دليلك إلى حياة مقدّسة (الفصل العاشر)

في الفصول السابقة، عززت معنى الامتنان، وشجعت على اتباعه كاسلوب حياة!
لا تستطيع أن تكون ممتنا، إلا إذا كنت متقبلا للدفق الحياتي بلا أحكام مسبقة الصنع ومعلبة.
أحكام جهّزها لك الآخرون كي تستخدمها قبل أن تثبت لك تجاربك في الحياة مصداقيتها، أو تقوض من تلك المصداقية!
لا تستطيع أن تكون ممتنا للحياة، مادمتَ قد رضحت للقولبة الفكرية التي برمجك عليها هؤلاء الذين ساهموا في تربيتك،
ابتداءا بوالديك وانتهاءا بسمّان الحارة “أبو رزوق”!
…..
أقرأ الآن كتابا، وهو الكتاب الأول من نوعه الذي سقط بين يدي!
لست هنا لأتناول موضوع الكتاب، ذلك الموضوع الذي لم أقرأ عنه في حياتي من قبل،
وهو موضوع شائك جدا، ومن الصعب على قارئ عادي أن يستوعبه!
لكنني أود فقط أن أشير إلى عنوان الكتاب، فالكتاب ُيقرأ من عنوانه، والعنوان هو أهم جزء في أي كتاب!
الكتاب بعنوان
“Simple Kabbala”
، “القبالا كعقيدة مبسّطة”
“القبالا” كلمة عبّرية تعني “القبول”، فلقد ُفسرت في الكتاب على أنها تعني
“Acceptance”
و “القبالا” هي مذهب روحاني مشتق من اليهودية، ويقوم على أساس أن تمشي في الحياة مسالما، ومجردا من
أنيابك ومخالبك كي لا تصطدم بدفقها السيال!
هذا الاسلوب الحياتي يساعدك على تقبل الناس، و على أن تكون منفتحا لتتفهم ظروفهم ودوافعهم،
كي تكون قادرا على قبولهم والتعايش معهم، قبل أن تصدر عليهم أحكاما معلّبة ورثتها ولم تستنتجها!
…………..
في أواخر السبيعينيات كنت طالبة في الجامعة، وكان لديّ صديقة عزيزة تعيش معي في نفس الغرفة بالمبنى الجامعي.
بعد عطلة منتصف العام، عادت بسيارة اجرة من مدينتها اللاذقية إلى حلب.
في الطريق داخت وبدأت تشعر بحاجتها إلى الإقياء فتوسلت إلى السائق أن يقف ويعطيها بضع دقائق كي ترتاح.
المهم، وصلت إلى المبنى الجامعي لتكتشف بأنها أضاعت حقيبتها عندما توقفت لتتقيأ.
كان الطريق يومها من اللاذقية إلى حلب جبليا متعرجا ويشمل الكثير من المنعطفات،
يطل في معظمه على وديان عميقة، وكان من المستحيل أن تعرف النقطة التي توقف عندها السائق!
لا يمكن أن تقدر الألم الذي يعيشه طالب عندما يفقد مصروفه الشهري، ويعرف أن أهله بالكاد يؤمنون له ذلك المصروف!
بكت غادة كثيرا وحزنا نحن صديقاتها على مصابها الكبير!
لم يمضِ سوى بضعة أيام حتى تلقت غادة رسالة من مكتب البريد التابع للجامعة يُخبرها بأن لها أمانة هناك وعليها أن تأتي لتأخذها!
كم كانت المفاجأة كبيرة عندما اكتشفت غادة بأن الطرد البريدي يحمل حقيبتها المفقودة.
أوقف رجل مسافر سيارته في طريقه من اللاذقية إلى حلب كي يقضي حاجة، وإذ به يعثر على الحقيبة.
فتحها ووجد من ضمن محتوياتها هوية غادة الجامعية،
وضع الحقيبة في طرد بريدي وأرسلها إليها على عنوان الجامعة!
حتى تاريخ هذا السطر، أول ما سيخطر ببال القارئ حجم انسانية ذلك الرجل وعمق إحساسه بالغير وتقديره لآلامهم!
لكن قد تغير رأيك وتقف في صف من وقف ضده من الطالبات في ذلك اليوم!
لقد ارسل ضمن الطرد رسالة تشير إلى أنه اقتطع من الـ 200 ليرة سورية التي وجدها في الحقيبة، وكانت مصروف غادة الشهري آنذاك، مبلغ 3 ليرات كأجور البريد!
