أكبر جريمة فى تاريخ الإسلام

بقلم د. توفيق حميد/
إن سألني أحد عن أكبر وأبشع جريمة حدثت في تاريخ الإسلام فلن أتردد أن أقول له هي فقه “الناسخ والمنسوخ”، وهو يعنى ببساطة شديدة أن بعض آيات في القرآن تلغى العمل بآيات أخرى، بل إن بعض الأحاديث تلغي في فقههم العمل ببعض الآيات القرآنية!
واعتمد أصحاب هذا المفهوم الديني على الآية التالية في القرآن “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (البقرة 106).
وكنتيجة حتمية لهذا الفقه فقد أهملت المئات من الآيات القرآنية التي تدعو إلى السلام والمحبة والتعايش مع الآخر، وتم للأسف الشديد تفعيل الآيات الخاصة التي نزلت وقت الحروب بدلا منها.
ولن أنسى وأنا أكتب هذه الكلمات ما حدث لي شخصيا في يوم من الأيام حينما كان أحد أقراني يدعوني لاتباع الفكر السلفي، واعترضت على دعوته لتطويع القرآن لتبرير العنف ضد الآخرين، وذكرت له هذه الآيات الواضحة “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (الممتحنة آية 8 ـ 9)
والآية كما نرى استخدمت تعبير “القصر والاستثناء” في اللغة العربية وهو “إنما”، وهو ما يفيد أن النهي عن موالاة غير المسلمين هو فقط مرهون بأن “يقاتلونا في الدين وأن يخرجونا من ديارنا وأن يظاهروا على إخراجنا”، وأن القاعدة العامة في التعامل هي كما قال القرآن “أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ”.
والبر في القرآن يشمل أعلى درجات المحبة والعطاء كما قال تعالى عن النبي يحي عليه السلام “وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا”.
وكانت المفاجئة لي حينذاك أن صديقي ضحك ضحكة ساخرة، وقال لي ألا تدري أن هذه الآية منسوخة بآية السيف “فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ”؟ (سورة التوبة آية 5)، أي أن القاعدة القرآنية العامة الرائعة بأنه لا يجوز معاملة المسلمين لغير المسلمين إلا بالبر والإحسان قد تم إلغاؤها ـ كما ذكر صديقي ـ بآية السيف. للأسف، كنت صغيرا وظننته أعلم منى بالدين فاتبعت فكره حتى قررت التخلي عنه بعد ذلك ببضع سنين.
والأمر لا يقف عند الآية المذكورة فحسب، بل هو يستخدم فعليا لإلغاء معظم المعاني الجميلة والراقية في القرآن، فتبعا لمبدأ الناسخ والمنسوخ فإن آيات مثل “وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (البقرة أية 190) و”ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ” (المؤمنون أية 96) و”فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف آية 29) و”وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” (الحجرات آية 13) و”وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا” (الأنفال 61) و”لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة 256).
قد تم “نسخها” بآيات مثل “فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ” (سورة التوبة آية 5) و”وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ” (الأنفال آية 39) و”قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ” (التوبة آية 29)
إقرأ للكاتب أيضا: يوم سقوط شيخ الأزهر
وكنتيجة لذلك فإن من يقبلون مبدأ “الناسخ والمنسوخ” قد تركوا أنفسهم وغيرهم بلا خيار لفهم الدين إلا من خلال الآيات المرحلية، والتي تتعرض لمواقف خاصة ومعرفة بأدوات تعريف لغوية لتحدد المعنى في فئة بعينها مثل “ال” و”هم” و”الذين”.
والعجيب في الأمر أن الآيات الداعية للسلام هي آيات غالبا ما تضع قواعد عامة للتعامل في حين أن الآيات المستخدمة لتبرير العنف هي في جميع آيات القرآن وبدون استثناء آيات مُعرفة لفئة خاصة باستخدام أدوات التعريف مثل ” ال” و”هم” و”الذين” كما رأينا في الأمثلة السابقة.
