نظرية ( مؤامرة الإستخفاف بنظرية المؤامرة ) : ـ

نظرية ( مؤامرة الإستخفاف بنظرية المؤامرة ) : ـ

القضية التي لا يُمكن إثبات خطأها أو المصمّمة بحيث يستحيل إثبات خطأها هي قضية أسطورية بيانية غير علمية وغير فلسفية ، لا تستمد مشروعيتها من البرهان المنطقي أو الإثبات التجريبي ، ولا قيمة موضوعية لها ، وأيّ قيمة يُمكن أن تُمثلها تلك القضية العصيّة على الدحض فستظل ذات بعد ذاتي متعلق بالوجدان أو السيكلوجيا ، وبالطبع وجودها يقتصر على البعد النحوي / اللغوي فقط . وتلك القيمة سنجد أنّ مردها ليس الملاحظات للعالم الخارجي وإستنباط النتائج وإستخراج المفاهيم بناء على تلك الملاحظات ومن ثمّ تشكل القيمة ، بقدر ما مردها ـ أي تلك القيمة النابعة عن مثل تلك القضايا ـ يعود إلى إسقاطات رغبوية أو براغماتية من الداخل الذاتي على الخارج الموضوعي ، فهي إذاً بمثابة خبرة إنفعالية وليست خبرة عقلية .

تندرج في إطار هذه القضايا أبطال وأشرار الحكايات الأسطورية : مثل الغول والعنقاء وطائر الرّخ وأبطال ألف ليلة وليلة و كذلك الغيبيات الدينية ، فكلّ تلك الفرضيات مصمّمة بحيث أنّها غير قابلة للدحض ، لذلك فهي فرضيات غير علمية وغير منطقية ، وفي هذا السياق يُمكن للمرء أن يأتي بملايين الفرضيات من نسج خياله ويُحاجِّج بها ، وفي نهاية المطاف فإنّ عجز الاخرين عن دحض فرضياتك الميلونية تلك لا يعني بأيّ حال من الأحوال صحّتها . فمثلاً لو سألت رجلاً عن مكان المسجد ؟ وقال لك أنّه يقع على بعد شارعين من هنا ، فتلك قضية يُمكن دحضها أو إثبات صحّتها ، إذ ما عليك إلاّ أن تتجاوز الشارعين ، فإمّا أن تجد المسجد ويكون إرشاد ذلك الرجل الذي وصفه لكّ صحيحاً ، أو أن لا تجد المسجد ويكون ذلك الرجل كاذب .إذاً تلك قضية حقيقية غير زائفة لإمكانية التيقن منها .

أمّا ولو وجدت المسجد ، ودخلته ، وسألت الإمام عن الطريق إلى الجنة ؟ وأجابك ، إمام المسجد هذا ، بأنّك لتجد الجنة فعليك بالصلاة والصوم والحج ، فتلك قضية غير منطقية ، بل وزائفة تماماً مثل أي جملة نحوية مكونة من كلمات لا رابط دلالي بينها ، فهي رغم وجودها النحوي كجملة مركبة من أحرف وكلمات إلاّ أنّها جملة عبثية دلالياً ولا معنى لها ، وتلك الجملة تماماً مثل إفادة إمام المسجد عن الطريق إلى الجنة ، لأنّه حتى لو صلّيت وصُمت وحججت فلن تتأكد من صحّة كلام إمام المسجد بخصوص الطريق إلى الجنة على العكس من كلام الرجل الذي حدثك عن الطريق إلى المسجد .

نفس المسألة تنطبق على نظرية الخلق ، فمثلاً لو سألت أحد المؤمنيين : هل السلوك الإنساني في جانب أساسي منه جيني كما برهن على ذلك العلم ، أم إلهام من الله كما يقول القرآن ( ونفسٌ وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها ) ؟ فسيقول لك ذلك المؤمن : (( بأنّ النظريتين لا تتناقضان ، فالله ألهم الجينات الفجور والتقوى ، والجينات جزءٌ من النفس إن لم تكن النفس ذاتها )) . وهكذا لن تستطيع إطلاقاً دحض نظرية الخلق على سطحيتها ، بل إنّ سطحيتها تلك نابعة من الأساس من إستحالة دحضها أو التيقن من صحّتها .

وبالطبع فإنّ تلك الاساطير والغيبيات الدينية لا تطمح إلى البرهان العقلي ، أو تتطلع إلى الإثبات التجريبي ، على الأقل لدى المؤمنيين المتصالحين مع حقيقة لا علمية الغيبيات التي يؤمنون بها ، ولكن حتى تلك القناعة من هؤلاء المتصالحين مع حقيقة لا علمية الغيبيات تُدخل أصحابها في إشكالية أخرى من حيث التماسك المنطقي ( الداخلي ) لتلك القناعة التي تبنوها، تتمثل تلك الإشكالية بلا عدالة العقاب لغير المؤمن بالغيبيات ، فما دام الإيمان بالغيبيات تجربة ذاتية ذوقية نسبية وجدانية لا علاقة لها بالمنطق أو العقل فمن الظلم محاسبة الاخرين على عدم الإقتناع بها وإدخالهم إلى جهنم وبئس المصير .

تلك قضية أُخرى قد نفرد لها حيزاً كي لا يتسع موضوع بحث هذه المقالة ، وبالعودة إلى الموضوع فإنّنا نجد نوعاً اخر من تلك القضايا الغير قابلة للدحض ، لكنها هذه المرّة تحاول أن تتسم بطابع علمي إن جاز التعبير ، وتتوسل الموضوعية والمنطقية ، لكنها في المحصلة النهائية قضايا زائفة ، تماماً مثل قضية الغول والعنقاء والإله بعل والإلهة عشتار أو الغيبيات عموماً من حيث إستحالة إختبارها أو دحضها ، مثل بعض نظريات فرويد في التحليل النفسي ، فعقدة أوديب التي يرى فرويد أنّها مُتمكِّنة من كلِّ إنسان ذكر ، وأنّها تنطوي على الرغبة في قتل الأب من أجل الإستئثار بالأم ، فتلك نظرية يستحيل دحضها إطلاقا ، لا تجريبياً ولا منطقياً ، فكلّ من سيُنكر إصابته بتلك العقدة وأعرب عن عدم رغبته في قتل أبيه والإستئثار بأمه ، جاءهُ الرّد مُحكماً من النظرية ذاتها بأنّهُ من الطبيعي أن لا يشعر بتلك الرغبة ، لأنّها قد تعرّضت لكبت ، ولا يُمكن الإفصاح عنها إلاّ عند الرضوخ لعملية تحليل نفسي طويلة لأنّ تلك الرغبة قارة في اللاوعي ، فلو أنكر أنّها مكبوته ، جاءهُ الرّد ثانيةً بأنّهُ لا يستشعر الكبت لأنّه مكبوت لا يطاله الوعي وهكذا دواليك . ستجد نفسك كلّما أنكرت العقدة كلّما أحكمت العقدة رباطها حول عنقك .

قضية قريبة من تلك القضية نجدها في الأفلام السينمائية ، حيث يُدخَل البطل إلى مستشفى المجانيين بعد أن يتهمه الأشرار بالجنون وذلك للتخلص منه ، وحينما يبدأ البطل بالصياح بأنّهُ غير مجنون ، خاطبه الجميع بأنّ صياحهُ هذا أكبر دليل على أنّهُ مجنون ، وأذكر أنّ أحد نُزلاء مستشفى المجانيين في أحد الأفلام خاطب البطل ناصحاً له : إياك أن تقول أنّك غير مجنون ، فكلّما أصررت على أنّك غير مجنون منحتهم دليلاً أقوى على جنونك ، وقد ذكّرني ذلك المشهد بأحد الأصدقاء الذي شكا لي من بعض اليساريين الذين يُعقِّبون على مقالاته ويتهمونه بأنّه برجوازي صغير ، وعندما ينفي إنتمائه لوعي البرجوازية الصغيرة ناهيك عن الإنتماء لطبقتها ، قال لهُ اولئك اليساريون بأنّ إنكارهُ لإنتسابهِ للبرجوازية الصغيرة هو أكبر دليل على إنتمائه لذلك الوعي ولتلك الطبقة ، وذلك لأنّ ديدنها هو إمّا النفاق أوالمعرفة المشوّشة بالذات .

