ضريبة بلطجة السياسة الخارجية التركية

الزمان التركية بقلم: لفنت جولتكين

كل شيء بدأ مع حادثة “ون مينت”!! لقد لاحظت السلطة الحاكمة في تركيا شيئًا، ألا وهو: أن استخدام اللغة البلطجية الهجومية العدائية المتحدية في السياسة الخارجية يأتي بفوائد جمة “رخيصة” لا تكلف كثيرًا على صاحبه.

لا ينكر أي إنسان ذي إنصاف تراكُم حقد “مشروع” لدى الشعوب المسلمة تجاه الممارسات الإسرائيلية والأمريكية والغربية منذ عقود مديدة. والتأثير الذي أحدثته حادثة “ون مينت” في منتدى “دافوس” أظهر أن هذا “الحقد” مصدر ثري لا يمكن العثور عليه لتحقيق مكاسب سياسية يومية. ولم تتورع السلطة الحاكمة في تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان في استخدام هذا المصدر “الرخيص” و”الخطير” جدا في الوقت ذاته.

والحال أن العالم أجمع تعامل مع حادثة “ون مينت” بالحيطة والحذر، معتبرًا إياها من قبيل انفجار غضب آني عابر. إذ رأينا أن إسرائيل حاولت بعث رسائل ناعمة مهدّئة إلى الجانب التركي، في مسعىً منها لمنع حصول مزيدٍ من التوترات بين البلدين. كما بذلت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية جهودا من أجل إصلاح العلاقات المتدهورة بين تركيا وإسرائيل.

لكن حكومة أردوغان فسرت تلك الجهود بقولها “إنهم خافوا منا، وأدركوا بأنه لا يمكن الاستهانة بقوتنا، ورأوا أنهم لن يستطيعوا القيام بأي شيء في المنطقة من دون الاستعانة بنا”، فقامت بتنحية اللغة الدبلوماسية جانبًا تنحية كاملة. ولما لاحظت الحكومة أن إسرائيل تخلت عن محاولة إعادة علاقاتها معها إلى مسارها السابق، وراحت تتبنى وتنفذ سياسات تتانقض ومصالحها داست على الكابح ومن ثم بدأت التراجع إلى الوراء.

لكن الأوان كان قد فات.. حيث لم تستطع تركيا إقامة علاقات فاعلة مؤثرة مع إسرائيل مثلما كان في الماضي؛ ذلك أن تركيا إذ كانت توجه تهديدات رخيصة لإسرائيل كشفت في الوقت ذاته للعالم أجمع القناع عن مدى ضعفها وهوانها.

ومن النتائج المؤسفة التي تمخضت عن الموقف التركي المذكور أن فلسطين باتت اليوم وحيدة، وغزة غدت لا صاحبة لها ولا معينة، وصارت تركيا لا تستطيع أن تقول شيئًا لإسرائيل وممارساتها العدوانية ولو ببنت شفة حتى باللغة الدبلوماسية.

وازدادت حدة هذه اللغة العدوانية البلطجية يوما بعد يوم، رغم أنها كانت تجلب على البلد طامات كبرى، من دون أن تأتي بأي فائدة ولو قدر ذرة سوى مصالح عابرة قصيرة المدى للسلطة الحاكمة.

وهكذا أصبحت السياسة الخارجية أداة ومادة للسياسة الداخلية، فراحت الدبلوماسية وحلت محلها اللغة التي تتحدى وتصرخ وتعتدي وتلقن درسا لكل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل وغيرها من دول العالم. فلم تتجنب حكومة أردوغان التنمر والتأسد على أي دولة في العالم وتوجيه أي نوع من الإهانات والاتهامات لها، في سبيل إثارة مشاعر وعواطف أنصارها ومشجعيها لكي يرصوا صفوفهم ويشكّلوا تكتّلاً إيدولوجيًّا مرصوصًا حولها.

ومع أن حكومة تركيا رأت الأضرار الناجمة عن هذه اللغة المتغطرسة من خلال تجربتها مع إسرائيل، إلا أنها فضلت تطبيق النهج ذاته في الأزمة المندلعة مع روسيا. فعندما أسقطت الطائرة الروسية توجهت إلى استخدام “لغة القبضاي” بدلا من اللغة الدبلوماسية كدولة عريقة وقورة. فأخذت العبارات المهددة تتطاير كالشرر في الهواء “نستخدم روث الحيوانات للتدفئة بدلاً من الغاز الروسي إذا لزم الأمر!”، و”أنتم لم تدركوا بعدُ قوة وعظمة تركيا الجديدة!”، و”نحن لم نعُد دولة راضخة تتلقى التعليمات وتخضع لها وتقول لكل شيء نعم.. وإذا تقبلتم بهذه الحقيقة سيصبّ في مصلحتكم!”.. أجل هكذا ركبت الحكومة على مثل هذه العنتريات وما إلى ذلك من العبارات التي تنمّ عن تحديات فارغة لا تتناسب مع “واقع تركيا” لا من قريب ولا من بعيد، وحطمت كل الجسور والروابط مع روسيا.

لكن سرعان ما بادرت الإدارة التركية إلى تقديم الاعتذار لروسيا عندما لاحظت الفاتورة الباهظة التي تمخضت عن هذه اللغة البلطجية، حيث تلقى قطاع السياحة ضربة قاضية، وتوقفت الصادرات بشكل متبادل.

لم تعد روسيا كما كانت رغم الاعتذار، في ظل وجود عديد من التصريحات غير المسؤولة التي صدرت من أعلى هرم السلطة في أنقرة. فضلاً عن ذلك فإن موسكو اطلعت على عورات وسوآت أنقرة وثقل تهديداتها وكم هي ضعيفة وبحاجة إليها في مجالات مختلفة. ولذلك ترفض موسكو اليوم رفع الحظر الذي فرضته على المنتجات الزراعية التركية، ولا تزال تطالب بتأشيرة الدخول، رغم أن أنقرة ألغتها من طرف واحد. ولا تعين روسيا سفيرًا لها في العاصمة أنقرة منذ 103 أيام، كما لا تستنكف قيد أنملة عن تقديم الدعم إلى وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا التي تعتبرها أنقرة من أكثر القضايا الحساسة لديها.

وللأسف الشديد فإن تركيا لا تمتلك في الوقت الراهن أي قدرة على التفوّه بأي كلمة ضد روسيا، كما هو الحال مع إسرائيل، بل إنها تعجز اليوم حتى عن إبداء أدنى انزعاج تجاهها، حتى راحت تلك التصريحات النارية والاستعراضية والتنمرات والعنتريات التي ما قتلت حتى ذبابة “روسية” لتحل محلها دعوات للصمت والهدوء والحفاظ على العلاقات الراهنة ولو كانت أحادية الجانب.

وما إن ظنّت الإدارة التركية أنها نجحت في استعادة علاقاتها مع الإدارة الروسية عقب تقديم الاعتذار، هبت هذه المرة ليستخدام “العنتريات الفارغة” ذاتها مع كل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي الناتو والاتحاد الأوروبي. فبدأت صحف السلطة تصدر بافتتاحيات تعلن فيها كل يوم إحدى الدول الغربية “دولة إرهابية”، وتطلق تهديدات خاوية من قبيل “نحن من نسيطر على منطقة الشرق الأوسط بعد اليوم، ولا يمكن أن تسقط فيها حتى ورقة واحدة بدون علمنا وإذننا”، وتوجيه دعوات كالأطفال تجبر المخاطبين على التخيير بين أمرين من أمثال “إما أنتم معنا أو مع وحدات حماية الشعب الكردية”. والنتيجة المترتبة على هذه التحديات الاستعراضية هي أن تركيا لم تعد لها وجود لا في سوريا ولا في العراق.

كان أردوغان يطلق خطابات نارية وتهديدات فارغة زاعمًا أنه “لا تسقط ورقة في الشرق الأوسط إلا بعلمنا”، إلا أن الذين استهدفهم أردوغان بهذه العبارات سارعوا إلى القيام بكل الأمور التي أعلنها هو “محظورة” وهدد قائلاً “إن أقدمتم عليها ستتحملون النتائج والعواقب”، وذلك لإظهار مدى ضعفه وهوانه.

