الحركات الإسلامية نفّست الثورة السورية

 حسن منيمنة
الواقع المؤسف هو أنه لم يعد للثورة السورية سبيل واضح لتحقيق الهدف الذي قامت من أجله، أي الانتهاء من نظام الاستبداد والطغيان والقتل، الذي حرم المواطن حقه في الحرية والكرامة والحياة على مدى عقود. ليس هذا تسليم للنظام وداعميه بالانتصار، فالنظام قد سقط، من أكثر من وجه، في درعا في آذار 2011 حين انصب بجبروته على أصابع صبية طالبوا بالحرية، دون أن يتمكن من استعادة قدرته على الترويع. ولكنه إقرار بأن المعارضة أو المعارضات السورية قد عجزت عن طرح البديل المقنع لمجتمع قدّم التضحيات الجسام. والمسؤوليات لمآل الثورة في سورية تتوزع على أطراف عدّة، بعضها لما ارتكبه من أخطاء، وبعضها الآخر لما تمنّع عن أداء خطوات كانت مطلوبة. على أن الحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها، أي بما لا يقتصر على التكفيري والجهادي منها، تتحمل مسؤولية رئيسية في تحريف مسار الثورة في سورية. وإذا كان على الراشد من هذه الحركات أن يعيد تقييم تجربته في سورية، وأن يعمد بالتالي إلى إعادة صياغة خطه السياسي ليتراجع عن زعم أحقية الاستئثار بقرار المسلمين من السوريين، فإن على سائر التوجهات السياسية ألا تتجاهل محاذير الطروحات الإسلامية (وغيرها من التوجهات المستقاة صراحة أو ضمناً من رصيد ثقافي فئوي) في تأطيرها للحياة السياسية في المرحلة التي أجلّت وحسب، أي مرحلة ما بعد نظام الاستبداد.

إطار الثورة السورية هو الربيع العربي، وهي التسمية المناسبة ـ رغم الاعتراضات الواهية ـ للحراك المجتمعي الداعي إلى الحرية والكرامة والعدالة، والذي انطلق في نهاية عام 2010 في تونس، ليطال مصر وليبيا والبحرين واليمن وسورية. في أكثر من موقع، جاء افتراض الريادة للحركات الإسلامية، سواء من جانب دعاتها أو من جانب مموليها، ليضخّم من جحمها ميدانياً ولينزع عن الحراك الطابع المطلبي الإصلاحي المدني الذي أطلقه، ويُحلّ محله صيغة عقائدية ملتبسة. وحيثما حدث ذلك، كانت النتيجة سقوطاً للمكاسب التي تحققت، بل عودة ذات زخم للسلطوية بأشكال غير مسبوقة. وهذه العودة هي تحديداً ما يرجوه ويجهد من أجله النظام في دمشق، ومعه من يمسك زمام أموره، أي روسيا وإيران. ولا شك أن لهذه الثلاثية (موسكو، طهران، دمشق) دورا في التمكين المتعمد للتوجهات الإسلامية القطعية والمتشددة، لنقل المواجهة، أمام الجمهور السوري كما أمام الرأي العام العالمي، من معادلة النظام في وجه الشعب إلى معادلة الوطن في وجه الإرهاب. إلا أن المكائد في هذا الاتجاه ما كانت لتنجح لولا أن الحركات الإسلامية برمّتها قد نشطت بدورها في تحريف مسار الثورة، وإعادة صياغتها بما يتواءم مع خطابياتها.

إدانة تنظيم “الدولة الإسلامية” أمر سهل. فهذا التنظيم إذ يعتنق منهجاً متشدداً وعقيدة قطعية، يرفض الوطنية على أنها دعوة جاهلية، ويعتبر أية دعوة للإصلاح السياسي كفراً وردّة. بل إن الجدل في أوساطه كان حول الإقرار بأن “الأصل في الناس الشرك” من عدمه، مع ما يستتبع ذلك من إباحة قتلهم. وبغضّ النظر عن التوصل إلى البت بهذه المسألة العقدية، فإن التنظيم قد عامل السوريين في الأراضي التي وقعت تحت قبضته بقهر وقسوة وشدة لا تختلف عمّا شهدوه من نظام الأسد إلا بعلنيتها وفظاظتها. فتكررت المشاهد التي يظهر فيها “مهاجرون” منضوون في صفوف هذا التنظيم وقادمون من أقاصي الأرض، يفتكون بأهل البلاد، الناشط منهم في الثورة كما النائي بنفسه عن أي موقف سياسي، تحت ذريعة تلبسهم بنواقض الإسلام، أو دون أية ذريعة على الإطلاق.

وإذ كانت الحركات الإسلامية الأخرى تصدح بالنقد والنقض لمنهج تنظيم الدولة، وتتبرأ من آرائه وسلوكه، بل تطرح نفسها في أحيان كثيرة علاجاً له، فإن هذا التنظيم يشكل امتداداً طبيعياً لمواقفها وطروحاتها في أكثر من موضوع وأكثر من حالة. ولم يكن نادراً أن تعمد هذه الحركات إلى الاقتداء بالسوابق التي أرساها تنظيم الدولة في “الرمي من شاهق” وغيره من أساليب التفنن في “تطبيق الحدود”.

