الرواية المفقودة مذكرات فاروق الشرع 3/2

sharaabookالعربي الجديد-

“العربي الجديد” تنشر الجزء الأول من الفصل الأخير من كتاب “الرواية المفقودة” على حلقتين، إذ يتحدث المؤلف في الحلقة الأولى عن تحضيرات قمة جنيف بعد فشل مباحثات بلير هاوس وشيبردزتاون، ومحاولة الإسرائيليين التنصل من وديعة رابين، ويستكمل ما جرى في كواليس القمة وسبب تأخرها وعوامل فشلها في الحلقة الثانية.

قمة جنيف بين الأسد وكلينتون

فشلت اجتماعات شيبردزتاون – كما تبين للعالم بعد أيام قليلة على انتهائها – على الرغم من المرونة التي أظهرها الجانب السوري في جميع اللجان الثلاث التي أخذت معظم وقت المفاوضين السوريين والإسرائيليين، وبإشراف الأميركيين ومساعدتهم لإنجاز أعمالها. أما اللجنة الرابعة المتعلقة برسم حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 فظلت تراوح مكانها لأن باراك رئيس الجانب الإسرائيلي في مفاوضات شيبردزتاون لم يكن على استعداد للاعتراف بمضمون وديعة رابين، ومن ثمّ لم يكن موافقًا على رسم الحدود حسب خط الرابع من حزيران/يونيو، وأن كلامه الذي كان يردّده خلال المفاوضات بأنه لن يمحو أو يشطب ما كان قد وافق عليه أسلافه، وخصوصًا رابين ووديعته الشهيرة، لم يكن له أي معنى على أرض الواقع.

يجب الاعتراف، أولًا، أن مفاوضات شيبردزتاون التي تواصلت لخمسة أيام ما بين يومي الثالث والثامن من كانون الثاني/يناير 2000 في هذه المدينة النائية والخالية تقريبًا من الناس والحياة، ما كانت لتعقد أصلًا باستفراد أميركي وبغياب واضح للاتحاد الروسي والاتحاد

الأوروبي والأمم المتحدة أيضًا، لولا وجود تعهد أميركي موثق من أعلى سلطة تنفيذية بأن وديعة رابين تعني الانسحاب إلى خط 4 حزيران/يونيو 1967، وأن هذه الوديعة وضعت في عهدة رئيس الولايات المتحدة ذاته، والذي أشرف شخصيًا مع وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت على مفاوضات شيبردزتاون.
كما يجب الاعتراف ثانيًا بأن رئيس الولايات المتحدة بيل كلينتون، الذي يتمتع بوضوح بشعبية كبيرة داخل بلاده حتى الأشهر الأخيرة من فترة رئاسته الثانية، قد وقع ضحية تلاعب وتضليل من باراك، عبّر عنها بصراحة لي شخصيًا في لقائنا الثنائي القصير قبل مغادرة شيبردزتاون، والأهم أنه عبّر عنها أيضًا في اتصال هاتفي طويل أجراه مع الرئيس حافظ الأسد بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير 2000 (أي بعد عشرة أيام كانت كافية لمراجعة كل ما قيل بين الوفدين الإسرائيلي والسوري خلال اجتماعات شيبردزتاون، وما تسرب عنها لوسائل الإعلام العالمية).

قال الرئيس كلينتون خلال هذا الاتصال مع الرئيس حافظ الأسد: “لقد فكرت كثيرًا حول آخر محادثاتنا، وبملخص الوزيرة أولبرايت عن محادثاتها مع الوزير الشرع. وكما تعلم يا سيادة الرئيس، فقد أصبت بعد الأسبوع الأول لمحادثات شيبردزتاون بخيبة أمل، لأن الإسرائيليين لم يستجيبوا للمسائل التي أظهرتم فيها مرونة. لقد أوضحت لرئيس الحكومة باراك أننا بحاجة للتحرك إذا أردنا النجاح، وأن على إسرائيل وسورية اتخاذ قرارات صعبة. وقد حصلت الآن من باراك على إعادة التأكيد على وديعة رابين، مع البدء بعملية رسم حدود 4 حزيران/يونيو إلى جانب المسائل الأخرى”.

