الذين باعوني بمقابل وبدون مقابل

jihadalawnaكثيرون هم الذين باعوني منذ نعومة إظفاري وحتى إعداد هذه المقالة, وعلى ما أذكر أول من باعني كان زميلي في الدراسة وأنا في الصف التاسع, كان هذا الزميل حمارا في القراءة وكان يجلس بجواري وطلب منه استاذ اللغة العربية أن يقرأ الدرس بصوت جهوري فكنت أنا ألقنه كيف يقرأ خوفا عليه من عصا الأستاذ, فاقترب الأستاذ منه وقال له: مين يا حمار بلقنك وبغششك؟ فقال: لا أحد, فعرض عليه الأستاذ إعفاءه من الضرب إن أخبره عمن يغششه, فقال له: (جهاد) هو اللي غششني, فضربني الأستاذ 4 أربع عصي مطرق رمان وصفعني كفا على وجهي ما زال إلى اليوم صوته يرن في أذني مثل جرس الكنيسة, وهذه أول مرة كنت اشعر فيها أن الذين أدافع عنهم بإمكانهم بيعي في سوق الحمير أو أسواق النخاسة, وعلى فكرة حتى اليوم كل الذين باعوني وما زالوا يبيعونني هم أولئك الذين أعمل من أجلهم وأتحمل الأذى أما أولئك الذين لم أعمل من أجلهم ولم أكافح من أجلهم لم يبيعوني.
وعندما بلغت من العمر 16 سنة نزلتُ للعمل مع العمال فقام رجلٌ أمامي بضرب رجل مصري مغترب حتى أغمى عليه وداس على رأسه بحذائه فلم تتحمل أعصابي هذا المنظر الشنيع وكان الرجل ضخما جدا فقمت على الفور وضربته بحجر صوان ثأرا للإنسانية فقام الرجل باستدعاء الشرطة ودماءه تسيل على الإسفلت وفي محضر الجلسة أثناء السين والجيم والاستجواب أنكرت أنني ضربته فشهد الرجل المصري الذي دافعت عنه بأنني أنا من ضرب ذاك الرجل الضخم بالحجر, وهذا الذي دافعت عنه كان ثاني رجل يبعني وكل ذنبي أنني دافعت عنه أمام رجل ظالم, ويومها لولا تدخل الأقارب وحلوا المشكلة وديا مع أهل الرجل المصاب ودفع أعمامي تكاليف علاجه بمستشفى خاص لدخلت سجن الأحداث لأنني يومها لم أكن قد بلغت السن القانونية للمثول أمام القضاء.
وثالث رجل باعني حين كنت اعمل في مدينة العقبة على الميناء حيث قام موظف كبير بضرب مراسله بالحذاء وكان عمري وقتها عشرون عاما فقمت على الفور ورفعت رجل الرجل عن رقبة المراسل(الفراش) الضعيف البنية فقدم بي المسئول شكوى رسمية وكان أول من شهد عليّ بأنني معتدي وآثم هو نفسه الفراش(المراسل) الذي دافعتُ عن كرامته ويومها تم توقيع أقصى العقوبة بحقي وهي انذار رسمي مع لجنة تحقيق وحسم أسبوع كامل من راتبي, عدتُ يومها إلى مكان سكني وأخذتُ أذرفُ بالدموع على نفسي وعلى أولئك الذين أدافع عنهم كيف يبيعونني كما بيع أرسطو وأفلاطون والمسيح.
يومها اجتمع بي أهلي وأقاربي وقالوا لي: إنت عايش مثل دون كيشوت في عالم الفروسية وعالم وزمن الفروسية قد انتهى , والناس لا تستحق أن تدافع عنها ويومها وصل الخبر إلى جدتي الحنونة رضي الله عنها فقالت لي على الهاتف مثلا شعبيا وهو ( إن شُفت الأعمى جُبه أمنتيش أشفق عليه من ربه) وجُبه تعني : أتركه, فقلت لجدتي: والله ما لي دخل بالمشكلة, فقالت يومها عني كلمة صادقة وهي ( إنت بتدخل حالك بمشاكل الناس وشايل الدنيا على قرنك) فهمت يومها أن الغبار الذي على حذائي ونضالي وكفاحي لا يستحقه هؤلاء الأوغاد, ولكن أصررت على أن الظلم الذي يقع بحق الناس والبشرية نحن مسئولون عنه بحكم أننا حساسون ونرى ما لا يراه الإنسان العادي.
