الخروج عن المألوف

runningman

كان يسير الهوينى ,في شارع ضيقٍ وطويل هو يسير,ومن خلفه تسير الحشود الغفيرة ,حشود من الناس تسير خلفه وأكثر منهم سارت ولا زالت تسير أمامه , منهم من مات دون أي ذكر ومنهم من سقط صريع القتل والدمار ومنهم من يقاوم , تمتد عيونه اليهم طويلا ليرى البعيد فتخونه العيون ويعجز مداها عن رؤية من هم بعيدين ,الصورة تشوشها تلك الأعداد الغفيرة وتمنع عنه وضوح الرؤية ,رجالاً ونساءً وشيوخا وأطفال ,من كافة الأعمار والأطياف والأجناس , يتوسطهم هو ,يسير خلف من هم أمامه وعيونه محدقة بهم ,ويتبعه من هم خلفه وعيونهم محدقة به ,لا أحد منهم يجرؤ على النظر أبعد من ما تسمح لهم تلك العيون , غير قادرين على الالتفات لا يميناً ولا يساراً, جميع العيون مصوّبة لما هو قريب منها ,لا فرق لديهم سواء كانوا في بداية الطريق أم في نهايته , فالجميع هنا سواسية ,سواسية برؤيتهم العاجزة ليس إلا ,أما العدل فلا وجود له بينهم ,فهم أطياف وأجناس وقوميات وديانات وتكتلات عديدة , أجيال مستنسخة بذات القالب نفسه تعددت وجوههم وما ظهر منها يخفي حقيقتهم ولا يفرق أحدهما عن الآخر سوى في ما لا يستحق الذكر ,وما لا يستحق الذكر هي تلك الفوارق والتعدادات ,رؤيتهم لا يتعدى مجالها بضعة أمتار ,تعودت عيونهم على الظلام وبضعٌ من الأمتار ليس إلا , لا تنظر إلا لرؤوس أنوفهم وأبعد منها بقليل ,مكبلين بقوة خفية تقودهم, لا إلى الأمام بل إلى الخلف هي تقودهم , قيادة بالاسم فقط ومجردة من الحكمة , وسلاسل من القيود تمنع عنهم حرية الحركة والفكر والفعل , تحوطهم من كل حدبٍ وصوب ,تقول لهم بأنهم أحسن من جميع الخلق , تتسلط على رقابهم وعقولهم لتسكنهم فكرة إنهم مراقبون على طول الخط فتشلهم عن الحركة والتفكير ……..قيود … قيود …وقيود
يحاول جاهداً أن يمد النظر إلى بداية الطريق ليرى من ذا الذي يسيّرهم ,ليفاجئ بشيء أغرب من الخيال , لا أحد هناك يترأس القيادة بل قال لهم الأولون ,قالوا وقلنا بأنه موجود ومن ثم تناقلوا وقالوا ذلك ما قاله الأولون , لتجمع تلك الحشود على انه موجودٌ ..موجود , واهمين بأنه سيفتح لهم هذا الطريق ويقدم لهم العون حينما يحتاجون .
يتمعن بالوجوه ,هذا قد فارقه وجهه واكتسب وجوهٌ عديدة هي للآخرين , وهذا قد نسى اسمه ومن يكون وضاع وسط هذه ألوجوه , وآخر لا يدري سبباً لوجوده سوى إن عليه أن يسير وسط هذه الحشود , وذاك قد فارق الحياة وهذا حزين ومكتئب كونه معدوم الحال , وهكذا على نفس هذا المنوال والحزن صار من الحياة وشيئاً أبدياً .