قاطعه الرئيس الأسد قائلًا “هذا جيد”. وتابع الرئيس كلينتون كلامه الذي يبدو أنه كان مدونًا، قائلًا: “آمل أن يشكل هذا استجابة لحاجاتكم التي عبرتم لي عنها، وكما لخصها لي فاروق الشرع عندما اجتمعت به وهي البدء بترسيم الحدود. وإذا كان هذا يستجيب لمطالبكم، فإن لباراك أيضًا مطالب لا بد أن يحصل عليها مع موضوع الحدود وتأكيد وديعة رابين، وهي بدء المحادثات على الجهة اللبنانية بعد عدة أيام من لقاء سورية ولبنان مرة ثانية”.sharaaclinton

وهنا دخل موضوع لبنان على الخط كشرط لم يطرح في مفاوضات شيبردزتاون. وقد أجاب الرئيس الأسد أن لديه شكوكًا كبيرة حول نيات باراك، واقترح أن تبدأ أولًا لجنة فنية من الجانبين بالعمل على ترسيم حدود 4 حزيران/يونيو، والانتهاء من هذا الموضوع. وعندها يمكن القول إن تقدمًا قد حصل؛ الأمر الذي سيشجع اللبنانيين على الدخول في المفاوضات، وسيكون ذلك مطمئنًا لجميع الأطراف.

غير أن الرئيس كلينتون لم يكن مرتاحًا لهذا الجواب، لأنه سيخلق، من وجهة نظره، صعوبات سياسية وعملية أمام إسرائيل، سببها أن اقتصار المحادثات بين الجانبين السوري والإسرائيلي على رسم حدود 4 حزيران/يونيو سيجعل الإعلام مقتصرًا في تغطيته على ما سيقدمه باراك حول حدود 4 حزيران/يونيو، من دون ذكر أي شيء حول لبنان، مما سيجعل انعكاس ذلك على المواطن الإسرائيلي سلبيًا للغاية تجاه باراك وسياساته.
أعاد كلينتون تعهده بإعادة تأكيد وديعة رابين والبدء برسم حدود 4 حزيران/يونيو، إذا ما وافق الرئيس الأسد على استئناف المفاوضات كما اقترح في مطلع حديثه، والتحاق لبنان بالمفاوضات.

لكن الرئيس الأسد أجاب بأنه رغم أنه من الصحيح القول إن لسورية نفوذًا في لبنان، لكنها لا تستطيع إجباره على شيء لم يقتنع بجدواه، فتجارب لبنان مع إسرائيل لم تُنسَ بعد.

اعتذر الرئيس كلينتون مرة أخرى عن استعجاله وعدم استدراكه لهذه الأمور عند الدعوة إلى مفاوضات شيبردزتاون، وعبر عن انزعاجه لعدم تعامل باراك بالاهتمام اللازم إزاء ما هو مطلوب، كما اعترف بأنه (أي كلينتون) كان عليه أن يخبر الأسد ويصارح الشرع بذلك، وذلك منذ الأيام الأولى للمفاوضات، لكنه الآن يتمنى على الرئيس الأسد عدم إغلاق الباب أمام اقتراحه.

أجاب الرئيس الأسد بأنه يستغرب خوف باراك من رسم حدود 4 حزيران/يونيو، فالأرض لا تزال تحت سيطرته حتى لو أنجز الفنيون من الجانبين عملية الرسم. بل إن باراك يعرف أنه سيظل يحتفظ بالجولان أثناء المفاوضات، ومهما كانت نتيجة التفاوض، وذلك حتى نهاية المفاوضات. وأضاف أن شكوك وفدنا في محلها، ولن يذهبوا مرة أخرى من دون وضوح هذه الأمور بشكل كامل.

