وفاة الفنان الراقي الكبير المرحوم خليل شوقي اعادت الى المخيلة ذكريات فنه الجميل في السبعينيات ، وابرزها دوره الرائع في المسرحية الخالدة النخلة والجيران والتي ذكرته وذكرتها في سياق مقالة لي عن بغداد في فترة السبعينات قبل سنوات
و لروح الفنان الكبير خليل شوقي اعيد نشر تلك المقالة لمن لم يسبق له ان قرأها مع بعض التغييرات الطفيفة عن تلك الفترة المهمة من تاريخ العراقيين لمقارنتها مع ما وصل اليه الحال اليوم
—————————————————-
عبق ماض لازال في نفسي اجمل سنوات العمر….فترة عنفوان المراهقة و الشباب في الستينيات و السبعينيات ، كلما تذكرتها انتزعت من مآقي عبرات صامتة على ايام مضت ومضى معها شبابنا وافراحنا البسيطة الى غير رجعة ، نعم ….ما اكثر ما احن في ايامنا السوداء هذه الى جلسة على شاطي دجلة في احدى كازينوات ابي نواس في السبعينيات مع اصدقاء عمري ، ونحن نتنادم بكؤوس البيرة ومواعين اللبلبي والاخبار السياسية والتحليلات والقفشات والاشعار والافلام السينمائية والمسرحيات ، ونحن نستمع الى تسجيلات احلى الاغاني الشائعة في ذلك الوقت ، بينما يحوم حول مائدتنا النادل البشوش (عمو توما ) الذي يخاطر بطرده من العمل عندما يجلب لنا ماعوني باقلاء خارج الحساب فقط لانه يحب مجلسنا ويحاول دوما الوقوف قريبا منا للاستماع الى اخر النكات البريئة… والبذيئة ، وكيف تتعالى اصواتنا عندما نصر في كل مجادلة على الانقسام الى حزب محبي ام كلثوم ضد محبي صباح فخري ….ومعجبي ميرفت امين ضد عشاق نجلاء فتحي …… ومشجعي فريق القوة الجوية ضد مشجعي نادي اليات الشرطة…..ونعود كلنا موحدين صفا واحدا عندما يبث جهاز التسجيل في الكازينو اغنية (رجعت ليالي زمان) لفيروز ، او (فاتت جنبنا) لعبدالحليم….. والتي يصر زميلنا محمود على غنائها لنا بصوته الذي يشبه صوت المرحوم رضا الشاطي ، فننهض ونتوجه كلنا الى الحمامات بشكل جماعي كي نقنعه بالسكوت وعدم اهانة فن الطرب …وفي منتصف الجلسة يتغير مسار الحديث 180 درجة ، ويحتد النقاش والتحليل عندما نأتي على سيرة (ابو طبر) الذي لم يكن قد قبض عليه بعد ، فكنا نتنافس في التنبؤ بحقيقة شخصيته ومادوافع الجرائم التي يرتكبها …مع اتهام غير معلن من قبل معظمنا بان للحكومة يد في هذه الجرائم لغرض الهاء الناس …. ولكننا نصمت عندما يذكرنا احد الزملاء الذين ذاقوا طعم التوقيف لدى الامن العامة للشك بانتمائه السياسي بان للحيطان اذانا (رغم ان اقرب حائط الى مجلسنا يبعد اكثر من 500 متر ) ويضيف احدنا مازحا بان حديثنا ذو شجون فرجاءا لاتجعلوه ذو سجون !!!!!!!!!!!! ونضحك على النكتة ونرفع كؤوسنا تحية للقفشة الحلوة …. ويتغير مجرى الحديث الى الرياضة وهوجة عدنان القيسي ذلك المصارع العراقي الذي عاد يومها من امريكا مدعيا انه بطل العالم في مصارعة المحترفين واجرى نزالات استقطبت الافا من المتفرجين كانت تغص بهم مدرجات ملعب الشعب مع مصارعين اجانب لازال من بعمري يذكر اسماءهم مثل كوريانكو الكندي و فيريري الفرنسي…..ويبدأ بعدها برنامج ركن الهواة وانصاف المواهب … عندما يصرزميلنا سمير وهو شاعر فاشل (لكن ليس من وجهة نظره) على قراءة اخر قصائده الغرامية التي لا نفهم منها شيئا الا كلمة النهود التي يوزعها بلا حساب بين ابيات قصيدته …..حاسب نفسه نزار قباني ، بل ويصارحنا متباهيا ان الالهام الشعري لا ياتيه الا عندما يكون جالسا على مقعد التواليت ، فيجيبه نبيل ان هذا الذي يأتيه لايسمى الهام شعري بل اسهال شعري!!!! وتتعالى الضحكات مرة اخرى عندما يردد سموري كلمة نهود للمرة العاشرة فيصرخ اسامة :يمعودين اخاف هذا مشتهي ممة ….