بقلم حازم الأمين/
مرة أخرى يختل ميزان العدالة لمصلحة القاتل في سورية. النساء السوريات المغتصبات على أيدي عناصر الأجهزة الأمنية، واللواتي كشفن عن وجوههن للقناة الثانية الفرنسية، روين فظائع ما جرى لهن. ليس اختلال ميزان العدالة في الروايات نفسها، فهذه محطات في سياق من ممارسات النظام كانت ذروتها استعماله الأسلحة الكيميائية. اختلال ميزان العدالة على نحو فظيع تمثل في أن روايات المغتصبات تزامن بثها مع الضجيج الهائل الذي يسود العالم أجمع حول تعاظم ظاهرة التحرش في المجتمعات الغربية، وهذه ظاهرة هددت مستقبل رؤساء مثلما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية، ودفعت حكومات إلى البحث في إمكان إصدار صكوك موقعة، على الراغبين في ممارسة الجنس توقيعها في محاولة لمحاصرة الظاهرة.
في سورية اغتصاب موصوف وموثق، ولضحاياه وجوه وأسماء وسير، ولمرتكبيه أيضا صور وأسماء ووظائف رسمية، وفي مقابل ذلك أشكال متفاوتة من التحرش تتعرض له نساء غربيات، والغرب كله في حال من القلق بسببه. اختلال العدل هنا قد يدفع المرء إلى التساؤل عن مضامين أخلاقية دفعت إلى الذهول من عمليات التحرش، وإلى الصمت حيال الاغتصاب. المزاج الراديكالي للضحية سيذهب إلى هناك، إلى أن من يصمت عن الاغتصاب عليه أن يقبل بالتحرش. والعالم صار صغيرا، ولا يفيد القول بأن الاغتصاب لا يجري في بلادنا. فمن كشف ووثق قصص الضحايا السوريات، هو القناة الثانية الفرنسية، وهي خاطبت في بثها الأشرطة جزءا من الرأي العام الغربي قبل أن تصل القصص إلينا نحن أبناء المجتمعات والدول البائسة.
روايات المغتصبات لم تحمل فقط وقائع ما جرى لصاحباتها. فها نحن نعرف أسماء الأماكن التي وقعت فيها الجرائم. ليس وجه الضحية هو ما كُشف لوحده. هذه المرة صرنا نعرف وجه المرتكب واسمه وموقعه. السيدات السوريات قلن لمن لا يخاطبه مشهدهن، أنت جزء منه، وقلن للرأي العام الغربي أن التحرش في بلادك هو امتداد لاغتصاب في بلادنا، ومن يشيح بوجهه عنا على نحو ما أشاح بوجهه عن غاز السارين الذي تنشقناه، ستلاحقه لعنتنا ولن يقوى على متحرش صغير في بلاده.
لكن العالم فعلا يشيح بوجهه عن الضحية السورية. العالم جاء إلى سورية لإنقاذ نفسه من “داعش”، لكنه انكفأ عن “داعش” ثانية قتلت أكثر مما قتلت الأولى. وإذا كانت “داعش” العالم أكثر صفاقة ومشهدية من “داعش” سورية، فإن ما يحفل به أرشيف العالم من وثائق عن انتهاكات لا تقبل الشك سيتحول إلى ثقل لن تقوى نوايا مقاومة الشر على تحمله. فمن وثائق وصور “قيصر”، إلى تقرير “أمنستي” عن سجن صيدنايا، ومن توثيق “هيومن رايتس ووتش” لضحايا الأسلحة الكيميائية إلى تقرير القناة الفرنسية الثانية عن عمليات الاغتصاب… هذا غيض من فيض الجريمة المنظمة في سورية.
العالم الذي يُناقش اليوم أشكال مقاومة عمليات التحرش في مجتمعاته، لا يمكن له أن يشيح بأنظاره عن المشهد السوري الذي يتكثف فيه الشر، ويفصح عن نفسه ويقول ها أنا ذا، عليكم أن تقبلوا بي شريكا يقف ممثل عني في هيئة دولية ويستمع إلى زميله السويدي يشرح كيف حاصرت حكومته احتمال تعرض سيدة إلى محاولات مديرها في العمل استدراجها إلى قُبلة أو وردة أو لقاء. وربما يُشكك ممثل النظام بجدوى الإجراء السويدي ويصغي له العالم ويستمع إلى نصائحه لتحصين المرأة السويدية من احتمالات التحرش!
والحال أن تخلي العالم عن سورية والسوريين ليس مسبوقا. فعدد القتلى وأشكال الجريمة، كانت قد دفعت العالم إلى التفكير، في يوغوسلافيا مثلا، بأنواع من المحاسبة لم تحظ بها سورية على رغم أن الجريمة فيها مضاعفة. فالمعلومات المتوافرة والموثق جزء منها عن الاغتصابات التي مارستها جماعات النظام صار يصح عليها الحديث عن “اغتصاب منهجي”، أي بمعنى أن الاغتصاب لم يعد حادثا فرديا، إنما صار جزءا من سياسة النظام، والهدف منه الإخلال بعلاقة السكان بمناطقهم التي اغتصبت النساء فيها. جرى ذلك في يوغوسلافيا، واكتشف المحققون أن ميليشيات صربية مارسته ونجحت في إحداث تغيير ديموغرافي جراءه.
يمكن للمرء أن يرصد ملامح اجتماعية للسيدات اللواتي تعرضن للاغتصاب في سورية، فهن يشبهن البيئة الاجتماعية التي يرغب النظام في هز علاقتها بمناطقها ومدنها. هذا افتراض يجب عدم استبعاده في تقصي الاغتصاب في سورية. يمكن الوصول إليه من الملامح الأولية التي ظهرت على الضحايا، وأيضا مما نجم عن كشفهن وجوههن من ذهول وشعور بـ”العار” أبدته أوساط في بيئتهن. فالنظام يعرف تماما أن إلحاق “العار” بعائلة أو مدينة سينجم عنه رحيلها عن مسرح “العار”.
أقوى ما قامت به السيدات السوريات، هو كشفهن عن وجوههن، وقولهن للعالم، نحن أصحاب هذه الوجوه جرى اغتصابنا من قبل أولئك الرجال. ولكي تقاوموا المتحرش في بلادكم، عليكم أن تبدأوا بمقاومة المغتصب في بلادنا.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
كيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟
Published by:علي الكاشمباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراث
Published by:مفكر حردراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.
Published by:آدم دانيال هومه** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا الإطاحة بالنظام الايراني ... غدت ضرورية غربية ودولية **
Published by:سرسبيندار السنديالحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حرأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية