دارنا العربية،الحب الممنوع.

توفيق الحلاق
في تلك الدارالعربية الدافئة ثمة قصص حب واكبت حياة خمسين شخصاً ينتمون إلى مناطق مختلفة من سوريا ولبنان . بعض الأسماء سأغيرها احتراماً لخصوصية أصحابها وقد أصبحوا اليوم في عمر الآباء والأجداد أو أنهم مضوا إلى خالقهم . كانت جارتنا سميرة قد تجاوزت العشرين عاماً فيما شقيقي عبد الوهاب لايزال في الثامنة عشر . وكنت أنا في الثانية عشر يملأني الفضول لمتابعة قصة حبهما البريئة التي كانت تنسجها عيونهم رويداً كما تفعل السحب قبل أن تتجاور وتُحدث البرق والرعد والمطر . كان أخي يعمل في ورشة تصنع الأواني الزجاجية من مخلفات الزجاج المكسر ومن رمل الزجاج المستورد أيضاً ، ولطالما حمل إلى الدار من معمله في حي (الشاغور خضيرية) كؤوساً وأباريق بيضاء وخضراء وزرقاء وعصافيروأفاعي من الزجاج يوزعها على الجيران والأقرباء ومنها كأس على شكل تفاحة كنت أسقي بها رفاق مدرستي أثناء الفرصة زاعماً أن طعم الماء منها أطيب ، وكان بعضهم يؤكد هذه الحقيقة فيما يسخر منهم الآخرون ما اضطرني لسؤال أستاذ مادة العلوم عن رأيه العلمي فقال موارباً : الحقيقة إن شرب الماء من أي وعاء لابد أن يحمل معه ذرات منه . وهكذا فشل الأستاذ في إقناع الساخرين وتمترس كل فريق وراء قناعته . وحدها سميرة آمنت بأن المشغولات اليدوية الزجاجية التي أهداها لها عبد الوهاب تشعرها بالتفاؤل والفرح وتضيف : ( فعلاً شي غريب كلما بمسك وردة أو كاسة أوابريق منها بحس إنو جسمي كلو عم يرجف رجف كأنو فيها بركة سبحان الله !! ) كان عبد الوهاب وقبل أن يغادر الدار يلقي نظرة إلى يمينه حيث تسكن وحدها سميرة في غرفة صغيرة تحت السيباط فيما تتحرك ستارة شباكها تحية له ووداعاً من وسط العتمة . تلك الحركة كانت تمده بالطاقة ليصبر على ذلك العمل الشاق الذي يمارسه في الورشة حتى غياب الشمس . في الشتاء وحيث يصبح الجلوس قرب مدفأة المازوت المستديرة مثل كوب كبيرة سوداء وقد علتها كرة معدنية مفرغة واسمها ( الطاسة ) يهطل منها المازوت قطرة إثر قطرة في انبوب تجري به إلى مستقرها في مايسمى (جهازالصوبيا ) حيث تندلع النار وتشع دفئاً حولها . خلفها كان يحلو لعبد الوهاب الجلوس بعد العشاء وينتظر بلهفة قدوم سميرة . لم تك لتتأخر سميرة فهي تعلم أن وقت استراحة أخي لاتتعدى الساعة ثم يأوي إلى فراشه محطم الجسد ليستعيد بالنوم عافيته استعداداً ليوم آخر ممض في نفخ الزجاج وقصه وتشكيله . كانت غرفتنا طويلة واسمها ( الصاليا ) تمتد مسافة أحد عشرمتراً وعرضها خمسة أمتار ، وكان على الدالف إليها نزع حذائه في العتبة ثم يمضي للجلوس على البسط المفروشة على كل مساحتها ويسند ظهره إلى مساند القش المسنودة بدورها على طول الجدار الأيمن ، بينما يستطيع الشخص المترفع أو العاجز عن التربع على الأرض الجلوس في صدر الصاليا على مقعد خشبي طويل اسمه ( القاطع ) مفروش بالطراحات الصوفية ومساند القش يستغرق صدر الصاليا الذي يحتوي أيضاً وفوق القاطع مباشرة مايعرف ب ( اليوك ) وهو خزانة كبيرة تتسع لفرش النوم والأغطية والمخدات يغلق عليها بابان ضخمان من الخشب المشغول بفنون الرسم الملونة والتشكيل الجميل . لم يك عبد الوهاب وسميرة ليلتفتا إلى جمال اليوك أو زخرف السقف الأخاذ ولاحتى لوجودنا نحن الأطفال السبعة الذين لم نك لنتوقف عن الحركة حولهما وإلى جانبهما ، ولاإلى أمي الرائحة الغادية من الصاليا إلى المطبخ البعيد . هما سميرة وعبد الوهاب إلى جانب بعضهما دون مساس لكن أنفاسهما كانت تلفح وجهيهما فيحمران خجلاً . كانت أحاديثهما عادية تكاد تشبه حديث اثنين غريبين عن الصحة والطقس والعمل لكن حديث قلبيهما كان مختلفاً جداً وهو ماكانا يسمعانه ويتبادلان من دواخلهما عبارات غير مسموعة فيها شوق ولهفة ورغبة يصعب إظهارها أمامنا بل وحتى أمام بعضهما . لحظتان هما الأهم في ذلك اللقاء المسائي بينهما وهما لحظة قدوم سميرة ولحظة وداعها حيث كانا يتصافحان بسرعة يتلون على إثرهما لون وجهيهما إلى الأصفر فالأحمر ثم تتلاقى نظراتهما على استحياء ، وتتلجلج الألفاظ بين شفاههما ( أهلين … عبد … أهلين … سميرة ) لاشيء آخر حدث بين الحبيبين . كانا هكذا مثل طيرين ، مثل قطين ، مثل زهرتين ، مثل كل مخلوقات الكون بريئين لايتجاوزان حدود المألوف في بيئة من أصول ريفية تسمح بالاختلاط المشروط بالعفة كما تصفها جدتي لأمي : ( الشب لازم يكون عفيف ومايعتدي على بنات الناس متل مابيريد ماحدا يعتدي على إخواتوا . والبنت لازم تحافظ على نفسا وماتفرط بشرفا لأنو شرفا من شرف ابوها وامها ) هذه اللزوميات كانت حاضرة في عقلي سميرة وعبد الوهاب دون الحاجة لسماعها مرة أخرى . هما كانا مكتفيان تماماً بذلك اللقاء اليومي ولحظتي المصافحة الساحرتين . كانت سميرة أكبر إخوتها وأخواتها الخمسة وهي قدمت إلى دمشق من أقصى الجزيرة السورية بعدما تحولت أرض أهلها إلى صحراء من ملح نتيجة الجفاف ، وأصبحت إمكانية زراعتها معدومة . كان قدومها إلى دمشق بتشجيع من قريباتها اللاتي سبقنها إليها من منطقتها وعملن في تغليف قطع السكاكر وجنين مالاً أرسلهن إلى أهاليهن هناك . كان على سميرة أن تستقبل كل صباح كيسين كبيرين من قطع السكاكر الصغيرة وأغلفتها الرقيقة الملونة يحضرهما صبي صغير يعود في المساء ليأخذهما وقد تم تغليف القطع فيعطيها خمس ليرات ويمضي . وكثيراً ما كنا نحن أطفال الدار نجلس حول الكيسين في غرفتها ونساعدها في التغليف وننال بعض تلك السكاكر فنفرح . كان لابد لقصة الحب التي جمعت بين عاملين صغيرين منهكين أن تنتهي . ذات صباح جمعة كانت سميرة قد لملمت أشيائها ووضعتها على غطاء فراشها ( الشرشف ) وعقدته عليها فصارت إلى محفظة قماشية ( بقجة ) حملتها ووقفت أمام غرفتها تنظر في أرجاء الداروتكتشف سر محبتها لكل مافيها من حجارة سود وبيض وشجر وورد ماكان ليعنيها لولا ذلك الشاب الصغير الذي فتن قلبها . هي تبكي بحرقة هذه المرة وبوضوح وأمام كل الجيران الذين تحلقوا حولها . لاأحد يعرف حقيقة بكائها المر . يظنون أنها حزينة لفراقهم فقط . وحده عبد الوهاب الواقف بعيداً أمام باب الصاليا وخلف المشهد يعرف . وهو أيضا لم يستطع مغالبة دمعه . قالت سميرة بصوت متهدج متقطع : ( لاتآخذوني الله يوفقكن إذا زعلت حدامنكن بدون قصد ، سامحوني ودعولي ) أقبلت عليها نساء الدار يضممنها : ( والله ماشفنا منك إلا كل خير الله يوفقك ويسعدك ) سألت جارة أمي هامسة : ( ليش سميرة مسافرة خير انشا الله ؟ ) أجبتها أمي هامسة أيضاً : ( بعت وراها أبوها ألها خلص رجعي أنا لقيت شغل ومافي لزوم تضلي عندك ، هي بيني وبينك حابة تضل بس مابتقدر تعصي أبوها ) . انتظرت سميرة عبد الوهاب كي يودعها ، هي لاتستطيع أن تنظر إليه مباشرة ، هي تسترق النظر إليه أثناء وداع الآخرين ، رأته يبكي قبل أن يدير وجهه كي لايلمحه أحد . بكى قلبها ، تمنت لوتعانقه مرة واحدة فقط . تمنت لويقترب نحوها ، لويصافحها على الأقل ، لوينظر في عينيها مباشرة ولنصف دقيقة . هو تمنى أيضاً أن يعدوإليها ويضمها كما فعلت الجارات ، غالبته دموعه فلم يقدر على منعها ولولدقيقة فيصافحها ، لكنها أبت إلا أن تسترسل ، وهو يخاف أن تفضحه دموعه وتصبح قصة تلوكها الألسن . رفع يده دون أن ينتبه إليه أحد ، وسميرة حملت قلبها الكسير وغادرت دون أن يفطن إليه أحد .

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.