دليلك إلى حياة مقدّسة (الفصل الرابع)

wafasultan2015الكتابة، كأي إبداع آخر، ليست مجرّد موهبة بل هي أيضا القدرة على التنقيب عن تلك الموهبة واستخراجها وصقلها بالعلم والمعرفة.
ليس من حقك أن تتباهى بمواهبك، لأنها منحة وهبها لك الله أم الطبيعة ـ حسب ايمانك ـ، ولكن من حقك أن تعتز بتلك المواهب عندما تستخرجها وتصقلها وتقدمها كمنافع للآخرين..
هناك فرق كبير جدا بين أن تكون فخورا بانجازك هذا، وبين أن تكون مغرورا إلى حد النرجسية!
الموهبة ليست أكثر من مادة خام مترسبة في عمق جيناتك تنتظرك أن تستخرجها وتصنع منها شيئا مذهلا ومفيدا يؤهلك لأن تتعز بإنجازك!
الغرور هو محاولة باللاوعي لتغطية إحساسك بعجزك وقحطك وبنقاط ضعفك.
…….
ما يميّز بين الغرور والإعتزاز هو ما يوجد على أرض الواقع من إنجاز!
لدى البعض حالة وهمية مرضيّة، يحاولون من خلالها إقناعك ـ بالقوة ـ أن ما يقدمونه إبداعا وعطاءا مثمرا، سواء في حقل الكتابة أم في أي حقل آخر، علما بأن الواقع
يثبت أنهم لم يقدموا شيئا!
بناءا على رأي الرئيس الأمريكي السابق ابراهام لينكلون: (قد يصدّقهم البعض مدى الحياة، وقد يصدّقهم الجميع بعض الوقت، ولكن من المستحيل أن يصدّقهم الجميع كل الوقت)
نعم، القضية قضية وقت ومع الزمن يبقى الثمين ويذهب الغث هباءا…
لذلك، بقي إبداع من سبقنا حيّا حتى اليوم، واندثر هؤلاء الذين عاصروهم وتوهّموا ـ وحاولوا أن يوهموا ـ أنهم أعطوا شيئا…
ألم يكن في عصر الشاعر المتنبي أشخاص آخرون توهموا أنهم كتبوا شعرا وأبدعوا؟؟
لا شك!
لكنه وحده المتنبي ظل حيّا وانتهوا ـ هم وغثّهم ـ إلى الفناء!
ألا يحق للمتنبي أن يعتز بابداعه قائلا:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي……وأسمعت كلماتي من به صمم؟
…….
نوعية تلك المواهب تختلف باختلاف الناس الذين يملكونها. فكما تميّز الإنسان بصمات أصابعه تميّزه مواهبه.
الكتابة موهبة كما هي الفصاحة والحياكة والنحت والرسم والعزف والغناء، ولكنها ـ كما هي المواهب كلها ـ تختلف باختلاف الشخص الذي يملكها.
تماما لو كنت تملك فلزا خاما في داخلك، ثم استخرجت ذلك الفلز وصنعت منه ما يميّزك دون سواك!
كما يمتلك رالف والدو ايميرسون موهبة الكتابة أؤمن بأنني أمتلكها، ولكن كل منا صقلها واستخدمها بما يميّزه!
نزار قباني قال يوما: لو وقعت مني ورقة في اتوبيس بالقاهرة وعثر عليها أحد الركاب سيعيدها إليّ فور قراءتها!
لا أستطيع أن أتفق مع نزار حول تلك النقطة أكثر مما أتفق…
فنزار ككل الموهبين يمتلك القدرة على صياغة الحروف، ولكن الطريقة التي يصيغها بها هي ثمرة جهده وثقافته وعرق جبينه، وهي ما يميّزه عن بقية الموهوبين!
لذلك، له الحق أن يتباهى بانجازه لأنه يميّزه دون غيره!
لا نستطيع أن نسمي اعتزاز نزار بابداعه غرورا لأن الإبداع الذي تركه لنا مازال برهانا حيّا على إنجازه!
أنت تعتز عندما تقدم ما يثبت حقك في الإعتزاز، وتشعر بالغرور عندما تعجز أن تقدم شيئا وتحاول أن تقنع الآخر ـ بالبلطجيّة ـ أنك مميّز!
…….
زرت مؤخرا بيت صديقة أمريكية لديها موهبة غريبة عجيبة…
كل ما تحتاج إليه لاستخدام موهبتها أسلاك معدنيّة وخرز مختلف الألوان!