فالتمايز بين «تنظيم الدولة» وبين سائر الفصائل السلفية الجهادية، سواءً منها التي انحدرت من تنظيم القاعدة، تحت أسماء متتالية، “النصرة وفتح الشام وهيئة تحرير الشام”، أو التي انتظمت محلياً، مثل “جند الأقصى”، هو في سعيها إلى بعض الإقرار بأولوية الطابع المحلي لجهادها، رغم استقدامها للمهاجرين والأموال من الخارج، وكذلك في تعويلها على “الحاضنة الشعبية” والسعي مبدئياً إلى استرضاء الجمهور بدلاً من أسلوب تنظيم الدولة في إرهاب “الرعية” وقهرها. أما المضمون السلفي في إخضاع السياسة للدين، وإخضاع الدين للتشدد، فقناعة مشتركة ليست موضوع خلاف. ولكن الانتظام الذي حاولت هذه الفصائل إظهاره، كنقيض للفوضى والاستهتار بالحقوق كما كان الغالب على سلوك معظم الفصائل الأخرى، سرعان ما تلاشى، ليبقى التشدد والتعدي على حقوق المواطنين باسم الدين.

وفي حين أن الحياة الدينية الإسلامية في سورية هي نسيج واسع من التجربة التاريخية والفكرية بأشكالها وصورها المتعددة، فإن النشاط الجهادي في سورية قد استقر على وجوب اعتناق السلفية دون غيرها، وصولاً إلى تكفير ما عداها. فحتى التنظيمات التي يمكن اعتبارها وريثة لجماعة الإخوان المسلمين أو امتداداً لها، أشهرت السلفية كعقيدة وكممارسة، وانغمست في جدل عقدي وكلامي مع “الروافض” و “القبوريين”، بما يتعارض مع الماضي والحاضر السوريين. وبدلاً من أن تعمد الفصائل غير المتآلفة مع هذه القراءات القطعية إلى الوضوح، لجأت بدورها إلى الزي الإسلامي، الذي أرادته تحصيناً إزاء السلفية الجهادية، فكان في غالب الأحيان تمهيداً لها. فباستثناء بعض الفصائل في «قوات سوريا الديمقراطية»، على ما تنضوي عليه هذه التجربة من إشكالات وتعميات تضعها خارج مسار الثورة السورية، فإن شعارات الفصائل كافة، بما فيها “الجيش الحر” الذي كان يعوّل عليه ليكون منصة وطنية جامعة، اتخمت بالتفاصيل الإسلامية.

والقضية ليست الشكل وحسب. فواقع الحركات الإسلامية في أرجاء العالم يغلب عليه القصور في المضمون. أي أن هذه الحركات، بحكم اقتصار غالبها على المعارضة والهامش، لم تطور رؤية سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية تتعدى شعارات “الإسلام هو الحل” وتحريم الربا وفرض الحجاب. ففي حين أن مطلب الإصلاح الذي يحقق للمجتمع الحرية في إطار الوحدة الوطنية كان جلياً في أصوات الثورة السورية في مرحلتها الأولى، فإن إلقاء الرداء الإسلامي على هذه الثورة لم يضعضع مطالبها وحسب، بل أفشل سعيها. وسواء كان الأمر استقطاباً للشرائح التي أهملها النظام أو دفع بها نحو الشحة التعليمية، أو استمالة للتمويل المتوفر من جهات لها أغراضها وقراءاتها، فإن اللون الإسلامي للثورة السورية أفقدها طابعها الوطني، وأقصر جمهورها على ما هو أقل من الأوساط السنية العربية، إذ لا تنتظم هذه الأوساط بوحدة مصالح تلقائية، ولا يغلب عليها الميل الإسلامي ابتداءً.
دون الانتقال من الإفراط بتغليب لا مبرر له للحركات الإسلامية، إلى التفريط بمقدار التأييد للتوجهات الإسلامية في المجتمع السوري، لا بد من مراجعة يشترك فيها الجميع، إسلاميون وعلمانيون وغيرهم، لمنع تكرار التنفيس الذي طال الثورة السورية نتيجة المبالغات والتجاوزات من الحركات الإسلامية. وإذا كان بعض هذه الحركات يوازي النظام في إجرامه، وهي بالتالي مرفوضة ابتداءً، فإن بعضها الآخر جزء أصيل من المجتمع السوري، ولكن عليه أن يدرك أنه الجزء وليس الكل، وإن يراجع مسؤوليته في تنفيس الثورة. فالطريق لا يزال طويلاً وشاقاً أمام السوريين لتحقيق الإطار الحر العادل، ولا يمكن المضي قدماً دون الوضوح في المسؤولية عن هدر التضحيات التاريخية للشعب السوري.

المصدر: موقع الحرة

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.