أو ربّما لا تغير رأيك، فهو ليس ملزما بدفع اجور البريد!
لا تحكم، فبقية القصة أكثر إثارة!!!
…….
كان هذا الرجل فلان الفلاني،
أكبر رجل أعمال عرفته سوريا في تاريخها آنذاك، وأكبر مليونير سوري في ذلك الوقت!
(يا لسخرية الأقدار مليونير يعثر على حقيبة فقير مدقع)!!!
في تلك الحقبة كان معظم الشعب السوري (وربّما لا يزال) ينظر إلى أغنيائه كلصوص انتهازيين سروقوا لقمته وعرق جبينه.
أثناء ارساله للطرد كطرد مضمون، كان لا بدّ أن يكتب اسمه على الظرف الخارجي.
هكذا توصلت غادة ونحن إلى معرفته!
انقسمنا نحن الطالبات إلى صفين،
صف يُدين تصرفه لأنه اقتطع اجور البريد من مصروفها الشهري،
والصف الآخر اعتبره انسانا خلوقا ويستحق الشكر والامتنان، باعتباره ليس ملزما أن يضيع وقته ويرسل الحقيبة بالبريد المضمون،
كانت هذه هي الحقيقة بالنسبة لي، ولذلك وقفت إلى جانب هذا الصف!
لو وجد هذا المليونير ثلاث ليرات سورية على الأرض آنذاك لا أعتقد أنه سيضيع ثانية من وقته ليلتقطها،
فلديه من الأموال ما يكفي مدينة بكاملها!
لكنه، أبى أن يدفع تلك الليرات من جيبه كمساعدة لطالبة، يعرف من حقيبتها أنها تعيش أبشع أشكال الفقر!
لا يهم، يجب أن ننظر إلى الجانب المضيء من فعلته، ونتجاوز ذلك الجانب المثير للجدل!
يقول مثل روسي: (الإنسان كالنهر، تراه أحيانا عميقا كالبحر، وأحيانا أخرى ضحلا كالساقية)
يجب أن ننظر إلى غزارته عندما كان بعمق البحر، ونتغاضى عن ضحالته عندما مرّ بطور الساقية!
……
من الخطأ بمكان أن نوصم شخصا من خلال تصرف ما، من يدري؟
قد يكون عندها مارا بطور الساقية!
ألم تخسر صديقا كان يوما حميما جدا، لأنه مر يوما بهذا الطور؟
لماذا تغاضيت عن غزارته في كل الأطوار التي كان خلالها بحرا، وركزت على ضحالته عندما
كان ساقية؟؟؟
لكل تصرف أسبابه وظروفه!
القدرة على فهم ظروف الناس هي الخطوة الأولى في الطريق لبناء علاقات انسانية معهم،
واكتسابك لتلك القدرة هو أوضح علامات النضج العقلي والعاطفي، بل وأصدقها.
ليس كل صاحب حق دوما على حق، وليس كل ذي باطل دوما على باطل.
لذلك، يجب أن نتعامل مع “نسبية” الحياة وليس مع جداول ضربها!!
يجب أن نقبل حقيقة ناصعة كبياض الثلج، ألا وهي أن الإنسان يمرّ بأطوارٍ،
بعضها بعمق البحر وبعضها الآخر ضحل كالساقية! (سأشرح لاحقا في الكتاب كيف ولماذا)
البشر يختلفون في جودتهم باختلاف مدة كل طور، وليس في عمق بعضهم وضحالة البعض الآخر!
لا تسمح لتجربة واحدة أن تحدد موقفك من شخص ما، أو أن تبرمجك على قناعة ثابتة،
فذلك الموقف قذ يفوّت عليك إحتمال أن تلتقي بغزارة ذلك الشخص عندما يمر بطور البحر،
وتلك القناعة قد تحجب عنك الجمال الكامن في تجارب لاحقة!
………
كنت أستمع مرّة إلى مقابلة مع رجل أمريكي يروي قصة حياته.
لفظته عائلة منهارة، فوجد نفسه في سنوات شبابه المبكر
مشردا في الشوارع، يفترش الأرض ويلتحف الأكياس الفارغة التي يجمعها من براميل القمامة، مرهقا مخمورا جائعا متبلد الإحساس.
أحد الأيام كان يقطع الطريق فضربته سيارة مسرعة وقذفته مائتي قدما في الجو، ثم ارتطم بالأرض جثة هامدة!