ووقاحة هذا المبدأ وصلت أن دعاة وشيوخ الفكر السلفي لا يجدون أية غضاضة أن يدَّعوا أن هناك آيات في القرآن الكريم مثل “آية الرجم” كما جاء في مسند أحمد (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زنيا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قد نُسخت لفظا، فتم إزالتها بعد نزولها من القرآن الذي بين أيدينا ولكن استمر العمل بها لأنها “بقيت حُكماً” كما يدعون.
وكنتيجة طبيعية لإيقاف العمل بالآيات الداعية للتعايش السلمي تبعا لفقه “الناسخ والمنسوخ”، فقد تم اختزال الإسلام عبر تاريخه وفى الكثير من الأحيان في العنف والدموية والتعصب والهمجية التي تحض على الحرب وسفك الدماء والغلظة بدلا من إعلاء قيم المحبة والسلام المذكورة والمنشودة.
والآن دعوني أتطرق إلى الآية التي يستند عليها أصحاب فكر “الناسخ والمنسوخ” وهي كما ذكرنا أعلاه “مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، فقد فهم السلفيون كلمة “نسخ” بأنها تعنى الإلغاء، فكانت كارثة إلغاء العمل بآيات السلم في القرآن بحجة أنها “منسوخة” أي ملغية من وجهة نظرهم.
وسأطرح هنا مفهوما آخرا لهذه الآية الكريمة قد يساعد في حل هذه المشكلة أو بمعنى آخر سأطرح مفهوما يتيح العمل بآيات السلام وعدم إلغائها، تأتى كلمة “ينسخ” في القرآن بأكثر من معنى فقد تأتى أحيانا بمعنى الإلغاء كما في الآية التالية:
{فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}
فجاء النسخ هنا بمعنى أن الله تعالى يمحو ويُلغي ما يلقي الشيطان.
وقد تأتى نفس الكلمة أو مشتقاتها اللغوية في القرآن على العكس من ذلك تماما فتكون بمعنى التدوين كما في الآية:
{وهَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
فالنسخ هنا جاء بمعنى التدوين وليس المحو، ونحن نقول في لغتِنا المتداولة “انسخ” لي هذه الورقة أي اعطني “نسخة” منها، بمعنى اعطني صورة أو نسخة منها للتدوين والإثبات، وفى هذه الآية القرآنية من سورة البقرة تأتى كلمة “ننسخ” بمعنى التدوين وليس الإلغاء لأن إلغاء الشيء ليس فيه أي إظهار للقدرة الإلهية أو “مقدرة” وذلك على عكس ما ذكره القرآن فى نهاية الآية حين قال:
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وأي قدرة تلك فى إلغاء آية! ـ فالقدرة لا تكون في المحو والإلغاء وإنما تكون في التدوين والإثبات.
وكلمة آية (وهى مفرد آيات) جاءت في أغلب القرآن بمعنى معجزة إلهية مثل “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ” (سورة آل عمران 190) ومثل “إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ” (الجاثية 3 ـ 6)
وكأن المعنى في الآية الكريمة “مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”، أنه إذا لم “يُدَون” الخالق في الكتب السماوية السابقة (أي يقوم بتدويين) بعض الآيات أو بعض معجزات الأنبياء السابقين في الكتب السماوية فإنه سيأتي “بخير منها أو مثلها”، وقد تجلى مفهوم “خير منها” في قوله تعالى في سورة الرعد:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ} (سورة الرعد آية 7) فكان كفار مكة ينتظرون آية أو معجزة تكسر قوانين الطبيعة، فجاءهم القرآن ليقول لهم أن آيات الله ومعجزاته هي قوانين الطبيعة ذاتها حينما رد على تساؤلهم السابق في سورة الرعد بأن قال لهم في الآية التالية:
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}(سورة الرعد آية 8).
وبالآية السابقة انتقل القرآن الكريم بالعقل البشرى من مفهوم الآية أو الآيات عند الأمم السابقة من كسر لقوانين الطبيعة الى أن قوانين الطبيعة نفسها مثل خلق الوجود والسماوات والأرض والجبال هي الآيات (أو المعجزات) الحقيقية.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.