أما بالنسبة إلى لبنان فقال الرئيس الأسد إنه شخصيًا حاول إقناع اللبنانيين، وإنه راغب حقيقة في انضمامهم إلى عملية السلام، وأن يصلوا إلى اتفاق مع إسرائيل، ولكن اللبنانيين يتساءلون لماذا يصر الإسرائيليون على إنجاز الأمر بسرعة معهم قبل أن يصلوا إلى شيء ملموس مع سورية؟ أما بالنسبة إلى الإعلام – قال الرئيس الأسد لكلينتون- فإن باراك ذاته أجرى مؤخرًا وعلى الأقل أربع مقابلات تلفزيونية، في حين لم يجر الشرع أي مقابلة خلالها. نحن دائمًا نحافظ على كلمتنا أما الطرف الآخر.
شعر الرئيس كلينتون أن الرئيس الأسد قد أجاب بصراحة على كل تساؤلاته مع تركه الباب مواربًا، فاختتم المحادثة الطويلة بقوله إنه الآن يفهم المواقف بصورة أفضل، وإن إعادة تأكيد الوديعة ورسم خط 4 حزيران/يونيو لا بد منهما، وإنه واثق بأن ردم الهوة بين الجانبين ممكن، وإن حدوث اختراق مهم بين الجانبين السوري والإسرائيلي ضروري، وكذلك الوصول إلى صفقة مع لبنان، وإنه سيعاود الاتصال مع الرئيس قريبًا.

استمر كلينتون بحماسه واندفاعه لردم الهوة بين سورية وإسرائيل معتبرًا أن محادثته الطويلة مع الرئيس الأسد بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير2000 مشجعة وصريحة، ويمكن أن تقود إلى اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل إذا ما تخلى باراك عن غموضه غير البناء تجاه وديعة رابين، ووافق على تشكيل لجنة لرسم حدود الرابع من حزيران/يونيو.

بعد ظهر يوم الثلاثاء 7 آذار/مارس 2000 اتصل الرئيس كلينتون بالرئيس الأسد واعتذر عن تأخره بالاتصال؛ لأنه كان يحاول أن يستوضح من باراك خلال الأسابيع الماضية (ما بين 18 كانون الثاني/ يناير و7 آذار/مارس) عما يمكن أن يفعله كي يلبي حاجات سورية، وأضاف أنه قد قام بجهدٍ جادٍ جدًا، وأنه أصبح الآن في موقع يسمح له بأن يعطي الجواب، ولكن عامل الوقت مهم للغاية، وهذا هو رأي باراك أيضًا، وأنه لا يجوز أن نسمح لهذا الأمر أن يأخذ وقتًا طويلًا، فقد تحدث أمور غير متوقعة يمكن أن تشل جهدنا، ولذلك فإنني أقترح اللقاء يوم الخميس القادم في جنيف، أي في 9 آذار/مارس 2000، وأضاف أنه يعرف أن المهلة قصيرة جدًا، ولكن لدينا فرصة لا تجوز إضاعتها.

أجابه الرئيس بأنه مشغول جدًا الآن فهناك تغيير حكومي لا بد من إنجازه في هذا الوقت. قال الرئيس كلينتون إنه يجب أن يغادر إلى الهند يوم 18 آذار/مارس 2000، ولا يستطيع تأجيل الزيارة لأنه كان قد أجّلها العام الماضي، وكرر التأكيد على أهمية ما سيقوله للرئيس الأسد عند عقد الاجتماع، وإنه لو لم تكن هناك أشياء مهمة لما ألحّ بهذه الصورة على عقد الاجتماع بسرعة، وإنه لا يستطيع التحدث حول هذا الموضوع على الهاتف، لأن لديه معلومات محددة، ويريد نقلها شخصيًا للرئيس الأسد وبالتفصيل، كي لا يكون هناك أي سوء فهم.

طلب الرئيس الأسد من كلينتون إمهاله ساعة أو ساعتين لأنه ليس وحده من يقرر، وأنه يجب أن يستشير القيادة.

