رجال حول الأسد.. شكليون للديكور الداخلي وآخرون يدرسون خرائط العالم

العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 12/10/2013، العدد: 9348، ص(12)]

mm16-2

ليسا نظامين، “حكم حافظ الأسد” و”حكم بشار الأسد” ومن الصعب الفصل بينهما سياسيا، وهما يقومان بأداء الدور الوظيفي ذاته الذي أنشئ من أجله حكم ذو اتجاهٍ قومي عروبي اشتراكي شكليّ ذات يوم في آذار من العام 1963.
فعبر مسيرة طويلة من تصفية جميع الشخصيات السياسية المحيطة بحافظ الأسد طويت صفحة العمل السياسي “الرسمي الذي تمارسه السلطة” تماما في سوريا، وتحوّل حافظ الأسد إلى مرتبة من لا يُمكن أن يُناقشه أحد في أي شأن داخلي أو خارجي، ولذلك كان عليه أن يعمل لثمانية عشرة ساعة يوميا، في متابعة كل الشؤون التي كان قد قرّر حرمان غيره من متابعتها، وانسحب كبار السياسيين من البعثيين والقوميين “الناصريين” وتقديم خالد بكداش نموذجا ضعيفا للحليف السياسي، أدى إلى ظهور نمطين أولهما تبعه في تحالفه مع الدكتاتور، وموافقته على شكل العمل السياسي “الباطني” الذي مارسته الجبهة الوطنية التقدمية، وثانيهما كان رافضا تماما لهذا الانخراط في الواقع المزّيف، وكان مصير هذا النمط عشرات السنين من الاعتقال بلا محاكمات ومن ثم “تنقية المجتمع السوري” من أتباع اتجاه تفكير رفض حافظ الأسد الذي لم يكن يسمع سوى صوت نفسه.
مات حافظ الأسد، وترك لإبنه بشار أثقل إرثٍ سياسي يمكن أن يرثه من يأتي بعده أيّا كانت خبراته، فهو بقراره توريث الحكم لأحد أبنائه، يقول للشعب السوري ولجميع سياسيي سوريا، إنه لا يرى في أيّ منهم احتمالا مؤهلا يصلح لمسؤولية كهذه!
بشار الأسد وارثا أرضا سياسية محروقة
لم يكن قد بقي حول بشار الأسد، أيّ من ممارسي السياسة، من داخل مؤسسة الحكم، فالعمل السياسي في عهد الأسد الأب، كان يقتصر على الانسجام مع فكر القائد، والعمل المعارض كان يتجلى في رفض فكر الأسد الأب كليا أو المناورة من أجل البقاء على قيد الحياة وبعيدا عن السجون، أما الأداء السياسي الفعلي، فلم يكن سوى ترتيب العمل التنظيمي وتوزيع السلطات والمكاسب والتقاسم الناعم لوزارات الدولة، بينما كان من يعمل تحت الأرض هم الإخوان المسلمون وحدهم في تداخل مع المشروع الاقتصادي، وقد ثبت أن هذا لم يكن سوى تضخيم لأدائهم طيلة تلك الفترة، وأنهم كانوا هم أيضا في دوامة البحث عن حلول لمعالجة الاعتقالات والإعدامات وإعالة شؤون أسر أعضائهم في الداخل.
أراد حافظ الأسد أن يحكم سوريا من قبره، كما قال إبنه بشار ذات مرة، ولكنه واجه النتائج الطبيعية لتقادم عهد السياسة التي اتبعها في برمجة من حوله، فكان أبرز المغادرين لسفينة الأسد الأب المغادرة، هو نائبه عبدالحليم خدام، الذي انشق عن النظام ولاذ بفرنسا في العام 2005، وبقي حول بشار مجموعة صغيرة يمكن أن يقال إنها ترسم السياسات السورية الداخلية والخارجية، بعد غياب المهندس الأكبر لها “حافظ الأسد”