فينجبر سمير بسبب الضحك وتعليقات السخرية على ايقاف الالقاء والصمت بعد ان يدردم نادبا سوء حظه بهؤلاء الاصدقاء الذين لايفهمون اصول الشعر ….وهنا تعلو هتافات تشجيعية لعمو توما وهو ينزل لنا ماعون باجلا وماعوني خس خارج الحساب اذ يبدو ان القاء سمير قد اعجبه…. ويذهب بنا الحديث الى اروع مسرحية عراقية شاهدناها في تلك الفترة كان اسمها (النخلة والجيران) لمؤلف عراقي اصيل اسمه غائب طعمة فرمان تتحدث عن فترة الثلاثينيات في بغداد ، وكان المشهد الذي نعشقه كلنا من المسرحية هو للممثل الكبير خليل شوقي ويجلس على الارض في غرفته يحتسي العرق لوحده وهو يتلضى من الحر في تموز فيقول جملته الخالدة التي لازال الكثير منا يتندر بها حتى اليوم اذ يقول وهو يمسح عرقه :” هذا شلون حر…من هيج العراقيين مايخافون من جهنم !!!!!” تلك الجملة التي انفجر الجمهور الحاضرمعها بالضحك مع فاصل طويل من التصفيق ، وللاسف فان السلطة منعت عرض المسرحية فيما بعد لان العديد من ابطالها كانوا محسوبين على الحزب الشيوعي الذي غدرت به السلطة البعثية بعد استنفاذ اغراضها من التحالف الظاهري معه في السبعينيات
وندفع الحساب لعمو توما وكان لايتجاوز الستمائة فلس لكل نفر مع بقشيش سخي عرفانا بمواعين المزة المجانية التي اغنتنا عن العشاء ، ونخرج من الكازينو لنتمشى على الكورنيش ورائحة سمك المسكوف تداعب انوفنا دون ان نجرؤ على الاقتراب من مطاعمه بسبب ضيق ذات الجيب…لكننا نصل في مشيتنا همبركر ابو يونان مقابل بريد العلوية والذي بقى سعره سنوات طويلة جامدا عند الخمسين فلسا …..ثم نكمل المشي الى الكرادة خارج و(سوق رجوان ) لنأكل دوندرمة الصبايا قبل ان نتوجه بعدها الى بيوتنا
ايام السبعينيات كانت هناك قناة تلفزيونية واحدة اسود وابيض لكنها كانت تجمع العائلة لتتفرج على مسلسلات الضحية والرحيل ومسرحيات فؤاد المهندس وماري منيب ….ولم يكن هناك بث صباحي الا ايام الجمعة والعطل الرسمية…..وكانت دور السينما واحدة من اكثر وسائل التسلية للعائلة خاصة سينما النصر وبابل وسميراميس …..اما سينمات شارع الرشيد فكانت ملاذا للشباب العازب بما تعرضه من افلام اجنبية لم يمتد اليها مقص الرقيب
نعم لم نكن في ذلك الحين في مصاف الامم المتقدمة ، ولم يكن العراق مع حكم البعثيين جنة للديمقراطية على الاطلاق ….لكن المناخ العام الممتد منذ الستينيات كان لازال مشجعا للمواهب الادبية والفنية ، كانت بغداد في السبعينيات مدينة علمانية لا اثر فيه الى التدين المبالغ به ، عدا ايام رمضان عندما كانت محلات الشرب تغلق اثناء ساعات النهار وتفتح بعد الافطار حتى منعت من افتتاح ابوابها طوال شهر الصيام بعد ان يكون من لا يصوم (وهم الاغلبية) قد اختزنوا ما يحتاجونه لشهر كامل مسبقا….فمن نلوم على تحول ذلك المناخ الاجتماعي المتسامح والمنفتح الى مانراه اليوم من سلوكيات قندهارية لحملة مباخر التخلف والتقوى الزائفة التي اختصرت الدين بالحجاب وتحريم الشرب لكنها لا تحرم القتل والاعتداء والاختلاس والسرقة والاستغلال والخطف ….وما نسمع به من غارات مجاهدي الزمن الرديء على ابسط خصوصيات وحريات البشر …..فلا نلوم الا حظنا العاثر الذي جعل اقذر واردأ واسفل البشر يتحكمون برقابنا بعد ان تصورنا بعد سقوط الصنم انها الحرية .
—————————————————–
تحية وحب لروح الكبير الراحل خليل شوقي … وبغداد السبعينات
-
بحث موقع مفكر حر
أحدث المقالات
كيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟
Published by:علي الكاشمباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراث
Published by:مفكر حردراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.
Published by:آدم دانيال هومه** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا الإطاحة بالنظام الايراني ... غدت ضرورية غربية ودولية **
Published by:سرسبيندار السنديالحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولود
Published by:مفكر حر** كيف بلع نظام الملالي ... الطعم ألإسرائيلي **
Published by:سرسبيندار السندي** كيف يسخر ويضحك صبيان محمد الجدد ... على عقول ألمسلمين **
Published by:سرسبيندار السنديالمسيح في فكر الإسلام والعقيدة المسيحية
Published by:صباح ابراهيممن يوميات إمرأة حلبجية
Published by:مفكر حراسطورة الإسراء والمعراج
Published by:صباح ابراهيمالفيلم الألماني " حمى الأسرة"
Published by:طلال عبدالله الخوري** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
Published by:سرسبيندار السنديفيلم ايطالي عام 1959 عن تدمر والملكة العربية زنوبيا … علامة المصارع
Published by:مفكر حر** أمة الكُورد بين ألإسلام … والتخلف والتعصب والاوهام **
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/10
Published by:علي الكاشأفكار شاردة من هنا وهناك/51
Published by:مفكر حرقراءة متأنية في ديوان (قصائد منزوعة السلاح) للشاعر نينوس نيراري
Published by:آدم دانيال هومه** كيف رتبت أل سي اي ايه … لقاء الصحفي تايكر ببوتين ولماذا ألان **
Published by:سرسبيندار السندي** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
Published by:سرسبيندار السنديالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/8
Published by:علي الكاشأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح( 18-19 )
Published by:حسن محموديأفكار شاردة من هنا وهناك/49
Published by:مفكر حرالانتخاب
Published by:مفكر حر" الاشياء البائسة" Poor Things
Published by:طلال عبدالله الخوريالأدب النسوي ما بين الإبداع والاستغلال
Published by:اسعد عبد الله عبد عليأفكار شاردة من هنا وهناك/48
Published by:مفكر حرالرب يفضح الأنبياء الكذبة
Published by:صباح ابراهيمأخطار تهدد الحياة على الأرض
Published by:صباح ابراهيمكأس عسل
Published by:عصمت شاهين دو سكيسليلة الآلهة
Published by:آدم دانيال هومهأفاعي السوء وباعة الكذب في مهب الريح ( 16, 17)
Published by:حسن محمودي** محنة العقل في الاديان ومعضلة كتبها … بالدليل والبرهان **
Published by:سرسبيندار السندي** لماذا قصف نظام الملالي الارعن … مدينة أربيل ألان **
Published by:سرسبيندار السندياوبنهايمر
Published by:طلال عبدالله الخوري** مَن سيُحاسب قادة حماس … على جرائمهم بحق غزة وأهلها **
Published by:سرسبيندار السندياسرار #الموساد عن #العراق - ج 1
Published by:صباح ابراهيمالمرأة بين الماضي والحاضر مسيرة كفاح وتنمية ونماذج معاصرة
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/4
Published by:علي الكاشالقاسم الأيمانيّ المشترك :
Published by:مفكر حرعام جديد..
Published by:مفكر حر** قصة مِيلادِ السيّد المَسِيحْ … العجيبة والفريدة **
Published by:سرسبيندار السندي#محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
Published by:محمد الماغوطأفكار شاردة من هنا وهناك/43
Published by:مفكر حرمن هو يسوع المسيح ؟ - يسوع المسيح يكشف لنا حقيقة الله-
Published by:مفكر حرالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
Published by:علي الكاشفاطمة الزهراء و غموض تاريخها
Published by:صباح ابراهيم#نزار_قباني: أيها المسيح العظيم هل تقبل دعوتي إلى العشاء .
Published by:نزار قباني** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
Published by:سرسبيندار السنديهل روح الله هو الله ام جبريل ؟
Published by:صباح ابراهيمأُمة فيها العجب
Published by:عصمت شاهين دو سكيتجاعيد وايجار واتهام
Published by:اسعد عبد الله عبد عليتقاسيم على أوتار الريح
Published by:آدم دانيال هومهالنظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/1
Published by:علي الكاشالدعاء على المسيحيّين
Published by:مفكر حرمباحث في الأدب واللغة/63 الطعام والمطبخ العربي
Published by:مفكر حرأفكار شاردة من هنا وهناك/41
Published by:مفكر حرأحدث التعليقات
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
- س . السندي on فاطمة الزهراء و غموض تاريخها
- س . السندي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- س . السندي on سورة مريم اقتبست من شعر امية بن ابي الصلت
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- لينا on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on #محمد_الماغوط من الغباء ان ادافع عن وطن لا املك فية بيتنا
- Mohammad Al Kassab on ضحايا صدام حسين 7
- ابن الرافدين on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- قثيم بن سنحريب الفيروزي on ** أيا عُبَّاد الهلال … لنا لكم سؤال **
- مسلم on القرآن زور التوراة والإنجيل
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- قثم بن عبد الات القرشي on هدف حماس من (طوفان الأقصى) وهدف إسرائيل من اعلان حالة الحرب
- طوفان البدروسي on ** لماذا ورطت إيران قادة حماس … بطوفان الاقصى ألان **
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية
- مفكر حر on القول ما قاله سماحة #الكاردينالساكو بشأن فاجعة #عرسالحمدانية