نقد الحقائق الكبرى : ترفٌ فكري و تهويمات ، أم إنخراطٌ نضالي في هموم الواقع ؟ :ـ

نقد الحقائق الكبرى : ترفٌ فكري و تهويمات ، أم إنخراطٌ نضالي في هموم الواقع ؟ :ـbrainshiting

المعرفة لا تعترف بالخطوط الحمراء التي ترسمها السلطات خوفا على مصالحها أو بتلك الخطوط الحمراء التي يرسمها البعض بإسم المحافظة على الهوية والخصوصية الثقافية والتقاليد والعادات ، المعرفة في حالة تمرد أبدي على جميع الحقائق البديهية والمتوارثة وعلى كل الخطوط حتى تلك الخطوط التي يرسمها البعض بإسم المحافظة على الإلهام أوالمحافظة على العناصر الملهمة للمخيال الجمعي للمجتمع والتي تساعد على شحذ الهمم وتجييش العواطف ، هي لا تعترف بالضرورات الإجتماعية ولا تكترث لمن يقول لها : قفي عندكِ أيتها المعرفة فهذه الأساطير مهمة لتجييش العواطف لمحاربة الأعداء ولتعزيز الشعور بالقومية والوطنية .
المعرفة هي دائما متمردة وثائرة على الخطوط الحمراء التي تُرسم بإسم الخوف على الإجابات والحقائق الكبرى الدينية والايدلوجية ، ولا تصغي لمن يقول لها : إنكِ ستقودين الناس إلى العدمية والعبثية والفوضوية لو شككت في الأديان والقيم والأخلاق المتوارثة ، ستُورِّثي المؤمنيين وجداناً خاوياً سقيماً بعد تجرديهم من يقينياتهم ولن يكون بإمكانكِ أيتها المعرفة ملأها بأوهام وأساطير جديدة .

المعرفة تعترف فقط بالوقائع وبالحقائق بغض النظر عن النتائج الإجتماعية المترتبة عليها أو القيم التي ستنتج عنها أو الحقائق التي ستُدحض بسببها أو العواطف التي ستُجرح بسكاكينها النقدية والشكوكية أو النرجسيات التي ستصاب في مقتل أو اليقينيات التي قد تستحيل بمطارقها ومهاويها إلى أوهام .
ولكن وبالمثل فإن متعة المعرفة لوحدها ـ ناهيك عن منتجاتها الإستهلاكية كالتكنولوجيا والأدوية الطبية الحديثة ووسائل الإتصالات وغيرها ـ ستكفر عن كل تلك الجروح النرجسية التي ستُصيب المجتمعات من مغامراتها التي تنتهي دائما بإماطة اللثام عن اليقينيات الكبرى وفضح زيفها وأوهامها وتعرية الإجابات الكبرى والكشف عن قزميتها دون إكتراث بالكتل البشرية الهائلة التي تدعم تلك اليقينيات وتزود عنها بكل قوتها وجبروتها .

فدائما وقفت الغالبية والسلطة والعاطفة مع الأوهام والأكاذيب والأساطير ، ووقف مع المعرفة قلة قليلة مجردة في الغالب من السلطة السياسية والنفوذ الوجداني ولا تحظى بأي تعاطف من تلك الكتل البشرية الضخمة والمهووسة ، بل العكس كانت تلك الاقلية التي أنتجت المعرفة مستهدفة حتى بدنياً من قبل الجميع ، ولم تكن مسلحة إلا بالمنطق والعقل والنقد والموضوعية والحياد العقلاني والتنكر للمسلمات الإعتباطية ، ورغم ذلك إنتصرت في النهاية وبات الجميع مقتنعين بكروية والأرض ولا مركزيتها وبأنها من تدور حول الشمس لا العكس ، وإنهار النظام البطليموسي والارسطاليسي الذي سيطر لأكثر من ألف عام وحظي بتأييد الجميع وبقوة السلطة والدين .
فالمعرفة لها القدرة على الثبات والإنتصار على غوغائية الجماهير، وما مسيرتها التاريخية في أوروبا على سبيل المثال إلا صراعاً مع الغوغاء والعوام الذين حاربوها بمنتهى الشراسة والعنف لأنها تزلزل يقينياتهم وتهز مسلماتهم وتسحق وتدمر ثوابتهم وتقضي على مصالح الكثير من نخبهم وقاداتهم وزعمائهم ، لكن رغم ذلك إنتصرت المعرفة هناك ـ في أوروبا ـ في النهاية وفرضت منطقها على الجميع بإسم التنوير والعقلانية والعلم .

