الهوية و اشكالاتها

(الجزء الثاني)
مازن البلداوي
12/6/2018

وكما تم ذكره في الجزء السابق، فأن الصراع الذي خاضه الأنسان على مر العصور السابقة و نتيجة لمتطلبات الحياة المختلفة و تحت تأثير الظروف البيئية المحيطة والجيوسياسية خاصة، جرى و خلال أوقات عدة تغير الهوية التي يحملها الفرد، المجتمع او هذه المجموعة الأنسانية او تلك. و قد أشرنا الى ان موضوع الهوية موضوع واسع فضفاض يتجمل الكثير من المشاركة من خلال الحوارات و النقاش بعيدا عن الجدلية. و على هذا الأساس سيقتصر هذا الجزء من المقال على الأشارة الى موضوع الصراع بعد الحرب العالمية الأولى و تحديدا في منطقة الشرق الأوسط و خصوصا في المنطقة العربية لما لهذا العنوان من أملاءات و توجهات تتجاذبها القوى العظمى و أصحاب النفوذ في سبيل ادارة الصراعات على الأرض بين الهويات المختلفة ابتداءا من الهوية الفردية الى الهوية المجتمعية من اجل الوصول الى أهدافها الأستراتيجية المرسومة.
نعلم جميعنا أن المنطقة العربية كانت تعد جزءا أساسيا من أمبراطورية آل عثمان الأسلامية(الدولة العثمانية) التي سادت على هذه الأرض و أراض أخرى لنيّف و خمسمائة عام كانت الأجيال المتعاقبة تصهر هويتها المكانية، اللغوية، والتراثية حتى في هوية عامة يمكن ان نطلق عليها الهوية الدينية الأسلامية باعتبارها الأعم و الأشمل و الأكثر اشتراكا ولفترة زمنية طويلة بين مختلف الأقوام التي تقطن المنطقة المحصورة بين دفتي حكم العثمانيين حيث تعد الدولة العثمانية امتدادا تاريخيا لحقب عدة من الأدارات السياسية الدينية الأسلامية او على الأقل كان هذا العنوان الذي ترفعه الأنظمة الحاكمة ابان فترة ادارتها السياسية لمنطقة جغرافية و مجتمعهاتها البشرية. فكان من الطبيعي ان تأت الأجيال المتعاقبة و تنمو تحت ظروف تكاد ان تكون متشابهة في أغلبها من الناحية الفكرية و السياسية الأقتصادية، الأمرالذي سهّل عملية انتقال الموروث الثقافي من جيل الى جيل بقولبة متينة تعمل على تشكيل “المنظومة العقلية” للفرد و المجتمع بطريقة رتيبة تقليدية تشبه سابقتها حيث لا يوجد الكثير من التغيير الذي قد يأخذ مكانه بعد بسبب عدم وجودة دعاة تغيير حقيقيين الا اولاءك الذين يظهرون بين فترة طويلة و أخرى على هذه البقعة من الأرض او تلك . وقد تعدّهم الأمة حالة نشاز عن عرفها و تقليدها باعتبارالتغيير مخالفة لدستور العرف و المتوارث الجامد.
تبدأ الهوية بالتشكّل لدى الأنسان منذ بدايات ادراكه و بحسب ظروف تنشئته البيئية ابتداءا من ألأسرة والأقارب و محيط السكن و الأصدقاء و زملاء الدراسة او العمل فيما بعد، فكلها عوامل تدخل في صياغة “المنظومة العقلية” لدى الفرد حيث تتحدد الأطر التي ستحمل صورا يحملها الفرد ابتداءا من المنظومة الأخلاقية، المعرفية، العلمية، الدينية،الأجتماعية و أخرى … حيث حيث يبدأ الدخول الى معسكر الأسر الذي تفرضه هذه الأطر فيتقولب داخلها ابتداءا من الصغر لتؤسس لديه منظومات أخرى نذكر منها منظومة التقاليد و منظومة الصح و الخطأ المعيارية و منظومة التابوهات و هكذا، فتعمل جميعها و اعتمادا على مذى التجاذبات التي ستؤثر عليه من قبل عوامل محيطة فتشكّل بالتالي شخصية ذلك الفرد و مجموعة الأفراد المحيطين به فيما بعد وبالتالي ستشكّل الهوية العامة للمجتمع.