دخل في غيبوبة طويلة فاق منها ليرى نفسه وقد خسر أحد رجليه!
قال في سياق المقابلة: (لم أستطع أن أمشي في الحياة منتصبا إلا بعد أن أصبحت أعرجا)
وتابع يقول: أول عبارة قالتها لي المرشدة النفسية في سياق عملية “إعادة التأهيل النفسي والجسدي” التي خضعت لها أثناء تواجدي في المستشفى،
قالت: (تذكر أنك مازلت تملك رجلا)!
هذه العبارة رفعت ثقتي بما أملك، واليوم أنا مهندس مختص في علم الكومبيوتر، ولي زوجة وأولاد، وأعيش حياتي ممتنا لكل صغيرة وكبيرة فيها!
…..
مرة أخرى قرأت مقالة لكاتبة أمريكية تروي من خلالها تجربة عاشتها وفتحت لها بابا جديدا للحياة.
في نفس الشهر ماتت أمها وكانت أقرب الناس إليها، وتخلى عنها خطيبها، وخسرت وظيفتها، وطُردت من
شقتها بعد أن عجزت على أن تسدي قيمة الأجار.
لم يبقَ في جيبها من المال سوى قليله!
قررت أن تترك ولايتها وتتوجه إلى ولاية أخرى أملا في أن تبدأ حياة جديدة.
في ولايتها الجديدة كان لها صديقة قديمة، وكان الزمن يومها قريبا من “عيد الشكر” الذي يحتفل به الأمريكان.
دعتها تلك الصديقة إلى مأدبة غداء الشكر في بيتها، فقبلت الدعوة.
في نفس اليوم توجهت إلى أحد المحلات التجارية أملا في أن تتمكن من شراء بنطال!
بعد جهد جهيد عثرت على بنطال، قيمته الأصلية سبعون دولارا، لكنها خُفضت إلى خمس دولارات نظرا لوجود مزق صغير
في أسفله.
لبست البنطال وتملكها إحساس بالراحة والفرح لأول مرّة في شهور، ومن ثم توجهت إلى منزل صديقتها.
على مائدة الغداء، وكعادة الأمريكان، قالت الصديقة لضيوفها سأبدا بكل منكم على حدة، وسأطلب منه أن يحدثنا لمن ولماذا
هو شاكر في هذا العيد!
هذا عبر عن امتنانه لوجود زوجته في حياته، وذاك لوجود والده وآخر لوجد صديق له، وهكذا دواليك حتى وصل الدور إليها.
شعرت بغصة في حلقها تكاد تخنقها، وتساءلت في سرّها: لست ممنونة لشيء، فحياتي اليوم تبدو طريقا مسدودا!
لكن ما أن بدأت بالكلام، حتى قالت: أنا ممنونة للحياة التي منحتني اليوم هذا البنطال، اشتريته بخمس دولارات ولم يكن
معي غيرها!
ضحك الجميع وضحكتْ معهم….
نعم ضحكت، واستمرت تضحك من تلك العبارة حتى تاريخ كتابتها لتلك المقالة.
قالت: (لم أكن أدري أن عبارتي تلك ستفتح لي بابا جديدا للحياة، أنا اليوم ناجحة على كل صعيد، ناجحة لأنني تعلمت
أن أمتن لامتلاكي الأشياء الصغيرة قبل أن أشكو وأبكي على فقداني للأشياء الكبيرة،
صار الامتنان طريقة حياة بالنسبة لي، وكلما شكرت الحياة على جميل صنعته لي، تلقي في طريقي جميلا آخر)
وهكذا أنا عزيزي القارئ!
……
في بداية حياتي الأمريكية جاورتُ سيّدة مصرية مسنة تسكن نفس البناية.
قامت بيننا علاقة أم بابنتها، وتعلقت كل منا بالأخرى.
انتقلتُ لاحقا من شقتي إلى أخرى تبعد حوالي نصف ساعة بالسيارة،
لكن أم رمسيس ظلت وفيّة لصداقتنا.
كانت تتلقى مساعدات غذائية من كنيستها، وكانت تصّر على أن تحتفظ ببعض منها لي.
مازال صوتها عبر الهاتف، وبعد قرابة ثلاثين عاما، يرن في اذني: يا وفاء، حاتبوظ المأكولات، ما تجي تاخديها يابتي!
كنت كلما سمح لي وقتي في زحمة الحياة أتوقف أمام شقتها لألتقط عشرات الأكياس المليئة بالخضروات
والحلويات.