لفاروق الشرع مسرحه الخاص

.
فاروق الشرع
ولد الشرع في إحدى قرى درعا، في العام 1938 ودرس اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق، وتابع دراسته في لندن في القانون الدولي، وفي الوقت ذاته مديرا للشركة السورية للطيران، وأمضى حياته في تلك الشركة متنقلا بين مكاتبها ما بين دبي والعاصمة دمشق، حتى تم تعيينه وزيرا للخارجية في سوريا في العام 1984، وكثيرا ما عبّر حافظ الأسد عن رضاه عن أداء الشرع، وإعجابه بالقرارات التي يتخذها في اللحظة التي تتطلب منه اتخاذ قرار دون الرجوع إلى الرئيس، فكان دوره في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط الذي عقد في العام 1991، حيث وقف وزير الخارجية فاروق الشرع لإلقاء كلمة وفد بلاده في المؤتمر أسوة بباقي الوفود، فقدّم كلمته ارتجالا، فكانت عرضا سياسيا غريبا عن أداء الدبلوماسيين السوريين الذين استقر بهم الحال على تنفيذ التعليمات فقط، حين استل ورقة من جيبه وعرضها على المؤتمرين في القاعة وعلى الملايين الذي يتابعون البث المباشر للمؤتمر، ولم تكن تلك الورقة إلا صورة عن ملصق وزّعته الشرطة البريطانية لإسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل ورئيس الوفد الإسرائيلي وعليها صورته كمطلوب للعدالة بسبب نشاطه الإرهابي في المنظمات الصهيونية الإرهابية. فكان ذلك خرقا سياسيا، تلته رحلات الشرع المكوكية، على مدى سنوات توليه المنصب، حتى العام 2006.
ثم كان للشرع مسرحه الخاص في مباحثات بلدة شيبردز تاون الأميركية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، حين أصرّ الشرع على رفضه مصافحة باراك طيلة فترة المباحثات، مما ترك انطباعا إيجابيا لدى السوريين والعرب المولعين بالاستعراضات العاطفية، في الوقت الذي كانت القنوات السرية للتفاوض بين نظام الأسد والإسرائيليين مستمرة قبل شيبردز تاون وبعدها، ولم يكن أقلها لقاء رئيسي أركان الدولتين حكمت الشهابي وشاحاك في العام 1995 وغيرها من اللقاءات ذات المستويات المتدرجة.
ترك انشقاق عبدالحليم خدام فراغا شكليا لدى نظام بشار الأسد، وأراد ملأه برجل قادم من الذهنية نفسها، العمل الدبلوماسي السياسي، من البعثيين القدامى ومن المرجعية الدينية ذاتها، من السنة السوريين، فكانت ترقية الشرع لمنصب نائب رئيس الجمهورية، ومعه الدكتورة نجاح العطار في محاولة لإعادة إنتاج نظام الأسد الأب، ولكن هذه الترقية كانت نهاية الشرع الذي انعزل تماما، وصار يتابع الصحف في مكتبه أكثر من متابعته الأحداث السياسية عن كثب، ويكتفي باللقاءات البسيطة في تعمّد واضح أراد منه أن يحفظ اسمه وسمعته قبل أن توجّه له الإهانات تلو الأخرى كما جرت العادة مع أسلافه، أو أن يعثر عليه أحد منتحرا في مكتبه ذات صباح، وكان على الشرع أن يرقّع الأخطاء السياسية الكبرى التي وقع فيها بشار الأسد شخصيا، في النطاق العربي والدولي، كما في تخريبه للعلاقات مع ما أطلق عليه وقتها “محور الاعتدال العربي” ووصفه للقادة والملوك العرب بأنهم “أنصاف رجال” فكان فاروق الشرع هو من سيبرّر ويوضّح ويذهب في زيارات أداء واجب وتعزية ومباركات وترضية لإعادة تقبّل بشار الأسد من قبل دول المنطقة.
ولما اندلعت الثورة السورية في العام 2011، عاد نظام الأسد إلى ورقته القديمة المركونة جانبا، فاروق الشرع، ولأن الأمن هو من يرسم السياسات، فقد وقع الاختيار على فاروق الشرع ليقود الحوار الوطني مع الجماهير الغاضبة، ولكن بمعايير الدائرة الأمنية الضيقة وشروطها، فبدا الشرع وكأنه لا يريد مواصلة المهمة، وأنه يائس تماما من نية النظام بالإصلاح، وكانت كلمة الشرع في افتتاح مؤتمر “صحارى” للحوار الوطني في العاشر من تموز يوليو 2011 كـ “وصية شخصية” أراد من خلالها ترك بصمته وبث ما يريد قوله للعالم الخارجي، ما بين السطور: “إن اليوم العاشر من تموز هو بداية حوار وطني وهو ليس كغيره من الأيام لأننا نأمل منه أن يفضي في نهاية المطاف إلى مؤتمر شامل يعلن فيه انتقال سوريا إلى دولة تعددية ديمقراطية يحظى فيها جميع المواطنين بالمساواة ويشاركون في صياغة مستقبل بلدهم”، في اعتراف واضح وصريح بأن المرحلة الماضية والتي استغرقت عقودا طويلة، لم يكن للسوريين فيها أي دور في صياغة مستقبل بلدهم!
مؤكد أن “التحول في مسار القوانين والانتقال من وضع إلى آخر لا يمكن أن يمر بيسر وسلاسة دون عقبات طبيعية كانت أو مفتعلة (..) استندت في معظمها إلى كمّ كبير من الأخطاء والنفايات التي كنا نرميها تحت سجادنا دونما تفكير عميق في قادم الأيام.. أقول باسمكم جميعا إن إيصال أصواتكم هو حق مشروع كما هي المطالب المحقة الأخرى التي تتعلق بحياة الناس المعيشية وهذا الحوار ليس منّة من أحد على أحد ولا يمكن اعتباره تنازلا من الحكومة للشعب بل هو واجب على كل مواطن عندما ننطلق من الإيمان الراسخ بأن الشعب هو مصدر السلطات كباقي الدول المتقدمة”.
وتساءل الشرع بحسرة “لم لا نختصر الخطوات والمعاناة سواء كنا مسؤولين أو مواطنين عاديين ونستفيد من تجارب الشعوب والأمم التي دفعت غاليا من عرق أبنائها ودمائهم لعقود طويلة لتبدأ بعدها مسيرة الإصلاح الديمقراطي التعددي”.
ثم تتالت الأخبار عن انشقاق فاروق الشرع عن نظام بشار، وعن وصوله إلى بلد مجاور، وعن تهريبه، وتتالت المبادرات التي طالبت بتولي الشرع مرحلة انتقالية بحكم كونه نائب رئيس الجمهورية، ولكن أيّا من تلك الأخبار والمبادرات لم يفلح في إعادة خلق دورٍ لفاروق الشرع الذي كان بشار الأسد قد اتخذ قراره بإبعاده حتى قبل الثورة السورية، بسبب انتهاء عصر السياسة في سوريا وسيادة عصر العقل الأمني.

