الحياة كلها أحداث وتجارب منذ أن تبدأ وحتى تنتهي… ولكن؟؟؟ أتساءل: لماذا بعض الأحداث أو التجارب تعلق في ذاكرتنا أكثر من غيرها، علما بأننا لا نستطيع أن نرى فيها ما يميّزها؟؟ في مقتبل حياتي العملية كطبيبة في سوريا، كنت أقضي خدمتي الريفية في قرية تدعى “كنسبا” في شمال مدينة اللاذقية… أحد الأيام وفي منتصف الليل سمعت وزوجي طرقا على الباب وصياحا “دخيلك يا دكتورة وفاء، أم فاخر عم تموت” أسرعت بثياب النوم وغادرت البيت مع أبي فاخر وحقيبتي الطبية في يدي… كان التشخيص المبدأي “التهاب مرارة حاد” أعطيت السيدة أم فاخر حقنة وريدية من مضادات الألم، وراقبتها حتى استسلمت للنوم.. أكدت لزوجها ضرورة أن يأخذها في الصباح الباكر إلى المستشفى لإجراء الفحوصات اللازمة لها..
وهممت بالخروج… على الباب رأيت طفلتها، التي لم تكن تبلغ العاشرة من عمرها على أبعد تقدير، تقف والدموع تنهمر سيلا من عينيها.. طبطبت على كتفها: حبيبتي لا تخافي، الماما بخير، وغدا سنجري لها كل الفحوصات اللازمة… رفعت الطفلة يديها كناسك يصلي، وقالت بصوت طفولي ملائكي: يارب يا دكتورة وفاء يبعتلك في كل خطوة سلاما وآمانا…
………..
سلام وأمان في كل خطوة؟؟؟؟ عبارة رافقتي طيلة الخمسة وثلاثين عاما الأخيرة من حياتي… رافقتني خطوة خطوة، وهي تمطرني في كل خطوة بقناعة أن الخطوة التي تليها أفضل منها… صوت تلك الطفلة دوى في حياتي خلال كل لحظة خلتها مأزقا…. دوى داخل رأسي، وكأنه خرج لتوه من حنجرتها، ليبرهن لي بأن المرور في مأزق لا يعني الوقوع فيه… صارت عبارتها تلك المانترا التي تقودني نحو الأفضل…
(المانترا حسب الديانة الهندوسيّة عبارة ترددها حتى تصبح طريقة حياتك)
لا أعتقد أن إنسانا في التاريخ تلقى من الدعوات الطيبة والأمنيات الجميلة أكثر مما تلقيت، ربما من ملايين الناس بما فيهم أمي واقرب الناس إليّ… لكن لسبب لا أعرفه ظلت صلاة تلك الطفلة مانترا حيّة استقرت في الوعي وفي حيز اللاوعي عندي…
……………….
الحدث الآخر الذي التصق بذاكرتي وصار جزءا آنيا من تفكيري.. وقع قبل سنين كثيرة من حادثة أم فاخر.. لم أكن على أبعد تقدير أتجاوز الخامسة من عمري… كنت منذ طفولتي المبكرة صوتا قويا وجهورا، وكان أقرب النشاطات إلى قلبي أن أمارس فن الخطابة علما بأنني لم أكن يومها أدري ما أقول! رحت أمتطي سورا من الحجارة يحيط ببيتنا وبدأت كالعادة بإلقاء خطاباتي، ويداي ترقصان في الهواء، بعزيمة تضاهي عزيمة ياسر عرفات عند كان يخطب ويعد بتدمير اسرائيل! أذكر ذلك وكأنه حدث البارحة… في غمرة انفعالاتي ووسط الحمم التي كانت تنطلق من بركان خطابي، رأيت سيدة في مستهل شبابها تحمل طفلها بيدها، تقف على شرفة الجيران وتراقبني بدهشة.. لم أعد أذكر شيئا عن تلك السيدة سوى أن اسمها “أم لؤي” وجاءت لتعيش في مدينتنا من مدينة الحسكة، لأن زوجها كان يقضي خدمته العسكرية في منطقتنا، وكانا قد استأجرا غرفة في بيت الجيران..
راحت تراقبني بدهشة، ثم قالت تحدث جارتنا: إذا كانت هالطفلة قوية هيك في طفولتها، شو بتتوقعي منها لما تكبر! بسرعة البرق وقفت على حافة السور، وضعت يديّ على خصري وهززت جسدي (الذي كان يومها أصغر من أصغر دجاجة في قننا اليوم)، وصحت بأعلى صوتي: رح صير مديرة ورح خلي كل الدنيا تسمع فيني! ربما لأن وظيفة مدير المدرسة كانت أعلى منصب في ذلك الوقت في مدينتنا الصغيرة!
انبهرت السيدة وصاحت: اسم الصليب…عفاك يا شاطرة، بيطلعلك! (بيطلعلك باللهجة السورية تعني مؤهلة لذلك)
……….
لم أصبح مديرة، ولا أجيد فن الإدارة، وأكبر دليل على ذلك أكوام الأوراق والوثائق التي تملأ مكتبي وتكاد تقبرني داخلها..
لكنني تمسكت بموقفي وأصريت أن أصل بصوتي إلى العالم كله… ولقد وصلت! دهشة أم لؤي وعبارتها ـ عفاك يا شاطرة، بيطلعلك ـ لعبت هي الأخرى دورا إيجابيا في حياتي….
…….
عزيزي القارئ: كن حذرا، فكل كلمة تنطقها قد تعلق في مكان ما من ذاكرة شخص ما… وقد تدمره أو تصنع منه مديرا، دون أن تدري الدور الذي لعبته كلمتك تلك في دينامكية الكون، هذا الدور الذي سيرجع بصداه السلبي أو الإيجابي ليقولب حياتك!
…….
لا أعرف إن كانت ابنة أم فاخر مازالت على قيد الحياة، فلقد تدمرت قرية “كنسبا” بالكامل خلال الحرب الأهلية في سوريا..
ولا أعرف إن كانت أم لؤي مازالت على قيد الحياة فهي أكبر مني على الأقل بخمس وعشرين عاما.. كل ما أعرفه أن نبضا من روحيهما مازال حيّا في روحي… وسيبقى إلى الأبد حيّا في دينامكية الكون!!
************************************************
أصدقائي وأعزائي القرّاء:
شكرا من القلب لكل من أرسل لي أمنية جميلة بمناسبة عيد ميلادي… شكرا لكل من ترك لديّ أثرا طيبا شجعني لأن أستمر…
أخص بالشكر صديقي الغالي الفنان والرسّام العراقي المبدع احسان فرج الذي أهداني هذه الرسمة المرفقة، وطالما جسّد قضيته العراقية بانسانيّة وإبداع لا يضاهيه إبداع… ليس هذا وحسب، بل لسنين زرعت كلماته الجميلة في نفسي مليون أثر طيب، وستبقى تلك الآثار عالقة إلى الأبد على جدران ذاكرتي الحية! أحبكم جميعا…
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
كيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟
Published by:علي الكاشمباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراث
Published by:مفكر حردراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.
Published by:آدم دانيال هومه** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا الإطاحة بالنظام الايراني ... غدت ضرورية غربية ودولية **
Published by:سرسبيندار السنديالحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حرأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية