الهوية و اشكالاتها

( الجزء الأول )
مازن البلداوي
27/5/2018

مما لاشك فيه أنّ أقلاما عديدة قد تناولت عنوان هذا المقال و تحت اسماء متعددة نظرا لأهميته و ما يمكن ان يتمخض عن تغير مفهوم “الهوية” وتبعاته المحتملة التي ستقود اليها التطبيقات الناتجة عن هذا المفهوم او ذاك حيث تنوع الجغرافيا و تشكيلات المجاميع الأنسانية التابعة اليها والتي تحكمها ثقافة تختلف جزئيا او كليا عن مجاميع أخرى. أن مفهوم الهوية لهو مفهوم فضفاض يحتمل الكثير من الآراء و الفلسفات التي قد تطرح بناءا على وجهات نظر منبثقة عن اسس ثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا بعوامل متغيرة و مختلفة تتحكم بها أدارات او سلطات معينة بغض النظر عن لبوسها الظاهر للعيان. وحيث أعتبر هذه السطور تمثل الجزء الأول وهو مدخل مختصر جدا لموضوع الهوية لما لهذا الموضوع من مسارات و مشارب تتصل بعلوم متعددة أهمها الأنثروبولوجي، علم النفس و علم الأجتماع بشكل أساسي.
و للتعريف البسيط للهوية نفهم بأنها ” مفهوم تتفق عليه و تؤمن به مجموعة من الناس صغيرة كانت او كبيرة لها من السمات والملامح ما يؤطرها بتميز عن هويات أخرى لتصبح أداة تعريف أولى ومفهوم انتماء هذه المجموعة الأنسانية او تلك”. و في هذا السياق، نستطيع ان نعرج على بعض أنواع هذه الهويات التي تحيط بنا او نسمع بها او نتداولها بالحديث عن هذه المجموعة او تلك ومنها، الهوية القومية، الدينية، الطائفية،القبلية، السياسية، المهنية……. الخ.
و عودا على بدأ، فقد نشأت الهوية و مفهومها منذ بداية تكون المجتمعات الأنسانية و استمرت بالتمحور و التنوع بحسب النشاطات التي كانت تلك المجتمعات تقوم بها، فقام الأنسان بوضع جدول يدرج بموجبه بشكل مصنّف هذه الهويات بحسب أهميتها له وبمقدار ما تستطيع هذه الهوية ان تؤمّن له معاشه و أمنه بشكل أساسي حيث يعد هذين الأمرين من أهم حاجات الأنسان في حياته. أن تعدد الهويات لهو امر طبيعي لدى أي منّا حيث تبرز الهوية القبلية مثلا في المجتمعات البدائية او البدوية او المنعزلة حيث تتم تسمية المجموعة الأنسانية تلك بأسم كبيرها او من أسسها وتعد محورا تستند عيه خيمة الأمان التي يلجأ اليها اي فرد من هذه المجموعة عند الخطر او لأغراض أخرى أهمها الحصول على الطعام.
الا ان هنالك هويات أخرى تأتي تباعا في الجدول المذكور لتشكّل مجموعة الهويات التي يحملها الأنسان في قاعدة بياناته حيث يلجأ اليها لتكون حصنا منيعا له في الملمات.


نحن نعلم علم اليقين بأن المجتمعات تتمايز في ما بينها بملامح و سمات تشكّلها تلكم الهويات وبحسب سيادتها فنقول او ندعو هذا المجتمع بالمدني تبعا للمدينة، او الريفي تبعا للريف او ………مدني، بدوي، صحراوي، جبلي، ديني، علماني، مسلم، مسيحي، هندوسي، قبلي، زراعي، صناعي وهكذا دواليك في اطلاق السمات العامة لتعريف المتلقي بهوية ذلك المجتمع كأساس وصفي معرفي ليؤسس بموجبها نقطة انطلاق اي حوار قد يتم المشاركة به حول تلك المجموعة الأنسانية وبيئتها. الا ان هذا لاينفي آلية التسمية المركبة من عدة سمات تتشارك في تكوين الهوية التعريفية لذلك المجتمع على الرغم من اختلاف الرؤية لدى البعض بضرورة ربط بعضها بالبعض الأخر كصنوين لا يفترقان كأن يكون المجتمع مدني صناعي او ريفي زراعي و هكذا.
و من الطبيعي أاننا هنا نتحدث عن السمة الغالبة على هذا المجتمع او ذاك و افراده الا ان هذا لايعني بالضرورة ان يكون افراده يتسمون بذات الصفات التي تشكل مكونات قائمة السمات المشتركة العامة حيث تتعدد مناشىء و ثقافات افراده و تختلف سياقات فلسفة حياتهم الا ما اشترك بينهم من سمات و مفاهيم تعمّق مفهومها في داخل قواعد بياناتهم الثقافية لتتشكّل فيما بعد مجموعة “المسلّمات” المفروغ منها وتأخذ صفة القدسية حيث تنشأ “التابوهات” التي لا يجوز المساس بها لدى بعض المجتمعات .
هذه المفاهيم التي تم تثبيتها كقواعد بيانات اساسية لدى افراد المجتمع نتيجة التعامل بها لفترات زمنية طويلة وحيث ينتقل معضمها من جيل الى جيل للمحافظة عليها باعتبارها تشكل ملمحا مهما من ملامح هوية ذلك المجتمع.
ان من أهم مايمكن التركيز عليه و الأهتمام به هنا هو الظروف البيئية التي تتم بها عملية الأنتقال هذه حيث يتأثر المستلم بمجموعة العوامل المحيطة بها مما يؤثر على مستوى المصداقية التي سيتعامل بها مع ما استلمه حيث لم يكن هو موجودا عند حدوث ذلك الأمر المنقول أليه و تبعاته و لم يستطع الحكم عليه حينه باعتبار ان طول الفترة الزمنية الفاصلة بين تاريخ ذلك الحدث و بين تاريخ استلامه له يتطلّب منه التصور و التصديق الخالص بحدوثه دون البحث في آليات و حيثيات الحدوث و التطبيق والا فأنه سيعدّ خارجا عن المجموعة المؤمنة بتلكم المسلّمات.
أن متابعة الأطلاع على علم “الأنثروبولوجي” الذي يهتم بالأنسان و كيفيات تطوره الحضري الثقافي و بالتالي تحديث وتطوّر مجتمعاته على مدى عصور طويلة خاض فيها صراعات متنوعة و متعددة مع بيئته من اجل الحفاظ على حياته، وكما أدى هذا الصراع الى صراع آخر مع نفسه من أجل التغيير و التحديث لتغيير هويته تبعا لذلك حيث ان أنسان العصر الحجري تطور كثيرا ليصل الى أنسان عصر الزراعة و الصناعة بعدها. و حين ذكرنا عملية انتقال المفاهيم من جيل الى جيل، فمن الواجب علينا الأشارة الى العوامل المؤثرة على هذا الأنتقال و تؤثرايضا على مدى الصمود الذي سيتمتع به المفهوم من حيث الصياغة و المعنى و التطبيق في ظروف خارجة عن سيطرة الأنسان ذاته و مدى مقاومته لتلكم الظروف و تحدياتها.
تترسخ هذه المفاهيم و يتعمق الأيمان بها مع طول الفترة الزمنية و ثبات الظروف المحيطة أذ يؤديان الى أطلاق سمة “الأيجابية” على فعاليات الحياة حينها وتعدّ سمة اساسة لوصفها ابان تلك الفترة التي قد يصاحبها نموا و ازدهارا اقتصاديا.ألا ان الأمر قد يتعدى المفهوم على المستى الفردي او الجماعي المصغّر ليصل الى دعم نفوذ السلطة القائمة بشكل أوسع و أعمق حيث تعمل السلطة على استغلال هذه العوامل و تقوم على صهر الهويات الصغيرة لتذيبها داخل بوتقة الهوية الأكبر من اجل ايجاد هيكل أكبر و اقوى تشترك فيه هويات أخرى محدودة كأن تكون هوية قبلية، دينية، سياسية، اجتماعية او ثقافية لتشكيل هوية أكبر حجما و اوسع نطاقا و بملامح مشتركة نستطيع ان ندعوها بــــــ ….. “الهوية الوطنية”.
أصبح مفهوم “الهوية الوطنية” اكثر شيوعا منذ بدايات القرن الماضي و خاصة بعد الحرب العالمية الأولى و خسارة الدولة العثمانية وريثة السلطة الشمولية الأولى ذات الهوية المركبة (دينو- قومية) التي لم يكن لها حدود سياسية معروفة كما هو حال باقي الأمم (الأوطان) حيث تتقلص و تتمدد الحدود بحسب قوة السلطة الحاكمة و نفوذها متمثلة بشخصية حاكمها. أدت هذه الخسارة الى أعادة تشكيل الأوطان وسلطاتها الجديدة ورسم الخرائط الجيوسياسية ووضع خطط الجيواستراتيجيا بمفهوم جديد يتطلب منها بناء هوية وطنية جديدة موحّدة مركبة تشترك في تكوينها صفات او لنقل هويات متعددة لمجاميع انسانية مختلفة تنصهر في بوتقة الوحدة الوطنية لكل وحدة جيوسياسية جديدة حيث كانت تعيش تحت خيمة كبرى تحمل صفة دينية قومية مركّبة عامة شاملة تبسط سلطتها على المدن بشكل رئيسي و تضعف عند أطراف التمدن عند الريف او الصحراء ليكون الأنسان هناك حلّ من حمل الهوية الأولى التي يحميها القانون ومراسيم السلطة التي تصدر من العاصمة ألأستانة او مراكز سلطة الأقاليم والمدن ليستكفي الفرد بحمل الهوية الصغرى و التي غالبا ما تكون قبلية او عشائرية تتحكم بها المفاهيم العرفية التقليدية لكي يحمي مصالحه و يحقق أمنه الشخصي ويؤمّن انتمائه.
في الجزء القادم سنتحدث عن الصراع في تشكيل الهوية الوطنية و أثره على الأستقرار السياسي و تأثيره على عملية بناء المجتمعات و سأحاول قدر المستطاع الرد على استفسارات من بعض الأخوة و الأصدقاء حول آليات بناء الهوية.

تحياتي
مازن البلداوي
majin.mn48@gmail.com

About مازن البلداوي

مازن البلداوي كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.