اتصل الرئيس الأسد في الساعة الخامسة والنصف من مساء اليوم ذاته، أي الثلاثاء 7 آذار/مارس 2000، بالرئيس كلينتون للتأكيد أنه لا يريد مفاجآت في اللقاء في جنيف، واقترح للقاء مواعيد في 13 و14 آذار/مارس أو بعد العيد. أجاب كلينتون أنه يجد صعوبة في هذا التاريخ بسبب زيارته المبرمجة لشبه القارة الهندية وأنه يقترح اللقاء بعد عودته منها. ومع ذلك ألح ثانية على أهمية السرعة بعقد اللقاء، وبأهمية ما لديه، لأن باراك جاد جدًا في حل القضية معكم.

وهكذا تم الاتفاق على عقد القمة يوم 26 آذار/مارس 2000 بين الرئيسين الأسد وكلينتون.
في هذا الشهر آذار/مارس 2000 أمّت دمشق وفود عديدة عربية وغير عربية وعلى مستويات مختلفة، ضمّت رؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية ومبعوثين شخصيين ليتعرفوا عن كثب على آخر التطورات التي تمر بها سورية، وفي مقدمتها: أولًا فشل عملية السلام، وثانيًا التراجع في صحة الرئيس، وثالثًا الحكومة الجديدة ودور بشار الأسد في تشكيلها لأول مرة، ورابعًا قصة التوريث التي بدأ الحديث يتناولها مؤخرًا بكثافة في معظم وسائل الإعلام العربية والأجنبية. وكان من أبرز هذه الاتصالات اللافتة ما أرسله الرئيس الأميركي والعاهل السعودي من رسالة حملها مبعوث واحد للدولتين هو الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن وعميد السلك الدبلوماسي فيها.
كان بندر نشيطًا في اتصالاته السرية، وكان يعتقد أنه يخدم في حركته مصالح السعودية والولايات المتحدة وعملية السلام، لكنه في إطار هذا الحرص لم يكن دقيقًا في التعبير عن مصالح من يعتقد أنه يخدمهم، ولم يكن ما ينقله يتسم بالموضوعية، وقد انزعج الرئيس الأسد حين اكتشف أنه حاول أن يعطي الانطباع للأميركيين بأن السوريين معتدلون، وذلك بالقول إنهم لا يتوقفون في المفاوضات عند “متر أو مترين” طويلًا، اعتقادًا منه بأنه يسوّق مواقف إيجابية عن سورية أمام المجتمع الدولي.

طلبني الرئيس إلى مكتبه وأحال الأمير الذي كان عنده في القصر لمناقشة التفاصيل معي. رغب الرئيس مني في أن أدعو الدكتور بشار لأول مرة لحضور الغداء في مقر إقامة تابع لقصر الروضة. أبلغنا الأمير بحضور الدكتور بشار المحادثات والغداء معنا. كان الأمير يدوّن عندما اجتمعنا ملخصًا عما نقوله. طلبنا منه أن يقرأ ما دوَّنه بعد تناول طعام الغداء، فاجأني أن ما دوّنه مختلف عما قلناه. أعدنا الصياغة عدة مرات حتى يتمكن من التعبير عن موقف سورية بشكل واضح. استمر لمدة ساعة وأكثر بمحاولة الاحتفاظ بالورقة النهائية التي تعبر عن الموقف السوري في جيبه ولكن من دون جدوى. تركته ليعالجه الدكتور بشار وانصرفت لأنني كنت مرتبطًا بمواعيد أخرى.

بعد عودته إلى واشنطن تحدث الأمير عن روايات مختلفة عن الاجتماعات وساعات متواصلة ليطمئن الأميركيين أن الأمور أصبحت في أفضل حال. لكنه لم يذكر كيف أعدنا صوغ ما يدوّنه عدة مرات، ويضع كل مرة أوراقًا جديدة في جيبه. لعل الأمير بندر لم يأخذ من

الأميركيين – إلى جانب أشياء أخرى – غير السرعة في إنجاز ما يريده، أو ما هو مكلف به.
سأله الكثير من المسؤولين وربما غير المسؤولين الأميركيين عن زيارته الحاسمة إلى دمشق، كيف صحة الرئيس الأسد؟ وهل فعلًا تحدث معه ثلاث ساعات متواصلة؟ ومن أبلغه هذا الموقف السوري؟ أهو نجل الرئيس؟ أم الشرع؟ أم الاثنان معًا؟ كان يصر على أن اللقاء ومضمون الأوراق كانت مباشرة ولعدة ساعات من اللقاء مع الرئيس حافظ الأسد، وأن صحة الرئيس أكثر من ممتازة، وكان معه رأسًا برأس لا ثالث لهما. كان الأمير بندر يريد أن يعطي صورة إيجابية عن سورية ومواقفها المعتدلة من عملية السلام لتقريبها من قبل محاوريه الأميركيين والإسرائيليين على حد سواء.

ربما لم يدرك ساعتها أن تلك الأيام حاسمة تجاه عملية السلام، وأن الإدارة الأميركية قد بنت أو رغبت في أن تبني مواقفها تجاه عملية السلام مع سورية على ما رواه الأمير السعودي باسم العاهل السعودي فهد بن عبد العزيز، صاحب المبادرات السلمية المعروفة عام 1981 و1982 على لسان الرئيس الأسد.

المعنيون بقضايا الشرق الأوسط، ومستقبل السلام فيه خصوصًا، يريدون أن يعرفوا حقيقة ما جرى بالضبط في قمة جنيف بين الرئيسين الأسد وكلينتون يوم 26 آذار/مارس 2000 بعد فشل محادثات شيبردزتاون. تسرب الكثير عن قمة جنيف، وأقحمت فيها تسريبات وإشاعات واستفسارات عديدة. بعضها تحدث عن مدة اللقاء التي تراوحت بين خمس دقائق وبين ساعتين وأكثر، وما تعنيه هذه الفروقات الزمنية من انعكاسات عن مجريات اللقاء ونتائجه.

أضيفت إلى عملية الإقحام المتعلقة بمدة اللقاء، سبب تأخره عن الموعد المعلن ثلاث أو أربع ساعات، ترى ماذا كان يجري خلالها في السر أو العلن؟ وهل كان صحيحًا أن الرئيس حافظ الأسد لم تساعده صحته المتردية منذ أن “تسرب بوله للفحوصات المخبرية والاستخباراتية إبان مشاركته في جنازة العاهل الأردني” كما ادعت بعض وسائل الإعلام؟ أم أن الرئيس كلينتون كان يعاني آلامًا حادة في جهازه الهضمي جراء ما تناوله من أطعمة لذيذة مشبعة بالتوابل والبهارات الهندية أثناء جولته الآسيوية التي عاد منها ليل 25 آذار/مارس 2000؟ فأي من السببين كان وراء تأخير اللقاء – اللغز؟
في الأدب الحديث، والأكثر دقة أدب ما بعد الحرب العالمية، ظهر في المكتبات نوع جديد من الرواية القصيرة. لا هي رواية مؤلفة من مئات الصفحات عرفها القراء منذ زمن طويل، ولا هي قصة قصيرة مؤلفة من بضع صفحات. وباعتقادي الشخصي أنه لولا تراجع الإقبال على شراء الروايات الطويلة لأنها لم تعد تساير روح العصر الذي نعيش فيه، والشعور أيضًا بأن القصة القصيرة التي تسرد أحداثها في بضع صفحات لم تعد تروي ظمأ القارئ الذي يتطلع بزمن محسوب إلى التعرف على شخصيات متنوعة وناضجة، لما ظهرت “الرواية القصيرة” وشقت طريقها إلى الأسواق. أصبح الناس يهضمون بيسر أكثر الرواية القصيرة، وينسحب هذا الأمر على الأفلام والخطابات والمقالات والمذكرات أيضًا.

اتفقنا نحن السوريين في وزارة الخارجية بدمشق مع الجانب الأميركي سواء عبر الاتصالات الهاتفية أو المذكرات الشفهية الصادرة عن السفارة الأميركية، بأن يعقد اجتماع القمة بين الرئيسين الأسد وكلينتون في جنيف بتاريخ 26 آذار/مارس، وأن تبدأ الاجتماعات الرسمية الساعة العاشرة صباحًا بتوقيت جنيف. ومعلوماتنا المؤكدة أن الرئيس كلينتون كان راغبًا وبإلحاح عبر أكثر من اتصال هاتفي أجراه مع الرئيس الأسد في مطلع آذار/مارس في أن يراه في جنيف قبل أن يغادر إلى جولته الآسيوية لأن لديه أشياء مهمة وإيجابية يجب أن يطلع الأسد عليها، تتعلق باستدراك الفشل الذي منيت به مفاوضات شيبردزتاون في مطلع العام، وأن باراك الآن أكثر استعدادًا للقبول بوديعة رابين وترسيم خط الرابع من حزيران/يونيو، كما كانت مترجمة الرئيس بثينة شعبان تنقل عن كلينتون عبر الهاتف.