المعلم.. “غروميكو” سوريا

وليد المعلم غروميكو بشار الأسد
وليد المعلم الأكثر ثقافة وهدوءا من بين المحيطين ببشار الأسد، ولكن ربما ليس الأكثر خطورة، فالمعلم يرجع تكوينه إلى نضال سنوات طويلة قضاها في صناعة اسمه، وهو المولود في دمشق في العام 1941 والذي تابع دراسته الجامعية في القاهرة سنوات الوحدة مع مصر، وتخرج فيها في العام 1963 ليحمل بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية، وليلتقي بعدها بوزارة الخارجية السورية على إثر انقلاب البعث، في العام 1964 فهو أحد تلاميذ مدرسة صلاح الدين البيطار في العلاقات الخارجية ومكنته تلك الوظيفة من العمل في عواصم مختلفة في أنحاء العالم، في تنزانيا والسعودية وإسبانيا وبريطانيا موظفا صغيرا في السفارات ولكنه في العام 1975 رقّي إلى منصب سفير في رومانيا، ثم أعيد إلى دمشق في الفترة من 1980 وحتى 1984 حيث عُين مديرا لإدارة التوثيق والترجمة في وزارة الخارجية حتى العام 1990. وعاصر في تلك الفترة أصعب مراحل حكم حافظ الأسد بعد قضائه على الحياة السياسية في سوريا، وزجّه بقواعد الأحزاب اليسارية والإسلامية في السجون، ومع بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرين، عيّنه حافظ الأسد سفيرا لدى الولايات المتحدة وبقي في منصبه حتى العام 1999، فتابع بنفسه جميع فصول مفاوضات السلام السورية الإسرائيلية، ولكنه في الوقت ذاته، قام بتأسيس سلسلة مطاعم واستثمارات في الولايات المتحدة، كي لا يضيّع الوقت، ومع اقتراب موت حافظ الأسد تمّت إعادته إلى دمشق ليصبح في العام 2000 معاونا لوزير الخارجية فاروق الشرع. وفي العام 2005 صار نائبا لوزير الخارجية وتم تسليم الملف اللبناني إليه، وبعد اغتيال الحريري، أصبح وليد المعلّم وزيرا للخارجية السورية، في تثمين لجهوده التي صبّها على تطوير العلاقات مع تركيا، وروسيا، والسعودية، وكثيرا ما أطلق عليه لقب “غروميكو” سوريا، في تشبيه له بالوزير أندريه غروميكو الذي في مذكراته يقول إن الاتحاد السوفيتي طرح أكثر من مائة مبادرة في مجال نزع السلاح، ولكن الغرب أطلق على غروميكو لقب “السيد ..لا” )بسبب صلابة مواقفه وعناده في المفاوضات). أما غروميكو نفسه فقال مرة: “إنهم سمعوا “اللاّءات” مني أقل بكثير من سماعي الـ”نو” منهم، فنحن طرحنا اقتراحات أكثر”.
واتجه وليد المعلّم منذ البداية إلى تقديم ذاته، كمفكر سياسي، فألف الكتب وساهم في النقاشات السياسية في العالم في قضايا مختلفة، وكتب في فلسطين والسلام المسلح في العام 1970 وأرّخ لسوريا في مرحلة الانتداب من العام 1917 وحتى العام 1948. وكذلك في كتابه “سوريا من الاستقلال إلى الوحدة من العام 1948 وحتى العام 1958″ وأخيرا كتب عن “العالم والشرق الأوسط في المنظور الأميركي”.
في زمن الثورة السورية، قرّر نظام بشار الأسد، تصدير مجموعة من الناطقين باسمه، بهدف تخفيض مستوى خصومه من المعارضين السوريين، فكان الأمر سيكون هزليا لو ناقش المفكر المعروف برهان غليون أو سواه وليد المعلّم على شاشات الفضائيات في مناظرات جادّة، ولكن التخطيط السوري كان يقضي بإقصاء المعلّم عن الواجهة وتركه للقاءات الدبلوماسية والمؤتمرات الصحفية التي يكرّر فيها “لاءات” نظامه، والسخرية من المجتمع الدولي، والثبات على موقف رافض لكل تغيير أو تراجع.
يعدّ وليد المعلّم أحد شركاء بشار الأسد في رسم المشهد السياسي السوري، ولكن من دون أن يكون واثقا من نتائج سياسات الرئيس، ولذلك بقي مكتفيا بهدوئه الشديد واستسلامه للموقف الصارم الذي اتخذه بشار الأسد بمعالجة الاحتجاجات الشعبية بالقمع والقصف والتفجير والطائرات والدبابات، وكثيرا ما روى وزراء في الحكومة السورية في أول أيام الثورة في شهر آذار من العام 2011، نقلا عن المعلّم أنه يسمع لأول مرة بأخبار السياسة السورية والقرارات الرسمية الجديدة من خلال “قناة الدنيا” التي يملكها محمد حمشو وماهر الأسد!

فيصل المقداد.. الامتثال الكامل للرئيس

فيصل المقداد
ما لا يقبل به الشرع، تسارع نسخته المعدّلة على يد نظام بشار الأسد والتي مثّلها ” فيصل المقداد” بتنفيذه على الفور، وقد صار لبشار الأسد رجاله الذين لم يكونوا على عهد أبيه، فالمقداد هو الآخر خريج جامعة دمشق قسم الأدب الإنكليزي، وهو الآخر ابن حوران وسهلها المولود في منطقة غصم في درعا في العام 1954، وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي من جامعة شارل الرابع في براغ عام 1993‏. ولم تمض سنة حتى انتقل إلى العمل في وزارة الخارجية السورية، وفي العام 1995 صار عضوا في الوفد الدائم لسوريا في الأمم المتحدة حيث عمل في مختلف لجان الأمم المتحدة ومثّل سوريا في العديد من المؤتمرات الدولية وعين نائبا للمندوب الدائم وممثلا لسوريا في مجلس الأمن، وترأس عدة جلسات لمجلس الأمن كما حل نائبا لرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة وترأس عددا من اجتماعاتها وعيّن سفيرا ومندوبا دائما في الأمم المتحدة في العام 2003 ومن ذلك التاريخ بدأ دوره يبرز، ليصبح بعد ذلك نائبا لوزير الخارجية وليد المعلم، فالمقداد هو صاحب التصريح الشهير الذي فتح الباب لسياسة “الأسد أو نحرق البلد” التي اتبعها الشبيحة، حين قال “لن تكون هناك سوريا إذا رحل الأسد”‏. والذي أكد مرارا أن المعارضة السورية هي من استخدمت السلاح الكيميائي ضد نفسها في غوطة دمشق: “زودنا الأصدقاء بالمعلومات التي تؤكد أن المسلحين هم من استخدموا السلاح الكيميائي في سوريا”.
في العام 2008 استضفته في أحد حلقات برنامج رقعة شطرنج الذي كنت أحرره في الفضائية السورية، وتقدّمه إحدى المذيعات، وقبل التصوير كان لا بد من جلسة خاصة جانبية تحضيرية في مكتب مديرة التلفزيون السوري، سألتُ المقداد للتمهيد للحوار ولوضعه في مناخ نفسي يسمح له بالحديث خارج الخطوط المرسومة سلفا: “لماذا تقعون في أخطاء مع دول الجوار والمنقطة العربية؟ والسياسة السورية معروفة بأنها مرنة حتى مع الغرب، فكيف حصل وحوصرتم؟” قال فيصل المقداد:” المشكلة ليست فينا، المشكلة أن عددا من الحكام العرب، ما زال يتعامل مع السيد الرئيس على أنه إبن (القائد الخالد) حافظ الأسد، وهذا سبب انزعاجا عميقا لدى الدكتور بشار، فهو لا يريد أن يكون إبن الأخ بقدر ما يريد أن يكون فخامة الرئيس، وهذه المشكلة ليست شكلية، فهي تنطوي على عدم احترام لقدرات السيد الرئيس المتفوقة حتى على القائد الخالد والذي لم يواجه الظروف نفسها”!
فكانت منطلقات التفكير السياسي للمقداد الامتثال الكامل لتقديم صورة الرئيس، وليس صناعة السياسة الخارجية وهي الدور الموكل إليه، بالتشارك مع وزير الخارجية وليد المعلم، ولأسباب جوهرية ترجع إلى طبيعة النظام المخابراتية التي لا تسمح لأي من العاملين في المواقع الحساسة بالعمل منفردين، وقد عرف الجميع أن فيصل المقداد ليس صانع سياسات، وأنه موظف صغير في حلقة الأسد السياسية، ولكنه ضرورة محلية له، لأسباب تتصل بإيهام بعض الفئات الشعبية بأن لهم ممثلين يحيطون بالرئيس، وحين قام الجيش الحر في درعا باعتقال والد فيصل المقداد، لم يكن لهذا أي تأثير معنوي عليه ولا على موقفه من دفاعه عن النظام والجرائم المرتكبة على يد شبيحته وجنوده، فتم الإفراج عن الوالد في صفقة لتبادل المعتقلين ما بين النظام والشعب.

الجعفري سليماني السياسة السورية

بشار الجعفري الأصفهاني
رأس الحربة لنظام الأسد في مواجهة المجتمع الدولي، وكيف لا يكون لتلك الحربة رأس من صنع إيران؟ فبشار الجعفري الأصفهاني الذي حصل على الجنسية السورية بعد سنوات طويلة من عمله في وزارة الخارجية السورية، وبعد ترحال طويل قاده من باريس إلى إندونيسيا، إلى الولايات المتحدة، قبل أن يصبح مندوب بشار الأسد الدائم إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، متنقلا بين اهتمامات تعكس الذهنية التي يحملها والتي عبّر عنها من خلال كتابه الأكثر شهرة” أولياء الشرق البعيد” الذي يتحدّث عن الاضطهاد الذي تعرّضت له شخصيات هربت من بطش الخلفاء العرب لتنقل راية الإسلام في رحلات وفتوحات بحرية سلمية إلى جنوب شرق آسيا وأرخبيل الملايو، وقادها تجار ودعاة وعلماء وجغرافيون و”فارّون من البطش السياسي وضيق الأفق الديني اللذين سيطرا في فترة ما على صناع القرار في أمصار الخلافة”! فيُرجع الجعفري في كتابه الذي أراد له أن يكون رواية تاريخية كي يتيح لخياله أن يسرح في التاريخ كما يحلو له، انتشار الإسلام في أقصى الشرق، إلى سلالة من “آل البيت” ومن أئمة الشيعة، أسسوا ما يعرف بـ “والي سونغو” أي الأئمة التسعة، أبناء الإمام أحمد المهاجر حفيد الإمام جعفر الصادق، ولم يكن جهد بشار الجعفري بأقل من مبشر بالمذهب الشيعي في تلك الأصقاع، ولم يجد خيرا من العماد مصطفى طلاس ليقوم بنشر كتابه ذاك والترويج له من قلب دمشق، ليصدر الكتاب عن مكتبة “دار طلاس للدراسات والنشر” في عشر ة فصول.
الجعفري سليماني السياسة السوريةabss
ويمكن وصف الجعفري بأنه ” قاسم سليماني الدائرة السياسية لبشار الأسد” فهو الممثل الإيراني الذي لا يحتاج إلى العودة إلى رئيسه لاتخاذ القرارات، وهو على اتصال دائم مع أصحاب القرار في طهران، فموظف الخارجية الصغير يحصل على مرتبة وزير مفوّض في السفارة السورية في باريس، في فترة تأهيل بشار الأسد لوراثة الحكم في سوريا، وفي عهد جاك شيراك الذي استقبل بشار في قصر الإليزيه دون أن يحمل أية صفة رسمية، وقد كتبت هاآرتس الإسرائيلية في العام 2008عن الجعفري أنه التقى مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية الأسبق ورئيس حركة السلام الآن الإسرائيلية ” آلون ليئيل ” عدة مرات، بحضور السفير عماد مصطفى.. وأن “ليئيل” قدم تقريرا لوزارة الخارجية الإسرائيلية عن تلك اللقاءات.
ويعدّ الجعفرية. عراب الصفقات السرية للنظام في السنوات السابقة مع واشنطن وإسرائيل، فقد طوّر صداقات عديدة مع كبار رجال الأعمال اليهود الذين لهم أصول سورية، ممن يحتفظون بنفوذ داخل إسرائيل ومؤسساتها، وكان ظهيره في تلك المهمات السفير عماد مصطفى سفير الأسد إلى واشنطن، صاحب الاهتمامات الخاص

عماد مصطفى .. “ودود على غير العادة”

im

عماد مصطفى سفير المهمة الواحدة
عماد مصطفى مدير الجمعية السورية للمعلوماتية وعلوم الكومبيوتر، الذي انتقل بقرار من بشار الأسد ليصبح سفيرا لسوريا في واشنطن، وليبدأ مشوارا هاما وحساسا كان قد ذهب من أجله، وليس لتطوير العلاقات السورية الأميركية كما يفعل سفراء الدول.
تم إرسال عماد مصطفى إلى أميركا لتنفيذ مهمة واحدة محدّدة، هي إعادة تسويق النظام السوري في الولايات المتحدة بكل ما أمكن من وسائل، بما في ذلك استخدام شركات العلاقات العامة، والتواصل مع الصحافة والإعلام والوكلاء، وقد أدى مصطفى مهمته هذه على أكمل وجه، بل إنه ذهب فيها بعيدا، وذلك حين أدرك أن مفتاح الأوساط في أميركا ليس سوى الوسط اليهودي، فكان عليه أن يقيم علاقات مميزة مع ذلك الوسط، وكان مدخله إلى ذلك لقاءاته مع اليهود السوريين.
وفي العام 2009 أرسل جيفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بالوكالة حينها، مستدعيا السفير السوري عماد مصطفى لفتح صفحة جديدة بين البلدين، ليتم اللقاء مع وزيرة الخاريجة في مبنى الوزارة في شارع “سي”، ويعود لمصطفى شخصيا الفضل الكبير في تحسين صورة الأسد في العاصمة الأميركية وفي كسب حلفاء سياسيين أميركيين من الوزن الثقيل من أمثال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور الديموقراطي “جون كيري”، وناشطين مثل مدير اللوبي الاسرائيلي السابق “توم داين”، وعضو مجموعة الازمات الدولية “روب مالي”، والصحافي في مجلة نيويوركر سيمور هيرش وكثيرين غيرهم، ولكن هذا لم يكن عبثا فقد كان نتيجة عمل متواصل على مدى السنوات الماضية، وكاد مصطفى ينجح في إعادة اطلاق المفاوضات بين الاسد واسرائيل مع زيارة مالكوم هونيلين، القيادي اليهودي الأميركي وصديق رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، إلى دمشق ولقائه الأسد.
نشاط غير عادي في بروكلين
كتب الصحفي المقيم في أميركا والذي عاش في دمشق سنوات في التسعينات” روبرت توتل” Robert Tuttle في أطروحته “يهود سوريا” التي قدّمها كمشروع لنيل الماجستير من كليّة الصحافة في جامعة كولومبيا ونشرت في SyriaComment.com في 24 أكتوبر تشرين الأول 2005: “بدأ السفير السوري في الولايات المتحدة، الودود على غير العادة، عماد مصطفى، في حملة علاقات عامة، في محاولة لتمليس بعض الحواف الخشنة في صورة وطنه”. وقد ظهر بشكل منتظم على شاشات التلفزيون، وحاول أن يمد يده إلى مجموعات ومشرِّعين معروفين بعدائهم المزمن لسوريا. وفي كانون الثاني ديسمبر من العام 2005، رافق مصطفى “جون كيري”، المرشح الديموقراطي السابق للرئاسة وأحد واضعي مسودة “قانون محاسبة سوريا” (ووزير الخارجية الحالي)، إلى دمشق لمقابلة بشار الأسد. وطوال العام 2004، ظل مصطفى يقوم بجولات في أحياء جنوب بروكلين اليهودية السورية، معرفا بنفسه إلى أبناء هذه الجالية، عاقدا الصداقات بين صفوفها، وظاهر الأمر تشجيع اليهود السوريين على زيارة وطنهم الأم.
وعلى الرغم من أن العديد من اليهود السوريين يفضلون عدم الخوض في مسائل سياسية جِدية، فإن مَن تكلَّم منهم مع توتل قال إن تغيير النظام، في حالة سوريا تحديدا، يفتقر إلى الحكمة. وقد حاجَجوا بأنه، على الرغم من عدم تعاطفهم مع سياسة سوريا، (وخاصة دعمها لحزب الله وحماس) ومع تفهمهم لسياسة الولايات المتحدة الرامية إلى دفع سوريا إلى تغيير أساليبها، فإن “محاولة زعزعة حكومة الأسد العَلمانية قد يكون خطأ؛ إذ أن بشار الأسد، على حدِّ رأيهم، عامل استقرار في منطقة مائجة وصانع سلام محتمل”.
اخترق عماد مصطفى جالية بروكلين اليهودية السورية بواسطة زوجته، التي صادقتْ إمرأة يهودية سورية تُدعى سليمة البقاعي حين كانت طالبة في جامعة دمشق، وسليمة هي ابنة رجل أعمال بروكلين جاك البقاعي، وكان جاك البقاعي قد هاجر إلى الولايات المتحدة قبل عشر سنوات، لكنه احتفظ، على حدِّ قوله، بروابط قوية مع مسؤولين في الحكومة السورية، فقبل سنتين، كان ما يزال مثابرا على السفر بانتظام إلى سوريا لاستيراد زخارف النحاس الأحمر والأصفر، اتصل عماد مصطفى بجاك البقاعي وعرَّفه بنفسه ويروي عماد مصطفى عن تلك المكالمة : “بعدها سألني البقاعي إن كنت في حاجة إلى شيء، فقلت نعم، أود أن ألتقي بالطائفة الموسوية السورية. وبعد فترة وجيزة، عادوا واتصلوا بي وقالوا إنهم، إن كنت مهتمّا بأن أزورهم، سيسرّهم أن يستقبلوني في مركز جاليتهم في بروكلين”.
وقضى بقاعي والحاخام كاسين والزعيم الحصيدي أفيتال وغيرهم يوما كاملا مع السفير السوري، فاصطحبوه في جولة في الحي، وقال مصطفى إنه لم يسبق له أن أقام صلات مع يهود سوريين من قبل، حتى في سوريا. قال: “إنهم مثلنا… طعامهم، عاداتهم، أعرافهم الاجتماعية، إنهم مثلنا. جميعنا (نحن وهم) مختلفون عن الأميركان… وهذا كان عِبْرَة لي. “وتابع مصطفى: “وللمرة الأخيرة سألوني: “هل نستطيع أن نفعل شيئا من أجلك؟” قلت: نعم، تستطيعون في الواقع. كلما احتفلتم بعرس أو بأرمتسفاح (شعيرة يهودية للاحتفاء بوصول الصبيِّ اليهودي سنَّ البلوغ، ما يؤهِّله لاستلام دينه)، أرجو أن تدعوني، لأني راغب في الحضور”.
وبعد فترة قصيرة من هذا اللقاء، دُعِيَ السفير إلى عرس يهودي سوري في فندق والدورف أستوريا في مانهاتن. وهناك اقترب منه رجل مسن من أسرة “صباص” اليهودية السورية المعروفة: “قال لي: “عمري الآن 72 أو 73 سنة، وعندي حلم.” فسألته: وما هو حلمك؟ قال لي: “أتمنى أن أزور حلب.. هي مسقط رأس أهلي” لم أتردّد وقلت له على الفور بأن يعتبر أن حلمه تحقَّق”.
