فضيلة التراجع والتوقف

قابليتنا على التراجع خطوه تعكس مقدار مرونتنا في التعامل مع الأحداث
يكتسب المرء راحة البال حين يؤمن بأن الظواهر خالية من الثبات على حال , وأن دوام الحال من المحال , ومهما كانت الصعوبات التي تواجهنا , أما أنها ستتغير وتتلاشى , أو أننا سنصبح أكثر قوة فنتغلب عليها

كلما رأينا صور الحيوانات التي تسقط في الفخاخ وتموت موتاً بطيئاً رهيباً مؤلماً تذكرنا بالكثير من الناس ممن يدفعون أنفسهم دفعاً من أجل الحصول على مبتغاهم , وهم لا يتوقفون ولا يتراجعون خطوه مهما كانت المخاطر أو العوائق التي تعترضهم , ونتيجة لذلك فهم يقدمون تضحيات جسيمه من أجل الوصول الى أهدافهم حيث تدمرهم تلك التضحيات تدميراً كبيراً في صحتهم أو سمعتهم أو ربما تكلفهم حتى حياتهم

من وجهة نظر أخرى , لو كان بإمكان هؤلاء الأشخاص التوقف عن السعي لفترة وجيزه , أو كان بإمكانهم التراجع عن الوسائل التي يستعملونها للوصول الى أهدافهم , فإنهم سيقومون بحركة إلتفاف على الوضع الذين هم فيه , وربما من خلالها سيكتشفون مسلكاً جديداً الى الغاية التي يبتغونها , أو يكتشفون رحابة أكبر في الحياة تغنيهم عما هم ساعون إليه بشق الأنفس

التوقف والتراجع لا يعنيان التنازل أو الإستسلام , بل تكتيك جديد من أجل التقدم الى الأمام , تماماً كما يفعل الفلاّح وهو يتراجع الى الوراء طيلة فترة عمله وهو يعيد غرس شتلات الرز في مروزها , فهو لا يزرعها أمامه ثم يتخطاها خوفاً من أن يدوس عليها ويقتلها , بل يستدير ويزرعها أمامه ويتراجع عنها تاركاً إياها لتحيا وتعطي غلة مثمره وفيره

حين ينحني المرء للعاصفه , فهو يحمي جسده من أن تسقطه العاصفه وتكسر جزءاً منه , ويحمي قدميه بجعلهما ثابتتين في مكانهما فلا تحمله العاصفة وتلقيه في مكان آخر

لكي نتمكن من قيادة أنفسنا والمناوره في شؤوننا , على الواحد منا أن يكون متواضعاً متسامحاً . ولكي نبدأ أي أمر ونصل الى مبتغانا فيه بنجاح , يجب أن نعرف بأن علينا التقدم الى الأمام أينما كان الإتجاه الذي يأتينا منه الضغط , فالسفينة الشراعيه حين يدفعها الهواء من أمامها ليرجعها الى الخلف , سرعان ما تغير إتجاه أشرعتها لتجعل من الريح التي تدفعها الى الخلف , قوة تدير محركاتها وتبحر بها الى الأمام , بنفس هذا الأسلوب نستطيع نحن أيضاً أن نتوقف قليلاً أو نتراجع قليلاً لنجعل من العائق قوة تدفعنا الى الأمام

الإيمان بأن التراجع والتوقف المؤقتان هما أسلوبان من أجل التقدم الى الأمام , هذا الإيمان هو فلسفة عميقه وحسن إدارة , الواحد منا يتأمل من حياته التكامل والتحرر , فإذا كنا نعرف كيف نتقدم فقط ولا نعرف كيف نتوقف أو نتراجع , معنى ذلك أننا نملك نصف خطوه . الخطوه الكامله في الحياة , كما في المبارزه , هي في التقدم نحو الأمام والتراجع نحو الخلف

تأمل فلسفة التوقف والتراجع من أجل التقدم , تعطينا الفرصة لتغيير أساليبنا وتطوير حياتنا كي نكسب عالمنا , إنها فلسفة فعّاله وآلياتها مبهره , تعطينا الفرصة لإلتقاط أنفاسنا , وتغيير أساليبنا , وإكتشاف مديات أرحب في هذا الكون المترامي الأطراف , وعليه فلا يجوز لنا أن نركض في الحياة دون تفكير , بل كل خطوة نخطوها بحاجة الى تفكير وتقييم

د. ميسون البياتي

About ميسون البياتي

الدكتورة ميسون البياتي إعلامية عراقية معروفة عملت في تلفزيون العراق من بغداد 1973 _ 1997 شاركت في إعداد وتقديم العشرات من البرامج الثقافية الأدبية والفنية عملت في إذاعة صوت الجماهير عملت في إذاعة بغداد نشرت بعض المواضيع المكتوبة في الصحافة العراقية ساهمت في الكتابة في مطبوعات الأطفال مجلتي والمزمار التي تصدر عن دار ثقافة الأطفال بعد الحصول على الدكتوراه عملت تدريسية في جامعة بغداد شاركت في بطولة الفلم السينمائي ( الملك غازي ) إخراج محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية آخر ملكات العراق حضرت المئات من المؤتمرات والندوات والمهرجانات , بصفتها الشخصية , أو صفتها الوظيفية كإعلامية أو تدريسة في الجامعة غادرت العراق عام 1997 عملت في عدد من الجامعات العربية كتدريسية , كما حصلت على عدة عقود كأستاذ زائر ساهمت بإعداد العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول العربية التي أقامت فيها لها العديد من البحوث والدراسات المكتوبة والمطبوعة والمنشورة تعمل حالياً : نائب الرئيس - مدير عام المركز العربي للعلاقات الدوليه
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.