ومن كلِّ تلك الأمثلة للقضايا الزائفة التي يستحيل إثبات خطاها أو صحّتها منطقياً أو تجريبياً نكشف عن آلية جدالية تستخدمها تلك القضايا الزائفة تتمثل بجعل النقد الموجه لها نقاط إثبات لها على نحوٍ لا يخلوا من الطرافة التي تُغرقني في نوبة من الضحك كلّما إستخدمها أحدٌ معي وهذا ما أريد الحديث عنه في هذه المقالة بعد مقدمتي الطويلة أعلاه

إذ كنتُ أتناقش مع أحد القوميين العرب حول ( نظرية المؤامرة ) والتي تُرجئ كلّ سلبيات المجتمع وإخفاقات النخب وقتامة الواقع إلى العدو الخارجي المُتربِّص بالأمّة منذ فجر ميلاد نهضتها ، وهذا العدو بالغالب الأعم هو الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ، حيث قلتُ لهذا القومي العروبي : بأنّ نظرية المؤامرة أصبحت شمّاعة يُعلِّق عليها الجميع أخطائهم وأُسطوانة مشروخة معادة ميلون مرة . فقال لي ذلك العروبي : (( بأنّ هذا التصور الرافض لفكرة المؤامرة والمُستخِف بها هو في حد ذاته من ترويج الأمريكان والإسرائيليين ، أي أنّهُ بحد ذاته مؤامرة أيضاً )) ، وهكذا أدركت أنّني لن أستطيع قط إثبات خطأ تلك النظرية ، تماما مثلما عجز صديقي عن إقناع اليساريين بأنّهُ ليس برجوازياً صغيراً ، وكما عجز بطل الفيلم السينمائي المُتهم بالجنون عن إثبات عدم جنونه ، وكما حاول أحد الذكور إقناع فرويد بأنّهُ غير مصاب بعقدة قتل الأب ، حيث وجدت نفسي مثلهم متورطٌ أكثر في إثبات صحّة ما أريد دحضه ، وأنّني كلّما إستمتُ في رفض نظرية المؤامرة وسقت الحُجّج والبراهين على ذلك ، كلّما تورطت أكثر ـ حسب إعتقاد محاوري ـ بإثبات نظرية المؤامرة .

لذلك بإعتقادي أنّ فكرة المؤامرة هي فكرة غير منطقية وغير علمية مثل تلك النظريات التي ذكرتها في صدر هذه المقالة ، أي أنّها قضية زائفة من الأساس فهي كما قلت شماعة لتعليق إخفاقات الذات والتهرب من نقدها ومن إستحقاقات فشلها على أكثر من صعيد كما بات واضحاً في مجتمعاتنا التي أصابها النكوص في كافة ميادين المعرفة والنشاط الإنساني ، فبدلاً من إرهاق العقل في تحليل أزماتنا تحليلاً موضوعياً بالنظر إلى معطيات الراهن وكيفية التعاطي معها ، نلجأ إلى أقصر الطرق وأسهلها حتى ولو كانت غبية ، نظرية العدو المتربص بنا .

وهذا ما جعل من هذه النظرية أحد أشكال الأزمة الراهنة وتجلياتها العميقة ، فهي على سبيل المثال فضلاً عن كونها تهرباً من النقد الذاتي ، سلاحاً فعّالاً بأيدي الأنظمة المستبدة ، لا سيّما ذات الخلفية الاديولوجية ( يسارية و إسلامية ) ، فهي وسيلة لتخويف المواطن من العدو الخارجي المتربص به ، وتجييش عواطفه لمحاربة ذلك العدو الخيالي الذي صنعه المستبد ، كما انها ، أي نظرية المؤامرة ، مجال لتفريغ غضب المواطن وتبديد طاقاته النضالية في قضية لا تمس سلطة المستبد ، وبالتالي تُلهي المواطن عن معركته لأجل إستعادة حقوقه التي سلبها منه المستبد وليس العدو الخيالي الذي صنعه المستبد .

والطريف في الأمر أنّه ما إن تُثار أمام المستبد إحدى الإشكاليات الحقيقة للمواطن المتمثلة مثلاً في إنتهاكات حقوق الإنسان ، حتى يعكس المستبد الآية ويزعم بأنّ قضية حقوق الإنسان قضية وهمية الغرض منها إلهاء المواطنيين عن العدو المتربص بهم بالخارج ، وحتى لو إعترف المستبد ببعض التجاوزات في حقوق الإنسان فلا يجوز حسب رأيه التوقف عندها أو نقدها ، إذ لا صوت يعلوا على صوت المعركة ، وبالتالي نجد أنّ المستبد يعمل على تقزيم التجاوزات الحقوقية وتصغيرها وبالمقابل يعمد إلى تضخيم فكرة العدو الخارجي المتربص بأمته وبإنجازاته ، ولا بدع في ذلك ولا جديد ، فالمستبد في مواجهة أزماته يغلب عليه طابع المعالجة السياسية وليس الإنسانية .