تصنع من تلك الأسلاك وذلك الخرز مجسّمات مزركشة غاية في الإبداع…
بيتها لا يختلف عن أجمل معرض للأشغال اليدوية في أمريكا.
اكتشفتْ لاحقا أن جدّ والدها كان حدادا، وكان يصنع من الحديد ثماثيل مازالت تعتبر الأفضل في متاحف بولونيا حيث ينبع أصلها!
مدت يديها لتريني الثمن الباهظ الذي دفعته عبر السنين مقابل استخراج تلك الموهبة الموروثة من جيناتها واستخدامها..
فصرخت: يا إلهي!
تشوهت أصابعها بطريقة تسهّل عليها ممارسة تلك الموهبة…
هي لا تستخدم ملاقط ولا مقصات ولا بنسات، بل تستخدم أصابعها لترويض الحديد!
العقدة الأولى من كل أصبع تحولت إلى كرة بحجم الجوزة الصغيرة، ومعكوفة بطريقة غريبة….
ليس هذا وحسب، بل تصلبت حتى أصبحت أقسى من أسلاك الحديد التي تستخدمها في إبداعها.
كانت تسبقني من غرفة إلى غرفة وهي تشرح لي كل مجسم نمرّ عليه.
وكانت الطاقة الإيجابية التي تشع منها ومن ابتسامتها تمغنطني لأركّز كل انتباهي على تفاصيل إبداعها وتفاصيل شرحها لهذا الإبداع..
لصديقتي تلك جارة كوريّة، بيت الجارة ملاصق لبيتها…
شكت لي من وقاحة جارتها وأنانيتها وعدم احترامها لحق الجار ( معظم الكوريون في أمريكا مهاجرون من كوريا الشمالية، وهم بناءا على تربيتهم القمعية والعسكرية ـ كما أطلعني أحد المفكرين منهم في سياق حديثه مرّة معي ـ هم أنانيون وتتحكم بهم روح المنافسة العنيفة)!
هذا لم يمنع صديقتي من التعبير عن إعجابها بحديقة تلك الجارة وبالجهود التي تبذلها للمحافظة على جمال تلك الحديقة!
لم تعبّر عن إعجابها وحسب، بل قادتني إلى غرفة تتوسطها طاولة كبيرة ويتوسط تلك الطاولة مجسم كبير يجسّد الحديقة وصاحبتها الكوريّة!
أذهلني وجه الشبه بين المجسم وبين الحديقة، كما أذهلتني السهولة التي تدرك عندها أن المرأة في المجسم من اصول آسيوية.
ألوان فستانها، قبعتها، حجمها، انحناءتها، حتى القفازات التي ترتديها تؤكد هويتها كآسيوية!
هذا هو الإبداع….
أن تكون قادرا على استنباط الجمال وتجسيده داخل القبح الذي يؤذيك!
مواقف السيدة الكورية ووقاحتها لم تمنع صديقتي المبدعة من أن ترى مكامن الجمال في حديقة تلك السيدة…
فالمبدع يلتقط الجمال ويعترف به أيا كان!
…………….
ذكّرتني زيارة تلك الصديقة بمثل شعبي طالما كررته جدتي أم علي: سألوا الدب “شو بتشتغل؟” قال:بحيّك حرير
قالوا: كان لازم نعرف من نعومة ايديك!
كما تكشف يدا الدب عن “وهمية” إبداعه في حياكة الحرير، كذلك تكشف يدا صديقتي عن حقيقة إبداعها…
انظر إلى يديك….إلى طاولتك….إلى مطبخك….إلى أي شيء يحيط بك كي تستطيع أن تقدّر مدى إبداعك ومدى استخدامك لمواهبك!
……..
يتطرق العالم النفسي والروحاني الأمريكي Gary Zukav في كتابه The HEART of the SOUL ( قلب الروح)،
يتطرق إلى حالة الوهم التي يعيشها الدب من أنه يجيد حياكة الحرير رغم ما تظهره يداه من خشونة تكذّب وهمه، ويطلق عليها Idol Worship أي “عبّاد المثل”
ومعناها: يتعلق الإنسان بإنسان آخر يرى فيه مثلا أعلى إلى حد الهوس.
ذلك المثل يُظهر إبداعا وقدرات رهيبة في مجال ما، من الصعب إن لم يكن من المستحيل تقليدها…
ويبدو “المثل” في نظر ذلك الشخص قويا وقادرا إلى حد يهمين فيه على عقله!