بقيت بعد هذا فترة طويلة من الزمن لا أدافع فيه عن أحد, ولكن في سنة 1994م, كانت ساعة الكهرباء التي تغذي منزلي معرضة لمياه الأمطار فأحضرت فني كهرباء إلى منزلي من أجل علاج المشكلة فقال لي: بإمكاني نقلها لك من هنا إلى هناك, فقلت: بصير يعني؟ قال: طبعا, فنقلها لي, وبعد مضي أربعة أيام جاءتني كبسة ولجنة من شركة الكهرباء اتهموني بها بتغيير مكان ساعة الكهرباء دون إذن مسبق منهم, فقلت: وكيف عرفتوا؟ فقالوا: اللي نقلها لك قام بالتبليغ عنك, وبعد التحقق من صحة الموضوع تبين لي أن هذا الفني باعني لشركة الكهرباء بدينارين أردنيين, وهذه أول مرة اشعر فيها أن ثمني بخس وهو ديناران فقط لا غير, تصوروا كيف أخذ مني يومها 18 دينارا ثمن نقله لساعة الكهرباء وبنفس الوقت باعني بدينارين, يومها جثوتُ على رُكبتي وتساقطت دموعي على الأرض, وكدتُ يومها أن أدخل السجن وأن أحال إلى المحكمة لولا تدخل محافظ مدينة إربد الذي كانت تربطني به علاقة صداقة قوية, واكتفوا الشركة بتغريمي 45 دينارا أردنيا كعقاب لي على نقل ساعة الكهرباء.
وفي عام 1995م, باعني مجموعة من العمال والشغيلة لرئيس قسم العمل في جامعة اليرموك بدون مقابل, كانوا قد اعترضوا على بعض الممارسات وكلفوني بالحديث نيابة عنهم وحين أستجوبهم رئيس القسم اتهموني بأنني أنا من قام بالعصيان وبالاقتراحات كلها, يومها سقطتُ على الأرض مغشيا على وجهي وهمتُ يومها في شوارع اربد, لم يكن يومها بيعي مقابل دراهم أو دنانير معدودة بل باعوني بالمجان, انه كلما تقدم بنا الزمن أكثر كلما صارت الناس أرخص, فالذي باعني لشركة الكهرباء مقابل دينارين هو أرحم بكثير من الذي باعني بدون مقابل, والمثل الذي كانت تقوله جدتي دائما كنت أستذكره وهو ( أنا انداري عن سيدي ليش باعني؟ هو زهد بي ولا احتاج الدراهم) يومها كان قد مضى على وفاة جدتي أكثر من عامين ولو كانت على قيد الحياة لضربتني على رأسي بالباكور حتى أصحو.
والمشكلة أنني لم أتعلم من أخطائي أو أنها طبيعة تسري في جسدي فما زال الناس يبيعونني, ففي عام 1997م, كان قد باعني مجموعة من الموظفين والموظفات لدائرة المخابرات العامة بدون مقابل, يومها كلهم شهدوا على كفري وإلحادي ورفضي للصلاة مع المسلمين كوني من عائلة مسلمة, وبعدها بعام باعني أخي للأمن العسكري أيضا بدون مقابل, ولكن في سنة 2004, باعني مجموعة من العمال والشغيلة في مصنع صيني للألبسة بمدينة الحسن ولكن ليس مجانا بل مقابل وجبة شاورما حجم جامبو كبير.
وها أنا اليوم اتعرض للبيع بمقابل وأحيانا بدون مقابل, فهنالك قصص كثيرة عن بيعي لا يسعني الوقت لذكرها, فهنالك من باعني مقابل صحن حمص, وهنالك من باعني مقابل باكيت دخان, وآخرون باعوني مقابل سيجارة واحدة, وأذكر بأن رجلا في الخمسين من عمره باعني وأنا أعمل بجامعة اليرموك مقابل غمزة عين من موظفة تصغر ابنته بعامين, الذين باعوني سامحهم الله كنت وما زلت أفكر نيابة عنهم وأعيش معهم مآسيهم واشعر بهم, فالعمال في مدينة الحسن كانوا مستاءون من ظروف العمل الصعبة فأردت مساعدتهم بالوقوف معهم