لا يستطيع إنسان على سطح الأرض أن يسامح جلاده مالم يعترف ذلك الجلاد بجريمته

الجزء الثاني عشر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترك صديق سوري تعليقا على بوستي السابق، صديق من هؤلاء الذين أتوسم فيهم خيرا وخصوصا لأنه طبيب. جاء في تعليقه بما معناه: أنا لست مع نشر هذه الأحداث في هذا الوقت بالذات، مع احترامي لك كمثقفة. نحن بحاجة إلى التسامح والوئام ولم الشمل علنا نستطيع إعادة بناء سوريا… والتركيز على احترام الإنسان بغض النظر عن تفكيره وانتماءه!!! وتابع يقول، وعبارته الأخيرة تلك كانت القشة التي قصمت ظهري،: (لا يجب نبش الماضي السيء حتى ولو عرفناه)
قصمت عبارته الأخيرة ظهري، لا لأنها كانت أقوى مما احتمل ظهري، بل لأن قائلها طبيب!!
*******************
الطبيب هو نائب الإله على الأرض، لأنه ملمّ ببواطن النفس البشرية، وفظاعة الألم ومدى تأثيره على تلك النفس….. أو هكذا يُفترض أن يكون! لا أحد من البشر يستطيع أن يشهد على عذابات النفس البشرية وآلامها أكثر منه، ولا أحد يستطيع أن يقدم بلسما للعلاج بكفاءة تفوق كفاءته…. أو هكذا يُفترض أن يكون…. لكن، على ما يبدو ـ وللأسف الشديد ـ حتى الاطباء في سوريا قد فقدوا بوصلتهم العلمية والأخلاقية!
…..
يريدني أن لا أنبش الماضي السيء؟؟ يريدني أن أعالج دملا متقيحا دون فتحه وتنظيفه؟؟ هو قد لا يدري أن ماضي أي بلد هو اللاوعي الجمعي لهذا البلد… وقد لا يدري أنه لا يستطيع أن يعالج مريضا نفسيا إلا بنبش وتنظيف اللاوعي عنده، وما ينطبق على الشخص المريض ينطبق على البلد المريض!
……….
هناك جريمة تفوق في فظاعتها أية جريمة أخرى، ألا وهي أن تطالب المظلوم بالتسامح قبل أن تعترف بالجريمة التي ارتكبت بحقه؟؟؟ عندما تعترف بتلك الجريمة، تكون قد مشيت نصف الرحلة باتجاه علاجه، وتحضيره لأن يغفر ويسامح. عندما ندفش أوساخنا تحت السجادة ونتوهم أن البيت نظيفا، نكون قد ساهمنا في خلق مزارع جرثومية تستطيع أن تخترق أسمك وأغلظ أنواع السجاد، لتنتشر لاحقا في البيئة وتسبب أمراضا أشد تعقيدا عندما يتعلق الأمر بالتشخيص والعلاج من الأوساخ نفسها.
…………..
لا أكتب حرفا، إلا من منطلق التزامي بأمانتي العلمية والطبية، وبحسي الاخلاقي, ذلك الحس الذي يحدد ماذا أكتب ومتى أكتب!
ذلك الحس الذي يؤكد لي أن أفضل وقت لفعل ما ـ يجب أن نفعله ـ هو هذه اللحظة بالذات، وليسس اللحظة التي تليها.
فعل ماهو واجب لا يؤجل، وكذلك قول الحقيقة يجب أن يكون مرهونا باللحظة الآنية، ليس إلا! والاعتراف بالحقيقة هو بداية الطريق لحل أي مشكلة، ناهيك عن كارثة
……..
لا يستطيع إنسان على سطح الأرض أن يسامح جلاده مالم يعترف ذلك الجلاد بجريمته، أو على الأقل يجب على المثقف أن يعترف بها، عندما يأخذ على عاتقه حل المشكلة بغية تجاوزها والمشي باتجاه المستقبل… هنا لا تختلف مهمة المثقف عن مهمة المعالج النفسي. فأنت تعالج بلدا عليلا تماما كما تعالج مريضا سقيما!