يمتص الشخص الصورة التي رسمها في ذهنه لذلك “المثل”، ويحاول بوعيه وباللاوعي عنده أن يلعب نفس الدور الذي يلعبه ذلك المثل!
فتنصب كل جهوده لاحقا في محاولة شاقة ليكون مثله، وتتفاقم محاولته تلك حتى تصل حدّ العبادة.
أنقل لكم من الكتاب، وفي سياق الحديث عن “عبّاد المثل” هذه العبارات:
The -function- of idol worship is to avoid living your life -dir-ectly and fully. Idol worship places a screen between you and your experiences
يرفض عبّاد المثل أن يعيش حياته الشخصية مباشرة وبعمقها وتصبح وظيفته تكريس ذلك الرفض، الأمر الذي يدفعه لأن يضع شاشة تفصله عن حقيقته!
ويتابع المفكّر:
على الشاشة يمثّل “عبّاد المثل” الدور الذي يلعبه المثل، ويرتكس إلى تجارب الحياة وظروفها بطريقة مشوهة لا تعكس حقيقته، بل تشبع حاجته لأن يكون مثله!
يلخص المفكّر شرحه لتلك الحالة بقوله: المثل الذي تعبده هو الصورة التي في ذهنك والتي تؤمن بأنك لو لعبت دورها ستكون آمنا، محطا للإعجاب وذات قيمة!
وينتهي للقول بما معناه “يموت عبّاد المثل قبل أن يتعرف على نفسه وقدراته ومواهبه”
هذه هي حالة الدب الذي قضى عمره متوهما أنه يشتغل في حياكة الحرير!
لقد عاش حياته متقمصا شخصية “حيّاك الحرير”، ومات قبل أن يعيش حقيقته ويكتشف مواهبة الذاتية والتي قد لا تمت بصلة لحياكة الحرير!
…..
أعرف سيدة أمريكية أخرى تبدع بطريقة أخرى…
تركت شغلها كمديرة في بنك كبير والحتقت بالبيت لتعتني بأطفالها السبع…
لكن عمل البيت ورعاية هذا الجيش العرمرم من الأطفال لم يقتل مواهبها…
تذهب في نهاية كل اسبوع عندما يتواجد زوجها في البيت إلى أحد معامل الخياطة في المدينة التي تعيش فيها، فلقد
اتفقت معهم على أن يحتفظوا لها بقمامتهم التي تتشكل من قصاصات القماش وبقايا الخيطان، فتعود بها إلى البيت.
معظم قطع القماش لا تزيد في مساحتها عن مساحة الكف الواحد…
لكن عقل سالي الخلّاق وأصابعها المرنة تحيل تلك النفايات إلى ملاحف وأغطية للأسرة تسحر الأنظار!
أسبرُ من حين إلى حين أغوار موقعها الإلكتروني فتذهلني موجوداته…
أسعار بعض الأغطية تتراوح بين خمسة وعشرة آلاف دولار…
…..

أذكر عندما كنت طفلة كانت هناك عائلة في حينا تعيش في قبو أحد الأبنية وكان مظلما جدا، وتتسرب مياه مجارير الطوابق العليا عبر حيطانه..
وكانت تلك العائلة منبذوة ومثيرة للشفقة في آن واحد، علما بأن الزوجين كانا موظفين وعلى درجة ما من التعليم…
المهم، لسبب ما تركوا البيت ورحلوا إلى مدينة أخرى…
أحد أصدقاء عائلتي قرر أن يستأجر البيت، فأبدينا جميعا استغرابنا واستهجاننا للأمر، لكنه لم يبدِ أية أهمية لموقفنا!
بعد حوالي اسبوعين من انتقاله وزوجته إلى البيت، بدأ الجيران بتنظيم زيارات لهم كي يتفرجوا على الإبداع الذي طغى على ذلك
القبو المعتم…
كانت الزوجة خياطة ومعروفة بذوقها وفنها وكان زوجها نجارا، فأحالته أيديهم المبدعة إلى متحف صغير كسلة قش مطرزة بمختلف الألوان…
رغم حداثة سني آنذاك، مازال الحدث يذكرني بين الحين والآخر أنه لا يوجد مكان قبيح، بل يوجد عقول عقيمة!
على حد قول المثل الشعبي: الغزّالة (السيدة التي تغزل الصوف) بتغزل عا عود!
……
عندما تؤمن بموهبتك وبقدرتك على تحويلها إلى إبداع قد لا تحتاج إلاّ إلى خرز وأسلاك، أو ربما لعود يابس، أو لبعض النفايات من قصاصات القماش!