وهكذا نجد أنّ حقّ الإنسان في الحياة وفي المعاملة الكريمة وفي العمل وممارسة النشاط السياسي والثقافي وفي المساواة والديموقراطية و حقه بالتعبير عن الرأي بكافة الوسائل والسبل قضايا مرهونة بالتخلص من العدو الخارجي أو بالقضية الكبرى ، والتي قد تكون هنا الفلسطينية أو الأفغانية أو القضاء على الرأسمالية أو هدم إسرائيل أو إحتلال واشنطون أو توحيد الأُمّة العربية أو نشر الإسلام في ربوع العالم ، حيث نرى أنّ الترابي في التسعينيات قد إسترخص أرواح الأطفال في سبيل إقامة دولة الإسلام التي كان يُمني نفسه بأن يكون أمير مؤمنيها . وأنّ تلميذه عمر البشير أخرج الطلاب في مسيرات تهتف بشعار ( 30 مليون فداك يا البشير ) ، فالشعوب في خدمة الشعارات ورموزها ، لا العكس كما هو الوضع الطبيعي .

إذاً القضية لا تنال إهتمام المستبد أو المثقف القومي أو الإسلامي إلاّ لو كانت قضية ( دونكوشيتية ) على غرار القضايا سالفة الذكر . وضحايا دافور البالغ عددهم نصف مليون مدني غير مُهمِّين ، فالأهم هو أنّ قاتلهم يُريد أن يُنشئ دولة العروبة والإسلام في السودان ، وحيث عشرات الالاف من الضحايا في سورية غير مُهمِّين لأنّ سيادة الرئيس ( القاتل ) هو في خط مواجهة مع العدو الإسرائيلي وفي محور الممانعة العربية . فالعرق والشعارات والايدولوجيا مُقدّمة على الإنسان ، وأن يقتلك فارس العروبة وحامي عرينها بشار الأسد أفضل من أن يقتلك الصهيوني نتنياهو ، وأن يقتلك البشير أمير المؤمنيين خير من أن يأتي الأمريكي ويفتتح باراً في الخرطوم ويُبيح شرب الخمر .

المُلاحظ مؤخراً أنّه ـ وبعد أن كانت نظرية المؤامرة محصورة لدى اليسار التقليدي لا سيّما شقه العروبي فضلاً عن الإسلاميين ـ بعد الربيع العربي أصبحت النظرية أحد مفردات الخطاب العلماني ليبرالي أو يساري مناوئ للإسلاميين بينما تخلى عنه الإسلاميين وأصبح بعضهم يستهزئ به رغم أنّه مادة إعتمد عليها خطابهم كثيراً بالسابق ، فبعض العلمانيين يختزلون ظاهرة الإسلام السياسي والتطرف الديني في بُعد المؤامرة الأمريكية ، حيث الإسلاميون ليسوا حصاد بيئة معرفية قاحلة ومناخ يفتقد إلى العلم والعقلانية ، وإنّما الإسلاميون هم حصاد ما زرعه الأمريكان في المنطقة ، وهذا يدل على الطابع السطحي والبراغماتي أو بالأدق الإنتهازي للنظرية .

مما سبق وبالنظر إلى منطق نظرية المؤامرة وإلى مجالاتها التطبيقية التي إتسمت بالإنتهازية والسطحية والتضليلية نجد أنّ ما يسمّى بـ نظرية المؤامرة ليست نظرية بل هي ـ كما وصفتها الدكتورة رجاء بن سلامة ـ هذياناً حقيقياً، لأنّها تتمثل في خطاب ينفي وجود الواقع الماثل أمام الأعين ليبني واقعه الخاص، ومشهده الخاص، وسيناريوهاته الخاصة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !

محمد ميرغني – مفكر حر

About محمد ميرغني

محمد ميرغني ، كاتب ليبرالي من السودان ،يعمل كمهندس معماري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to نظرية ( مؤامرة الإستخفاف بنظرية المؤامرة ) : ـ

  1. عبدالله says:

    وانت لما تناقش في حاجة غلط بعزرك وبقول دمه حامي
    لكن لما تناقش في المبرر للحاجة الغلط يبقى الي بتاناقش فيه بيضحك عليك

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.