«الحدائق في الحرب»

عاش النمساوي ستيفان زفايغ تجربتين: اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وهو في فيينا، واندلاع الثانية 1939 وهو gethsemaneفي لندن. يقول في كتابه «رحلات» إن مواطنيه تصرفوا، يوم إعلان الحرب، بشيء من الابتهاج والفرح، لأنهم لا يعرفون عن الحروب إلا في الكتب. أما في لندن، فرأى كل فرد يذهب إلى مسؤولياته في تنظيم غريب وشجاعة وبرودة أعصاب. من أين للإنجليز هذا الطبع الهادئ؟ من الحدائق. كل إنجليزي يعود إلى حديقته مهما كانت صغيرة، في شقة أو في منزل، يتأملها ويرعاها: الاتحاد الدائم مع الطبيعة الذي يعيشه كل فرد. في هذه الحدائق تزول الفروقات بين الناس وتتقلص بينهم المسافات. وحتى أصحاب القصور ينزلون إلى حدائقهم، يبحثون، هم أيضا، عن السكينة في الطبيعة.

استقبل أهل فيينا إعلان الحرب كأنهم يستعدون لمهرجان. ملأوا المقاهي إلى ساعات الفجر يتناقشون وكأنهم يبحثون في مسألة سعيدة «ويحولون الحرب إلى حدث رومانسي. كانوا يغنون ويهزجون ويصرخون فرحين من دون أن يعرفوا لماذا. اصطف الشبان أمام مراكز التطوع بالآلاف وفي حماسة شديدة. وتوقف العمل في المكاتب والمؤسسات من أجل تبادل الأحاديث».

عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، كان البريطانيون يتوقعون خطط هتلر، النمساوي هو أيضا، وكانوا يعرفون الأيام الصعبة التي تنتظرهم، لذلك تصرفوا كفريق واحد، لا ليغنوا معا كما فعل أهل فيينا، بل ليعملوا معا. الحرب ليست أغنية.

خسر النمساويون الحربين، الأولى والثانية. وفقدوا المكانة الإمبراطورية. وفي نهاية الحرب الثانية أعلنت النمسا حيادها، لا تريد فريقا دون آخر، ومضت أوروبا، المهزومة والمنتصرة، ترمم، حجرا حجرا، ولوحة لوحة، جنون الحرب. لم يتوقف الجنون على هتلر، بل كان انتقام الحلفاء مريعا: 130 ألف قتيل في غارات ليلة واحدة على مدينة درسدن الألمانية التي تحولت إلى حريق ورماد، مثل بركان يبحث لحممه عن مطمر.

عندما ذهبنا للعيش في بريطانيا كان كل ما أريده إقامة في الريف. وقد اعتقدت أن لي في ذلك غايتين، الأولى تذكر قريتي التي فصلتنا عنها الحرب، والثانية اكتشاف أسطورية الريف البريطاني. لكن سرعان ما اكتشفنا أن القرية لا تنقل من مكانها لأنها عبارة عن طفولة وذكريات، وأن الريف البريطاني لأهله. وحدهم يتحملون المسافات والقطارات والزحمة وتغيير المحطات وإضاعة الوقت على الطريق. دامت التجربة نحو ثمانية أشهر عرفنا خلالها أن الحياة في الريف البريطاني فن وصناعة يتقنها البريطانيون. وأن أول شروطه إتقان التقليم، والسقي، والزرع، وتحمل الوحدة. وجميعها جاهل بها.

نقللا عن الشرق الاوسط

About سمير عطا الله

كاتب صحفي لبناني الشرق الاوسط
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.