ماهي مهمة المعالج النفسي عندما يواجه مريضا معتلا نفسيا؟ ترتكز تلك المهمة على دعامتين:
الأولى: السماح ـ وبدون أي اعتراض ـ السماح للمريض أن يروى قصته ويعبر بحرية مطلقة عن مشاعره. مع الوقت، وعندما تتوثق ثقته بطبيبه، يملك المريض مدخلا إلى اللاوعي عنده، فيفقد الضوابط الاجتماعية والعرفية التي تمنعه عادة من الولوج إلى حيز اللاوعي، ويبدأ عندها بكشف الغطاء عن كل الاوساخ التي تراكمت تحت سجادة اللاوعي. لا يتدخل الطبيب او المعالج في الأمر إلا عندما يشعر بان المريض قد وصل إلى نقطة وأراد أن يتراجع عندها، تجنبا للألم الناجم عن الاسهاب في الحديث عنها. عندها على الطبيب أن يتدخل ويطرح عليه من الاسئلة مايخفف حدة الألم ويساعده في الاستمرار.
لا يستطيع مريض على سطح الأرض أن يشفى من أي شعور سلبي مالم يعبر بحرية عن هذا الشعور
الدعامة الثانية: هي أن يقوم الطبيب بـ (شرعنة مشاعر المريض)، وأقصد هنا الترجمة الحرفية لعبارة
Validation of one’s feelings
سأحاول أن ابسط الشرح قدر الامكان: المشاعر البشرية هي شخصية وليست موضوعية
Subjective vs Objective
بمعنى أن المشاعر ملك للشخص نفسه ، ولا تستطيع أن تعقلنها أو تقيسها وفقا للمنطق. قد تشتم شخصين, واحد يستضرط الأمر ويمشي، والثاني يموت قهرا!
هل تستطيع أن تقول للشخص الذي تأثر: لماذا تأثرت؟؟ يجب أن لا تتأثر, انظر إلى فلان إذ لم يهتم بالأمر؟؟؟
طبعا لا، بل الأفضل أن تقول: لقد شعرت بألمك من جراء تلك الشتيمة وأنا أتفهم ذلك, هذا يسمى في علم النفس “شرعنة المشاعر” أي الاعتراف بحق المريض أن يملكها…. من أنت لكي تتغاضى عن ألم مريض؟ ناهيك على أن تأمره بأن ينسى ويسامح؟؟؟؟
………….
نحن أمام شعب مدمر نفسيا وعاطفيا وعقليا وجسديا وعلى كل صعيد آخر… والتدمير لم يحدث من جراء الحرب وحسب، بل على مدى عقود وقرون, ليس من حق أي انسان أن يدفش آلام هذا الشعب تحت السجادة ويتوقع أن يسامح من تسبب له بهذا الألم تلقائيا وعفويا…. فهل لك أن تتخيل حجم الجريمة عندما يكون المطالب بذلك طبيبا؟؟؟؟
لا يمكن أن يحدث هذا، من المستحيل أن تلئم جروح أمة بالتغاضي عن الجرائم التي سببت تلك الجروح، والاستهتار بالمشاعر التي نجمت عن تلك الجروح؟ مستحيل ومليون مليون مستحيل…. وخصوصا أننا أيضا ضحايا ثقافة لا تعرف التسامح وتحض على الانتقام, مما يزيد الطين بلة، ويزيد ايضا مسؤولياتنا كمثقفين على معالجة الأمر وفقا لمنهج علمي ومهني وأخلاقي!
……..
يقول المفكر الأمريكي كريس برادي، في كتابه “اطلاق ثورة في عالم القيادة
Launching leadership revolution
يقول
There is an undeniable root and fruit connection between our
heart and our behavior
Change that ignores the heart will seldom transform life.
(لا نستطيع أن ننكر وجود علاقة بين قلوبنا وسلوكياتنا، إنها تماما كطبيعة العلاقة بين الجذر والثمرة.
كل محاولة للتغيير تتجاهل القلب (أي المشاعر) من النادر أن تحدث تبديلا جذريا في الواقع المعاش) بمعنى:
هل تستطيع أن تحسن نوعية الثمار إلا بعلاج الجذر؟ وجذور الناس تمتد إلى قلوبهم……
……………….
