في الامتنان للعدو

الشرق الاوسط

طوال النهار والليل، يقف رجل ما، على الجانب الشمالي من خط الهدنة، ويذيع الشتائم والإهانات والتحقير، للجانب الجنوبي من كوريا. يؤدي كل واحد «وصلته» ونوبته، ثم يذهب إلى الاستراحة. وفي سره، عميقا في سره، يشكر كوريا الجنوبية بعد كل وصلة شتائم وسب. إنها سبب معيشته، ومصدر رزقه، وربة عمله الحقيقية. لولاها ربما مات من الجوع مثل الملايين.

كل عام أو عامين تطلق كوريا الشمالية صاروخا على بحر اليابان ثم تذهب إلى النوم. لقد أمنت دفعة جديدة من طوكيو وواشنطن تكفي لعام جديد. مثل هذه الأنظمة سر حياتها هو أعداؤها وليسوا سر خرابها. أنظمة عدمية عاجزة لا تستطيع أن تصنع صديقا لائقا واحدا فتلجأ إلى السيئ الوحيد الذي تقدر عليه: الجلوزة وصناعة الأعداء.

يستحسن، في العادة، أن يكون العدو شقيقا. كلما كان أقرب كان الجهد العدائي أقل. قف على الجانب الآخر واشتم. وهناك سلة مهملات مليئة دوما ببقايا الاجترار: إمبريالية، ذيلية، رجعية، انحرافية… وترالا لا لا لا لا لا. تعجز هذه الأنظمة عن ابتكار أي شيء، وأن تجدد في أي شيء، حتى الشتم.

تخيل كوريا الشمالية في حالة طبيعية مثل سائر الأمم ليوم واحد: حدودها مفتوحة، وسجونها مغلقة، وشعبها قادر على أن يرى الفارق بينه وبين أبناء عمه في الجنوب. أول يوم لسقوط نظام أنور خوجا في تيرانا زحف الشعب الألباني إلى إيطاليا. برمته؟ تقريبا، برمته. خرج يفتش عن الحياة بعدما أمضى عمرا يصغي طوال اليوم إلى مكبرات الصوت تجتر ألفاظها وهو ليس لديه لقمة يأكلها.

لا تستطيع الأنظمة الطفولية البقاء إلا باختراع عدو تعمل على تضخيمه كل يوم. وهذا الفتى المبجل يعطي نفسه أهدافا كبرى، مثل سحق الإمبريالية، وهزم الرأسمالية، بدلا من أن يضع في الخطة الخمسية المقبلة إنشاء أول مصنع حلوى أو تأمين سبعة أرغفة في الأسبوع (أو ما يعادلها من الأرز) لكل مواطن. أو الحد من ظاهرة موت المواليد الجدد جوعا وسقما ونقصا في الحليب والأدوية.

لا. إنه منهمك فيما هو أهم من ذلك: قصف اليابان وتهديد أميركا بصاروخ نووي عابر للقارات. وشوارع بيونغ يانغ خالية من سيارة تعبرها، ومن شاحنة توزع الحليب، ومن صيدلية غير فارغة الرفوف. كل ما تملكه هذه الأنظمة هو عدو تزعق عليه بالمكبرات عبر خطوط الهدنة، وإذا مات غدا تموت هي. لذلك تحرص على وجوده كمبرر أساسي لوجودها. تصور كوريا الشمالية تصالحت مع الجنوب. غدا لن يبقى شمال. سوف تصير كوريا كلها في الجنوب.

 

About سمير عطا الله

كاتب صحفي لبناني الشرق الاوسط
This entry was posted in ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.