ليس من طبع الرئيس الأسد أن يتمسك بالشكليات إلا إذا كانت لها انعكاساتها على جوهر الأشياء، وخصوصًا أنه يكنّ مودة خاصة للرئيس كلينتون منذ لقائهما الطويل عام 1994 في جنيف، ومحادثاتهما القصيرة في عمّان أثناء جنازة الملك حسين. لكن الشكليات هنا التي حالت دون إطالة اللقاء كان لها أسبابها الموضوعية، والتي لم يكن من السهل على الرئيس الأسد تجاوزها.
كان الرئيس الأسد منذ مطلع آذار/مارس مصممًا على القيام بتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة محمود الزعبي. وبصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي في دمشق، ليس أمرًا شكليًا كما يعتقد الكثيرون: أولًا لأنها تضم عدة أحزاب من الجبهة التي يقودها الحزب الحاكم حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة، أيضًا بصرف النظر عن دور بعضها ووزنه على الساحة السياسية داخل سورية، لم يكن من السهل عليها تسمية وزرائها من دون نقاشات ومماحكات شخصية داخل أحزابها. وثانيًا لم يكن الاحتفاظ أو التغيير في الحقائب السيادية بالأمر المفروغ منه حتى بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، حافظ الأسد، الذي يتمتع بسلطة ومكانة لا يستهان بهما منذ الحركة التصحيحية عام 1970. وثالثًا ولعله السبب الأهم بالنسبة إلى الرئيس الأسد شخصيًا، ألا يعطي الانطباع أن تشكيل هذه الحكومة صار بعد قمة أميركية سورية لأن لذلك حساباته الداخلية، ولا سيما إذا كان للدكتور بشار الأسد الدور الرئيس في تعيين رئيس الحكومة الجديدة وبعض الوزراء أيضًا بصورة غير معلنة.

بعد أن جرى تفهم أسباب الامتناع عن عقد قمة جنيف قبل جولة الرئيس كلينتون الآسيوية، تم الاتفاق بين الجانبين السوري والأميركي على الموعد، وتم الدخول حتى في التفاصيل، كأن ينزل الوفدان في فندق واحد “إنتركونتيننتال”، وأن يترك بينهما طابق فارغ لأسباب أمنية ولوجستية، وأن توزع المصاعد بالأرقام والمداخل، ونوعية الحراسة على الجانبين، وأن يصل الرئيسان إلى جنيف ليلة 25 آذار/مارس. أمضى السفير الأميركي بدمشق رايان كروكر، واللواء عدنان مخلوف، ومدير المراسم محي الدين مسلمانية ساعات وأيامًا للاتفاق على هذه التفاصيل.

لم يكن سهلًا الدخول في هذه التفاصيل إلا بعد نجاح الرئيس كلينتون بإقناع الرئيس الأسد عبر الاتصال المباشر هاتفيًا بأمرين: الأول أن ما جرى الخلاف حوله في شيبردزتاون قد تم حسمه بين كلينتون وباراك؛ أي أن المطلوب هو ترسيم حدود 4 حزيران/يونيو 1967، وليس مناقشة أحقية سورية بانسحاب إسرائيل إلى هذه الحدود، وعندها سيشجع هذا التقدم لبنان للبدء في المفاوضات. والأمر الثاني أن موعد القمة بين الرئيسين سيكون بعد عودة الرئيس كلينتون من زيارته إلى شبه القارة الهندية التي ستكون مساء يوم السبت 25 آذار/مارس وليس قبلها.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.