سأذكر قصة حدثت معي هذا الصباح، لأنني أعرف أن أغلبية قرائي تستفيد من تجاربي ومن قصصي.
توجهت كعادتي إلى مقهاي المفضل والذي أرتاده كل صباح وعلى مدى سنين طويلة, تفاجئت بإحدى العاملات تقف على الباب وتعتذر لأن المحل مغلق، إذ تعرضوا وبشكل مفاجئ إلى مشكلة في مجارير المطبخ ، وأشارت بيدها إلى أن الفريق المختص
يشتغل لحل المشكلة. اعتذرت بأدب وناولت كل زبون كوبونا بقيمة ٤ دولارات ليشتري به شرابه الصباحي من المقهى الذي يعود لنفس الشركة والذي هو على بعد أقل من ميلين. هل تتصور حجم خسارة المحل لهذا اليوم؟ هو لم يخسر دخله اليومي وحسب، بل خسر أيضا ٤ دولارات لكل زبون ارتاد المقهى, ولم يعثر على ضالته!
وهل بامكانك أيضا أن تتصور الإحباط الذي يصاب به الزبون الأمريكي عندما يتوقف بسرعة البرق ليلتقط فنجانه الصباحي في طريقة إلى العمل، ولا يستطيع؟؟؟ لكل ثانية في حياة الأمريكي قيمة…. لكن الشركة، ولأنه يهمها الزبون، ويهمها مشاعره، ويهمها أن لا تتجاهل احباطه، قررت أن تخسر على حسابها لترضيه…. هكذا هي الحياة، وهكذا يجب أن تعاش! سواء كنت مديرا في شركة أو ربّا لمنزل أو قائدا لبلد عليك أن تأخذ بعين الاعتبار مشاعر الناس الذين أنت مسؤول عنهم…
عليك أن تعترف بحقهم بامتلاك تلك المشاعر، وأن لا تستهر بها… وإلا فأنت حتما مدير فاشل، أو رب بيت فاشل، أو قائد فاشل!!
سبعة سنوات من حرب طاحنة، لم يخرج بها هذا “القائد” ليعبر لشعبه عن ألمه وأسفه لما حصل ويحصل، في محاولة لتحفيزهم على نسيان الماضي والتطلع إلى المستقبل… فكيف تمتلكون من الجرأة ما يكفي لتسألوا هذا الشعب أن يسامح؟؟؟
……
لا شك أن لنبش الأوساخ من اللاوعي الشخصي، وكذلك من اللاوعي الجمعي سلبياته… هل بامكانك أن تتخيل حجم البلبة التي تخلقها في عائلة المريض عندما تتوصل من خلال نبش اللاوعي عنده على أن سبب ألامه هو اعتداء أحد أعمامه جنسيا عليه؟
تماما، قد تخلق نفس البلبلة في شعب عندما تنبش ماضيه ، وبالتالي اللاوعي الجمعي عنده. ولكن تحت أي ظرف لا يمكن لسلبيات تلك البلبلة أن تتجاوز ايجابياتها… لذلك، تقتضي الأمانة المهنية والأخلاقية عند المثقف أن يلعب هذا الدور بكل جرأة ووضوح, فكيف والمثقف في تلك الحالة طبيب؟؟؟
هذا ما أفعله تماما، غير آبهة بكل ما قد يترتب على ذلك من سلبيات، يحدوني ضمير مهني علميّ نقي ومتحرر من كل شائبة….
من كل شائبة القتها في جعبتي ثقافة صحراوية قاحلة، تجهل بواطن النفس البشرية وفظاعة آلامها، ناهيك عمّا تجهله عن علاجها وتضميد جروحها!
……………
أعزائي القرّاء: هذا البوست دخيل على سلسلة المقالات التي تتناول الوضع في سوريا وفي كل بلد آخر من هذه البلدان الجهنمية… ولد البوست البارحة ردا على أحد التعليقات… أتمنى أن تستمتعوا به مع خالص محبتي

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.