أن تشكّل الهوية الفردية لهو اللبنة التي ستؤسس حتما لتوجهات المجتمع و نشوء السمات المشتركة العامة فيما بعد وبمرور الزمن ليتصف هذا المجتمع او ذاك بهذه السمة/ات او تلك. أنّ كل فرد منّا لايملك الا ان يكون متلقيا في بداية حياته من قبل محيطه ويستمر هذا التلقي الا ان يصل الفرد الى نقطة فصل تأتي من خلال طرق مختلفة فأما عن طريق احد المحيطين او عن طريق تلقي المعلومات من قبل مصادر أخرى غير تقليدية تختلف عن أملاءات المصادر المعرفية التقليدية التي تحيط عادة بالفرد. و على الرغم من ان نقطة الصراع ستبدأ بالتشكل عند بداية تلقي المعلومة المختلفة آنفة الذكر وهذا ما ستحدده عوامل أخرى أهمها مستوى الحرية و الأنفتاح الفكري بأشكالهما المتعددة في ذلك المجتمع، الا ان النقطة الفصل الحقيقية هي عندما يبدأ الأنسان باللجوء الى تحليل البيانات التي تحملها منظومته المعرفية ومقارنتها تحت عناصر التحليل المهمة (من، كيف، ولماذا).
يبدأ الصراع بين المرء و نفسه ابتداءا بسؤال …. “من أنا” و ماهي هويتي!
فتأتي الأجابة مباشرة من قبل “المنظومة العقلية” التي ستستعين بقاعدة البيانات التي أسستها العوامل المذكورة سابقا من ظروف بيئية محيطة وبطريقة تقليدية صرفة . الا ان هذه الأجابة ستصطدم بحيثيات تثبيت سماتها التقليدية عندا يعيش الأنسان تحت ظروف جديدة تتطلب ان يكون فيها الفرد حاملا لهوية جديدة تختص بمنطقة جغرافية معينة لها اسم يدعى “وطن” ويشترك معه أخرون ممن لم يتسموا بسمة الهوية العامة السابقة التي ورثها عن أهله و عن مجتمعه. فالهوية الجديدة هي هوية مركبة مشتركة يتعاون بموجبه مع من يختلف معه كليا في كثير من الأحيان في ما تحمله منظومته العقلية وقاعدة بياناته ويتطلب منه الأمر ان يسع جاهدا لأعادة ترتيب البيانات و اعادة ترتيب اولويات الهويات الموجودة في سجل البيانات هذا من اجل مصلحة عامة سامية وجديدة ستعدّ مرجع انتمائه الأساسي و حاضرة حياته و مستقبل ابنائه.
ومما لاشك فيه فأن شدة هذا الصراع ستختلف من فرد لآخر و بحسب ظروف البيئة المحيطة به. فالفرد الذي يعيش في المدينة يعد شخصا يتمتع بدرجة اكبر من المرونة في حواراته الثقافية و اسلوب تقبله للمتغيرات الجيوسياسية و الأجتماعية التي تحدث في محيطه، مقارنة بالفرد الذي يعيش في مجتمع الريف او الصحراء حيث رتابة الظروف و ثباتها التقريبي لا يعط الفرد هناك سببا ليكون مرنا في طريقة تقبله لما يخالف موروثه الثقافي الا ما يأتيه ليغيّره قسرا عن طريق الأمر من سلطته الفرعية العليا ان كانت قبلية او دينية او أسرية احيانا. أن مجتمع المدينة و كما نعلم هو مجتمع يتألف من افراد ذوو انحدارات عرقية و دينية و طائفية تختلف جدا عن محدودية تنوع هذه الأنحدارات في مجتمع الريف الذي تعدّه طبيعة حياته و ظروفه الجيوسياسية لأن يكون اكثر صرامة في تطبيق قوانينه الخاصة التي يعد موروث المجموعة القتليدي هناك مرجعا اساسيا للولاء و الأنتماء حيث يسبب الأختلاف عنه سببا وجيها لطرد الفرد خارج المجموعة.