للأمانة أقول: كنت أرميها في برميل القمامة التابع للبناية التي تسكن بها أم رمسيس، وقبل أن أصعد
سيارتي في طريق عودتي إلى البيت!
لم تمضِ مرّة واحدة إلا واتصلت بها في اليوم التالي اشكرها من أعماق قلبي على اهتمامها بي!
لم تكن ـ ولكبر سنها ـ ترى العفن الذي يعلوها، ولم تكن تعطيها لي من باب أنني أقل شأنا منها، ولكن
من منطلق محبة خالصة ورغبة صادقة لمساعدة جارة بعمر ابنتها، تصارع الحياة في مجتمعها الجديد!
لذلك، كنت أشكرها على محبتها التي تجسّدت في صنيعها، وليس على مدى استفادتي من ذلك الصنيع.
كان مجرد اهتمامها بي وبعائلتي معروفا رأيته يومها بعمق البحر.
ليس هذا وحسب، بل حجبت غزارته عني ضحالة ماحوته تلك الأكياس التي كانت “تتصدّق” بها عليّ!
لقد زودتني ثقافة “الامتنان” التي تعلمتها في أمريكا، زودتني بالقدرة على التقاط معالم الجمال
في أقسى المواقف، وشجعتني على أن أمتن لكل جميل!
لذلك، أعيش اليوم حياة ولا أجمل…..
………….
لا شكّ أن هناك مليون علامة استفهام حول سلوكيّات وطريقة حياة ذاك المليونير السوري،
لكننا، على الأقل في ذلك اليوم، لسنا ملزمين أن نقيّمه من خلال طريقة جمعه لأمواله، ناهيك عن تقييمه من خلال اقتطاعه لمبلغ
ثلاث ليرات سورية أجورا للطرد البريدي، وهو الذي لو وجدها على الأرض لن ينحني ليلتقطها!
لكننا ملزمون، ملزمون بـالقانون الطبيعي للحياة، القانون “الذي يرمي في طريقنا جميلا كلما عبّرنا عن امتناننا لجميل”،
ملزمون أن نقيّمه من خلاله ارساله للطرد، ذلك الصنيع الذي أعاد لغادة بعضا من ثقتها بالناس، ورسم البسمة على وجهها بعد
أن أكلحته تجربة ولا أسوأ!
إن القدرة على التقاط ماهو جميل ـ مهما كان ضيئلا ـ وامتنانه يساهم لاحقا في توسيع ساحة الرؤية لديك، فترى الصورة
كاملة وبكل تفاصيلها، ويصبح الحكم على الغير وعلى مجريات الأحداث مختلفا، مختلفا بطريقة جذرية.
بل يصبح أكثر عدلا وانصافا!
ليس هذا وحسب، بل تصبح قراراتك في الحياة هي ثمرة تجاربك الشخصية، وليست ناتجا حتميا لأحكام معلّبة برمجك عليها دينك أو نسبك أو طريقة تربيتك!
………
يذكر كتاب “القبالا كعقيدة مبسطة” قولا لانشتاين، جاء فيه:
All who seek the truth in the sciences of nature eventually come to understand that there is a power above that is reflected in the laws of the universe.”
“كل الذين ينشدون الحقيقة في مخابر العلم يصلون لاحقا إلى استنتاج أن هناك قوة عليا تتجسد في قوانين الكون”
لست هنا بصدد إقناع قارئي بوجود تلك القوة، لكنني بصدد اقناعه أن قانون الامتنان هو واحد من تلك القوانين الكونية،
ولا تستطيع أن تتأكد من صحته إلا من خلال المرور في تجربة الامتنان نفسها!
على كل حال، لو حدث ذلك ستجد نفسك موصولا بتلك القوة العليا التي تحدث عنها انشتاين، وستكتشف أن الوفرة في الخير والجمال قد صارت بالنسبة لك طريقة حياة!
يقول الطبيب والعالم الروحاني الأمريكي من أصل هندي
Deepak Chopra
Gratitude opens the door to the power, the wisdom, the creativity of the universe.
You open the door through gratitude
(الامتنان يفتح لك الباب إلى القوة والحكمة والطاقة الابداعية التي يملكها الكون، نعم تستطيع أن تفتح الباب من خلال
الامتنان)
….
إذن، عليك أن تتعلم كيف تدير مفتاح هذا الباب،
لو أردت أن تكون كونيّا بالمطلق!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.