كوني مراقب عام على الشغيلة ولكنهم يا للخزي ويا للعار باعوني وتخلوا عني مقابل وجبة شاورما, وهذا أقل سوء من الذين باعوني مقابل كيس أرز الحصاد أو الشعلان سنة 2011م, اثناء الانتخابات, فكلهم أو كل أهل القرية باعوني لنائب انتهازي مرابي مقابل أن يحصلوا على كيس أرز ولتر زيت ذرة مغشوش وأحيانا مقابل 2 كيلو زيت زيتون مغشوش وليس أصليا, الكل باعني وأنا سامحت الجميع, حتى المرأة التي أحببتها من كل قلبي كانت قد باعتني لقواد صاحب بسطة دخان وتنكرت لكتبي وأشعاري ومؤلفاتي واتهمتني بأنني لستُ واقعيا وبأنني أعيش مع كتبي وأوراقي في عالم افتراضي من صنع خيالي وأوهامي, وباعتني أول امرأة أحببتها لآذن مدرسة هي وأهلها ولم تعجبهم أفكاري وقالوا عني مجنونٌ برخصة رسمية, والذين باعوني وقبضوا ثمني والذين باعوني بدون مقابل كلهم لا يوجد من بينهم رجلٌ أو امرأةٌ غريبة بل كلهم من أهلي وأقربائي وجيراني, لم يبعنِ صيني ولا أمريكي ولا يهودي ولا مسيحي, بل باعني المسلمون وأبناء العمومة والجيران والأهل والأقارب وزملاء العمل الذين كنت أعيش معهم أكثر مما أعيش مع زوجتي وأولادي, باعني زملاء كنت أراهم يوميا أكثر مما أرى أمي, باعني أخي وباعتني أختي, وباعني جاري وابن عمي, لم يبعنِ الماني ولا ياباني ولا طلياني, باعني أبناء جلدتي الذين أفكر بتخليصهم مما يعانونه ومن الظلم ومن الاضطهاد الذي كانوا وما زالوا يواجهونه, باعني السماسرة والأقزام والأنذال, باعني اللصوص والقوادون والسرسرية والحرامية, باعوني للشيطان الأكبر وللشيطان الأصغر, كيف لا يبيعونني وقد باعوا أنفسهم للشيطان ولم تعز أنفسهم عليهم فكيف سأعز عليهم أنا!! باعني كل من أصبح وكيلا للشيطان, باعوني وباعوا ضمائرهم وباعوا أصواتهم لمن يشتري الذمم والشرف بالأموال المغسولة, باعوني وأكلوا بثمني خبزا, وأسفي الشديد على الذين يبيعونني اليوم بدون أي مقابل ولا حتى من أجل سيجارة أو بمقابل دينار أو دينارين, زمان أو سابقا كان الذين يبيعوني أفضل من الذين يبيعوني اليوم فاليوم أباع يوميا بدون أي مقابل, والمصيبة أن الذين رفضوا بيعي أو شرائي كانوا قد تنازلوا عني فيما بعد وباعوني بعد أن حسبوا حساباتهم بشكل دقيق فوجدوا أن بيعي أفضل لهم من الاحتفاظ بي, باعوني وكان الأولى بهم أن يشتروني, خانوني وكان الأفضل لهم ولي أن يخلصوا لي, سرقوني وكان من الواجب عليهم أن يحموني, ظلموني وكان الأولى بهم أن ينصفوني, فمن يشتري اليوم رجلا مثلي كل همه التفكير بغيره, والذين تألمت من أجلهم وتصارعت مع الأشرار لأجلهم باعوني وشهدوا عليّ شهادة زور بدون أي مقابل, ما زالت زوجتي إلى اليوم تشهد على دموعي ونواحي كل مساء وكل صباح عندما تذهب السكرة وتأتيني الفكرة وأفكر بأولئك الذين باعوني بمقابل وبدون مقابل.

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

One Response to الذين باعوني بمقابل وبدون مقابل

  1. مآرب says:

    هنيئاً لك ولزوجتك حسن طباعك ونبل سرائرك هم خسروا انفسهم وانت كسبت الرضا الذاتي وتذكر ان تتقي شر من تحسن اليه

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.