ينظر اليهم بريبة ويرى الجميع بقالب واحد ,دون التفات منهم ولا تفكير , يقلد مسيرهم فليس له سوى الطاعة والتقليد ,يتمهل قليلاً ليتأمل ما يحدث ,أيادي خفية تدفعه ليكمل المسير ,قدمه متعبة ولكنه مجبرٌ هو على نفس ألطريق ,عليه الطاعة والتقليد كونهما سمتان من سمات الخيّرين وعليه أن يكون من الخيّرين , فبالطاعة وبالتقليد هم يتفاخرون , يسير مجبراً طائعاً على نفس خط المسير , بانتظار ما هو مكتوب عليه وعلى الجميع ,فكره مشغول بما يحدث ولكن لا وقت لديه للتفكير, فالتفكير شر توسوس به الشياطين وعليه أن يوصد باب عقله أمام هؤلاء الشياطين , لكن رغبته بالوقوف , بالتأمل , بالتفكير تعاوده كل حين ,ايادي كثيرة تدفعه منظورةٌ كانت أم خفية ,تحثه على أن يسلك نفس الطريق , فمن ذا الذي سيعينه على إدراك ما يحدث والمصير ؟, الجميع يلهث بمسيره ,طائعاً ,ذليلاً, منقادً , وبين حين وحين يمر عليه ضياء خفيف ,لا يجرؤ أحدهم على فتح عيونه خوفاً من ألم هذا ألضياء , تنبذ العيون الضياء وتنجذب دوماً نحو الظلام ,لكن رغم الألم ورغم الضلالة وعلى حين غرة فتح عيونه بقوة وتجرّع كل الآلام , فمن غير المعقول أن يبقى منقاداً لقطيع تلك الأغنام , تجلت أمامه الأشياء على حقيقتها , واضحة ومضيئة , حلوة رغم مرارتها , ومرّة رغم حلاوتها , حلوة ومرّة في آن واحد , حلوة عندما تستفيق العقول من غفوتها وينجلي عنها الظلام , ومرّة وصعبة الاحتمال عندما تسكن العقول الأوهام , فالحقيقة مرّة لا تحتملها تلك العقول , والأمرّ منها تلك الغيبوبة التي سكنت هؤلاء .
فتح عيونه ولكن الحقيقة صفعته بضيائها ,كصفعة واقع اليم أراد له أن يعود لصوابه
ويا للألم الذي شعر به حينذاك
فصدمة اكتشاف الجديد والغير مألوف له من اقوى الصدمات
وكن قهر غيابه عن الحقيقة لا يعادله قهر
فهل سيعذر هؤلاء كونهم ابتعدوا عنها ؟
أم بالجبن سينعتهم لكونهم خافوا الحقيقة ؟
وبلومهم سيكتفي وسيبرر ضعفهم ؟
هل يعذر آذانهم كونها أبت الاستماع لصرخات المعذبين والموجوعين ؟
حيث تستغيث بهم وتسألهم العون ولا من مجيب
هل يعذر عيونهم التي تعودت الظلام ومن ثم عميت عن الحقيقة ؟
لعلهم اختاروا هذا الطريق كونه ساكن بشكله امامهم , تصوروه الطريق المستقيم والوحيد الذي يكمن به خلاصهم , طريقهم هذا مريح لعقولهم حيث توقفت وتبلدت , لعلهم اختاروه لكونهم لن يجدوا البديل ,كونهم لا يملكون سواه ,طريقهم الذي به خدروا تلك العقول لتبتعد وترتاح عن حقيقة الحقيقة ,وتسكن وترقد رقدتها الأخيرة , ليكونوا في دوامة لا طائل لها ,تكبر وتتسع كلما غاصوا بها , تتسع الدوامة كلما كثرت اعدادهم , فتكبر بهم كمارد جبار زاده يكون هؤلاء , يسمن بهم ويكبر,آمنوا به دون أن يختاروه بإرادتهم الحرّة بل هم توارثوه , وتركوا عقولهم له مستسلمة , فما اهمية هذا الطريق لو كثر فيه القتل والدمار ؟
لو كثر فيه الأنين ؟
وأن طالت بهم السنين وعاشوا آلاف منها , فما أهمية هذا الطريق ؟؟

بالوعي نستعين ,فدمتم بوعيكم سالمين

About فؤاده العراقيه

كاتبة عراقية ليبرالية
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.