كم مرّة راقبنا أشرطة على اليوتيوب لإبداعات مذهلة…
شخص يعزف على المنشار، وآخر صنع من جزرة آلة موسيقية كالناي وراح يصدح، وآخر يعزف بالضرب على مجموعة من الكؤوس الفارغة…
وامرأة ولدت بلا يدين، لكنها تستخدم قدميها لتمارس فن الرسم…
نعم، الإبداع أن تكتشف بأنك تحب شيئا ثمّ تحول حبك إلى شغف، وبعدها تستريح وتسلم الأمر لذاك الشغف!
أما أن تستعير شغف غيرك لتوهم نفسك بأنك تستطيع أن تقلّد إبداعه، فسيجبرك على أن تعيش حياة مزيّفة وتموت قبل أن تشعر بقيمة نفسك!
………
من منا لا يتذكر نساء الحي وهن يتبارين في حياكة كنزات الصوف…
كان لنا جارة اسمها “أم طارق”، وكانت أم طارق مبدعة بكل ما للكلمة من معنى..
-;—;—–;—طالما استهواني ابداعها، وطريقتها في حياكة ذلك الإبداع…
كانت تشتري من نساء الحي مايفيض عن حاجتهن من خيطان الصوف، ولذلك امتلكت كيسا كبيرا يحوي كل أنواع ومختلف ألوان تلك الخيطان!
كان كيسها خليطا من كل ما هبّ ودب…
ليس هذا وحسب، بل كانت تشتري من الجيران كنزات الصوف العتيقة، فتفكها وتضيف عليها خيطان جديدة كي تكسبها متانة ورونقا جديدين!
كانت ـ كعادة نساء الحي في ذلك الزمان ـ تدور من بيت إلى بيت و في جعبتها سنارتها وخيطانها…
كنتُ مهوسة بمراقبة لسانها وهو يثرثر وأصابعها وهي تغزل….
لم ارها مرة واحدة تنظر إلى السنارة أو إلى أي خيط تلتقطه يدها…
انطبعت في ذاكرتي رسوماتها على الكنزات، تلك الرسومات التي كانت تثير لدى الناظر شهقته “يا الهي”!
لو كان هناك من يقدّر هذا الإبداع لصارت أم طارق “بيكاسوية” على الطريقة السورية..
ولكن؟؟؟؟
عندما أعود بذاكرتي لكيسها المليء بالخيطان المزركشة، خيط من كل حدب وصوب، وكيف كانت تمازج تلك الخيطان بمختلف ألوانها وأنواعها، لتخلق من تنافرها انسجاما بديعا، كلما عدت بذاكرتي إلى ذلك الكيس يخطر ببالي قول الكاتب والشاعر البريطاني William Plomer:
Creativity is the power to connect the seemingly unconnected
الإبداع هو أن تملك القدرة على الجمع بين الأشياء التي تبدو غير قابلة للجمع…
يبدو أنه كان لوليام بلومر جارة كجارتي….
كنت أختبأ وراء بابنا وفي يدي سنارة صغيرة وبكرة من الصوف بحجم البيضة الصغيرة، وأنا أراقب أنامل أم طارق وأحاول بشق النفس أن أقلدها…
تحولت السنارة مع الزمن إلى قلم، وانطبعت رسومات “أم طارق” فوق صفحاتي…
لا يهم…
الإبداع واحد سواء حكتَ كنزة أم كتبتَ قصيدة…
دقة التركيز، عفوية الصياغة، وجمال النتيجة هي الإبداع، أيا كان ذلك الإبداع….
هناك من هو أذكى مني…
هناك من هو أغنى مني…
هناك من هو أبدع مني…
هناك من هو أشهر مني..
هناك من هو أجمل مني…
لكن لا يوجد إطلاقا من هو مثلي…
كلما صنع الكون إنسانا يصنع له قالبا واحدا ولا يكرره…
فالقالب الذي صنعني غير قالبك، والقالب الذي صنعك غير قالبي…
فرديتنا هي الأساس لإبداعنا…
ومتى سمحت للقطيع أن يحتويك ويصهرك تخسر تلك الفردية!
كنت أحاول أن أسرق أنامل أم طارق، فسرقت قدرة تلك الأنامل على أن أُحيك بابداع…
لأم طارق أناملها…
ولي أناملي…
ولك أناملك…
وكل يُبدع بطريقته!
*****************
للحديث صلة.

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.