فمثلاً رفضت تلك الدول انضمام تركيا إلى عملية تطهير الموصل من عناصر داعش.

وعندما لم يحظ طلب تركيا إنشاء منطقة آمنة في سوريا أسقطته من جدول أعمالها بشكل تدريجي وهادئ.

وكانت تركيا تطالب أمريكا وروسيا بتنفيذ عملية الرقة معها، إلا أنهما تركتاها خارج اللعبة في هذه المسألة أيضًا وفضلتا التعاون مع وحدات حماية الشعب الكردية، ما دفعها إلى التخلي عن أحلامها في شنّ عملية في الرقة ومنبج السوريتين مع أمريكا، لتعلن بعدها فجأة انتهاء عملية درع الفرات على الأراضي السورية، مع بقاء سؤال “لماذا سقط 71 من أبناء وطننا شهداء على الأراضي السورية؟” عالقًا في أذهان الرأي العام دون أن يلقى جوابًا مقنعًا.

كما أن نشوء كيان كردي في الشمال السوري على غرار الكيان الكردي في الشمال العراقي يتحقق بقيادة كل من أمريكا وروسيا، مع أنه يشكل أخطر القضايا المقلقة لتركيا.

ويتشكل وضع جديد في كركوك لصالح الأكراد لا يرضي تركيا، لكنها غير قادرة على فعل أو قول أي شيء إزاء هذا الأمر. فكل الأحداث تتطور في الاتجاه المعاكس للمصالح التركية. إلا أن تركيا لم يعد لها ثقل يمكنها من الاعتراض على هذه الأحداث والتطورات، وإن اعترضت فلن يلقى صدى إيجابيا في العالم الواقعي.

إن تركيا اليوم أمام الفاتورة الباهظة التي ترتبت على ظنّها بأنها غدت دولة كبرى قبل أن تكون كذلك على وجه الحقيقة، بل تحركها وكأنها قبضاي الحارة!

علاقات تركيا تلقت ضربة كبيرة، سواء كانت مع الدول الغربية كأمريكا والغرب وروسيا، أو الدول الإسلامية كإيران والعراق ومصر.

تركيا فقدت كل ثقلها وسمعتها ولم يعد يقام له أي وزن في السياسة العالمية، نتيجة هذه التهديدات والتحديات الطنانة الفارغة، والإهانات والاتهامات غير المعقولة الموجهة إلى دول العالم بأسلوبٍ يضاهي أسلوب قبضاي الحارة.. فقد رأى الجميع كيف أن الحكومة التركية لم تستطع أن تفتح فمها لتتفوه ولو ببضع كلمات، وأن تحدد سياسة معينة للتعامل مع قضية اعتقال السلطات الأمريكية نائب مدير أحد البنوك التركية قبل أيام قلائل، ذلك لأن تلك السياسات الصبيانية التافهة سلبت منها تلك القدرة الرادعة المطلوبة لصياغة مثل هذه الجملة.

إن تركيا تدفع ثمنًا غاليًا – للأسف الشديد – بسبب الدعايات الخاوية التي لا تلامس الواقع والتي تقودها الأقلام والأبواق الإعلامية الموالية للحكومة وأردوغان من قبيل “إننا في حرب ضروس مع كل الدول والقوى العالمية،”، وتوظيف الحكومة السياسة الخارجية كأداة للسياسة الداخلية.

وكما قلت أعلاه فإن تركيا فقدت صفة “الدولة” وكل سمعتها وثقلها في الخارج، بعد أن بدأت تتصرف وكأنها صارت دولة كبرى وهي مفتقرة إلى أبسط أوصافها، ظنًّا منها أن “الدولة الكبرى” تعني التنمر والبلطجية، لدرجة أن عديدًا من المتخصصين والخبراء باتوا ينظرون إلى تركيا الراهنة كـ”دولة مارقة”!

إن المشهد بعبارات مختصرة هو أن أردوغان ورجاله دمروا سمعة تركيا وتجربتها المتراكمة عبر العصور من أجل تدعيم سلطاتهم الشخصية.

واأسفاه على وضع بلدي!

ترجمة: يافوز آجار

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.