أن الصراع الذي نحن بصدد القاء الضوء عليه قليلا من خلال هذا المقال قد يكون صراع هوية على مستوى العائلة او على مستوى مجموعة الأصدقاء في نشاطات متنوعة تقام فيما بينهم، الا اننا نركّز هنا على ان الصراع المقصود هو صراع “الهوية الوطنية” الذي يجدر بالفرد المنتمي ان يعلو بها فوق هوياته الأخرى التي ورثها او أسس لها المجتمع المحيط به من خلال اصابع النفوذ السياسية او الفكرية التي تحاول جاهدة على مر العصور ان تطرح المفهوم الوطني بموجب فلسفنها الخاصة بغض النظر عما اذا كانت هذه الفلسفة تستطيع العيش في ظروف يومنا هذا ام لا. وهي اذا ما اصرّت على المضي قدما في برامجها الأستحواذية البليدة ستجبر الأفراد على التخلي عن منظومات تعد اساسية في تشكيل هويتهم العامة كأن تكون منظومة الأخلاق احداها اذا ما وجد الفرد بأن هذه المنظومة لم تعد شاخصة للعيان و غير قابلة للتطبيق الحياتي اليومي فيما حواليه.
ان الصراع الذي نشأ بعد معاهدة سايكس-بيكو تحديدا لم يكن صراعا سهلا ابدا، الا ان انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ادى الى نشوء وبروز كيانات ثقافية و سياسية جديدة على ارض الواقع كان هذفها اعادة تشكيل الموروث العثماني الى كيانات سياسية جديدة تتمتع بهوية جديدة تتطلب عملا جهيدا لجعله عاملا مشتركا بين افراد ذلكم الكيان و خيمة يلجأ الى الأستظلال بها من رمضاء ضياع الهوية السابقة ويأمن تحتها خوفا من مستقبل مجهول بدأت للتو تتشكل ملامحه في الأفق.
أن العمل على مشروع “الهوية الوطنية” الجديد يتطلب التخلي عن ارتقاء الهويات الأخرى فوق هذه الهوية ايا كانت تلكم الهويات، عرقية كانت او دينية قبلية او طائفية، فكرية او سياسية من اجل بناء و حماية مدينتهم او البلد الذي يحتضنهم حيث لا تعلو القومية هنا اي دور في تمييز الأنتماء من اجل التميز عن الأخر في مجال الحقوق او الواجبات الملقاة على عاتق الأفراد. ان صهر الهوية القبلية او القومية او الدينية في بوتقة الوطن لهو مطلب اساسي لبناء الأوطان حيث العمل المشترك من اجل اعلاء راية الوطن اولا قبل الرايات الأخرى التي كانت ترتفع سابقا. ان مهمة العمل على صهر الهويات المختلفة في بوتقة الوطن تصعب على القائمين عليه في مكان و ظروف جيوسياسية تشكّلها ديموغرافية متنوعة و يتطلب الأمر جهدا جبارا مقترنا برغبة حقيقية لدى الأفراد من اجل التغيير و توحيد الهويات المتشرذمة، الأمر الذي قد يتطلب زمنا اطول من المعهود و دعما قد تتدخل به قوى اخرى ذات نوايا واضحة و ايجابية في بعض الحالات.

لا ادري ان كنت سأكتب جزءا ثالثا ام لا! و ان حصل، فيجب ان يتناول موضوع الحرية الفردية و اتجاهاتها و آليات بنائها و مدى تأثير ذلك على تشكيل او اعادة صياغة الفلسفات و المفاهيم الفكرية لدى الفرد من اجل توحيد مفهوم الهوية الوطنية و ابتعادا عن اطلاق المسمّى بفحاوى مختلفة يصعب معه خلق محور الوطن و هويته الموحّدة.

تحياتي
مازن البلداوي
majin.mn48@gmail.com

About مازن البلداوي

مازن البلداوي كاتب عراقي
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.