للأوهام والأساطير والإجابات الزائفة الكبرى عن أصل الوجود ومآله وعن الغاية من وجودنا وحياتنا وعن مصيرنا ونهاياتنا فوائد إجتماعية ووجدانية لا تُنكر بالطبع ، ولكن هل وجود فوائد لها تنفي وهيمتها أو زيفها أو لا موضوعيتها أو لا عقلانيتها ؟ هل الفوائد تلك تُغنينا عن الفوائد الأكثر التي تنتظرنا من المعرفة لدرجة أن نُضحي بالمعرفة الحقيقية ونستسلم ونقنع بالفوائد الناتجة عن الأوهام كما يقنع المدمن بالفوائد النفسية الزائفة والعزاء الباهت الذي تقدمه له المخدارات ؟

أيهما أهم وأجدى : أن نبحث عن إجابات حقيقية للأسئلة الكبرى وأن نخوض مغامرات العقل ونطلق له العنان لإطلاق طاقاته الإبداعية وقدراته القادرة على بلوغ الأسباب وطي المجرات والكشف عما وراء الظواهر الخادعة ، أم أن الأهم والأجدى أن نقنع بالإجابات الموروثة البائسة التي تقدمها لنا الأديان والتقاليد والعادات والاباء والأجداد ؟ أيهما أهم وأجدى : أن نمتلك ترسانة مهولة من المخزون العاطفي والوجداني المخيالي الأسطوري الذي يساعد القادة المعتوهين على تجييش العواطف وتعزيز النزعات القومية المتطرفة بإسم حب الوطن والدين ومحاربة المستعمر والإمبريالية وكافة أعداء حكامنا الدونكيشوتيين ، أم الأجدى والأنفع لنا أن نكتشف تلك الخزانة الغامضة اللانهائية من التساؤلات الممتعة والإجابات المنطقية والعقلانية التي تقدمها لنا مناهج المعرفة العلمية والواقعية والتاريخية ذات الطابع الموضوعي والتي تُغفل تماما في بحثها عن الحقائق الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة والتحيزات اللا عقلانية والعواطف الذاتية ؟

الكثيرون يعيبون علينا نقدنا للمدارس التجديدية الدينية ويعيبون علينا التشكيك في الأجوبة الكبرى العقائدية ويتهموننا بأننا نؤلب الناس وننفرهم من التجديد والتنوير وندفع بهم لأحضان السلفية والأورثوكسية حفاظا على أديانهم وقناعاتهم الإيمانية وتقاليدهم وعاداتهم التي تهددها شكوكنا فيها ، الكثيرون يقولون بأن المعركة الان ضد السلفية حصراً وأن الأولوية ليست لممارسة النقد الراديكالي لكل الأفكار والمعتقدات ، وإنما فقط الأولوية لنقد السياسي والسلفي .
ولكن هل تعترف المعرفة بسلطة المصلحيين السياسيين والإجتماعيين أو أصحاب المشاريع النضالية ؟ هل ثمة سلطة تُملي على المعرفة ـ بغض النظر عن ماهيتها ـ ماهية القضايا التي يجب أن تشتغل عليها وماهية القضايا التي يجب تأجيل النظر فيها وماهية القضايا التي لا يجب قط النظر فيها ؟

ألم تعتبر الشيوعية السوفيتية أن الأولوية لنقد الفلسفات البرجوازية التي ولى أوانها بإنبثاق فجر الثورة البلشفية وأن أي نقد للماركسية أو لايدلوجيا الطبقة العاملة هو ترف فكري وتهويمات بعيدة عن واقع الحياة والمجتمع على أحسن الفروض ، وعلى أسوئها محاولة إمبريالية للتغبيش على حقيقة الصراع والتناحر الطبقي ؟ ،ألم تعتبر الكنيسة التي سيطرت في القرون الوسطى أن الأولوية للتوفيق بين الأرسطالية وتعاليم الكتاب المقدس وما عدا ذلك هرطقة تستحق الحرق ؟ ألم يعتبر فقهاء الدولة السلجوقية كل العلوم سوى القران والحديث والعلوم النقلية علوماً إما ثانوية أو تزندقا وكفرا ؟ فلو خضع فرسان المعرفة الذين تصدوا لتلك السلطات التي حاولت فرض أولوياتها عليهم هل كانت مسيرة المعرفة الإنسانية لتصل إلى الحداثة والتنوير ؟ لا يوجد معرفة نقدية تجعل هدفها تعرية الأوهام أوالحقائق الكبرى الزائفة غير مفيدة إطلاقاً .

وأكرر أنني لا أنكر فائدة التجديد الديني أو فائدة الكثير من الأساطير الموروثة ولكن فائدتها تلك لا تعفيها من النقد ، ولا تعني أنها محطة نهائية يجب أن يتوقف عندها قطار النقد ، فضلاً أن فائدة الفكرة لا تعني صحتها وصوابها أو لا أسطوريتها ، وإلا إعتبرنا مثلا فكرة الغول التي نُهدد بها الأطفال كي يرتدعوا عن إرتكاب الممارسات الخاطئة هي فكرة غير وهمية ويجب أن نحافظ على خداعنا لهم بحقيقة الغول لأن فكرة الغول فكرة مفيدة تردع الأطفال عن الأفعال السيئة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !

About محمد ميرغني

محمد ميرغني ، كاتب ليبرالي من السودان ،يعمل كمهندس معماري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.