بعد العرس، اتصل أفيتال (وهو شخصيّا أحد أصدقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون) وسأله عن إمكانية تنظيم زيارة إلى سوريا، وفي ربيع العام 2004، قام وفد مؤلَّف من اثنَي عشر يهوديّا من أصل سوري بزيارة سوريا، يصحبهم السفير مصطفى. وقامت المجموعة بجولة في جميع أنحاء سوريا، فزارت مقبرة اليهود قرب دمشق وأسواق حلب، وقابلت أفراد الطائفة اليهودية الضئيلة التي مازالت تعيش في الوطن. وخلال الزيارة، قابلت المجموعةُ بشار الأسد، وقدمت له هدية عبارة عن شوفَر (قرن الكبش اليهودي التقليدي). وحين انتهى اللقاء، سألت المجموعةُ الرئيسَ إن كان سيدعوهم ثانية إلى سوريا، وقد نقل السفير مصطفى ما حصل: “قال الرئيس : “لا…” فدهشوا من جوابه، ولكن الرئيس سارع بالقول : “لا أستطيع أن أدعوكم للعودة… لا أستطيع أن أدعو سوريين للعودة إلى سوريا… أنتم دوما على الرحب والسعة”.
ولا يتمتع بشار الأسد بـ”التقدير” نفسه الذي كان يتمتع به والدُه حافظ الأسد عند اليهود السوريين، حيث قال بعضهم إنهم يعتبرون بشار صغير السن وقليل الخبرة، يبالغ في الاتكال على مستشارين عديمي الذمة في الغالب، لكن أغلبهم قالوا إنهم واثقون بأنه قادر في النهاية على مواصلة ميراث والده، فقد قال الحاخام حمرا، كبير حاخامات دمشق السابق الذي يعيش حاليّا في إسرائيل، بالعربية: “الحمد لله أن الاستقرار في سوريا استمر. إن وجوده في الحكومة والوضع المستقر الدائم في سوريا هو برهان على نجاحه. لكنه يحتاج إلى وقت لكي يصير في حكمة والده”. وأضاف يهودي سوري آخر: “الأسد (الإبن) هو أفضل رهان لأميركا وللجميع. إذا كان قويّا بما يكفي وتدبَّر أمره، فسيفعل الكثير من الأمور الجيدة. إنه أفضل الخيارات لأميركا ولإسرائيل، مهما قال”.
وقد التقى يوسف جاجاتي رئيس الطائفة اليهودية في سوريا، ببشار الأسد بُعيد أدائه القسم رئيسا للبلاد في العام 2000. وهو يتذكر أنه قال للأسد يومذاك: “آمل وأتشوق إلى اليوم الذي ستذهب فيه إلى القدس وتوقِّع معاهدة سلام. فقال بشار: “كلِّم أصدقاءك في الحكومة الإسرائيلية، كلِّم إيهود باراك.” قلت: أنت صديقي، لا باراك.” ويتذكر جاجاتي أن الرئيس بشار أخبره قبل انتهاء اللقاء: “لقد حزنت حقّا لأن الطائفة اليهودية غادرتْ، وكنت أفضِّل لو أنهم بقوا، وأرجو أن يعودوا”.
نخلص مما سلف أن لا وجود بعد اليوم، للبعث وأفكاره وميوله والروح القومية العربية في خارطة الأسد السياسية، ولا فكر آخر يحمل الكيان المسمّى سوريا، حاليا، بقدر ما أصبح حلم الأسد الأب بالمحافظة على تركته التي تركها لإبنه قائمة، حتى ولو كان ذلك على أنقاض الجمهورية وأشلاء السوريين، وبذلك تكون دائرة بشار الأسد السياسية مهتمة فقط بتحقيق أمر واحد، هو ضمان الاستمرار في الحكم، مضحية بفضائها الإقليمي كلّه، بما فيه العمق العربي، والنطاق الإسلامي، وهو رهان نجح، حتى الآن، في جعل الأسد يستمر رغم كل ما حدث في سوريا، وقد يكون رهانُ الأسد هذا مفتاحا لقراءة الواقع السوري اليوم من قبل المعارضة السورية والدول العربية والإقليمية التي لم تنجح (حتى الآن) في تهديم ما بناه الأسد من جسور على ضفافٍ حساسة في العالم. لا مكان هنا لنظرية المؤامرة. ولكن خارطة للوقائع ومصادر التمكين.

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.