم بالآخر المختلف وغيرها من القضايا التي باتت تشكل حجر عثرة في طريق النهضة الحضارية ومواكبة العصر.
فمن المعروف ـ على سبيل المثال ـ أن القرآن لم يحرم الرق تحريما قاطعا ولكنه شجع وحض على عتق العبيد، وقد عرف المجتمع الإسلامي تلك الممارسة في الغزوات والفتوحات، وكانت للمسلمين أسواق لبيع وشراء العبيد، وقد أقامت الشريعة الإسلامية قواعد التعامل مع الرقيق وفصلت فيها كتب الفقه تفصيلا دقيقا.
وبمرور الزمن، ومع التطور الكبير الذي أصاب المجتمعات الإنسانية حدثت تحولات كبيرة في موضوع الرق أدت إلى إلغائه إلغاء تاما.
هذه المستجدات العصرية تطرح سؤالا حاسما: هل يستمر المسلمون في الانصياع لقاعدتي “إنكار المعلوم من الدين بالضرورة” و”لا اجتهاد مع نص” وبالتالي تبني أحكام الآيات التي تتحدث عن الجهاد والرق والمرأة وغيرها باعتبار صلاحيتها لكل زمان ومكان أم يجب عليهم الاجتهاد لإيجاد قراءة أخرى لتلك الآيات؟
في هذا الإطار طرح المفكر السوداني “محمود محمد طه” الذي أعدم بتهمة الردة في عام 1985 اجتهادا جديدا في قراءة نصوص القرآن والسنة، وقد ضمن اجتهاده هذا في كتابه الموسوم بـ”الرسالة الثانية من الإسلام”.
يقسم الأستاذ طه آيات القرآن إلى قسمين: آيات الأصول وآيات الفروع، ويقول إن الآيات التي نزلت في مكة المكرمة هي أصل القرآن “آيات الأصول”، فهي تدعو للتسامح والعفو وعدم الإكراه وحرية اختيار العقيدة، ومن أمثلتها “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” و “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”.
لم يحرم القرآن الرق تحريما قاطعا ولكنه شجع وحض على عتق العبيد
ويوضح أن القوم الذين نزلت عليهم الدعوة لم يستجيبوا لها وحاربوها حربا شعواء، بل إنهم سعوا لقتل الرسول مما اضطره للهجرة إلى يثرب، ومن هنا ظهرت الحاجة لنزول آيات الفروع، وهي آيات الجهاد من شاكلة “قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”.
ويقرر طه أن نزول آيات الفروع لم يكن معناه نسخ أحكام آيات الأصول، بل كان مجرد “إرجاء” لتلك الأحكام، وسبب هذا الإرجاء من وجهة نظره هو ضرورة مراعاة حاجة المجتمع وطاقته آنذاك. ويؤكد طه أن آيات الفروع كانت تناسب ظروف القرن السابع الميلادي، وينفي أن تكون آيات الأصول قد نسخت بصورة نهائية لأن ذلك سيعني نسخ الأفضل بما هو أقل منه.
ويقول طه إن الأحسن في الشرائع ليس أحسن في ذاته، بل إن حسنه يقاس بمدى ملائمته لظرفه التاريخي، ولذلك فإن آيات الفروع كانت الأحسن في ذلك الزمان لأنها تتناسب مع الواقع وهو الأمر الذي دعا لإرجاء العمل بأحكام آيات الأصول.
ومن ناحية أخرى يؤكد طه أن الظرف التاريخي الراهن يفرض على المسلمين العودة لأحكام آيات الأصول من جديد واستبعاد آيات الفروع التي استنفدت أغراضها بالكامل ولم تعد تلائم الواقع، ويقول إن آيات الأصول التي تم إرجاؤها هي وحدها القادرة على استيعاب طاقات الحياة المعاصرة وحاجاتها.
لا شك أن الاجتهاد الذي قدمه الأستاذ طه في قراءة نصوص القرآن والسنة يفتح الباب على مصراعيه للمسلمين لدخول العصر وتجاوز العقبات الكثيرة المرتبطة بالقراءة الحرفية للنصوص والتي تمنع العقل المسلم من ارتياد آفاق التقدم وهي العقبات المسؤولة عن توليد نزعات العنف والتطرف وتحجيم دور المرأة في المجتمع وتعزيز الكراهية للآخر غير المسلم.

شبكة تلفزيون الشرق الأوسط

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.