أسلحة دمار شامل

بقلم سناء العاجي/
توصلت على الإنترنت بشريط تم إنجازه بطريقة الرسوم المتحركة. يحكي الشريط عن زوجين توجها إلى مطعم ياباني تعودا على ارتياده. تناولا وجبتهما، وبعد مغادرتهما، وهما بعد أمام باب المطعم، اشتكت الزوجة من مغص خفيف في بطنها.
مباشرة بعد ذلك، نشر شاب كان يقف إلى جانبهما تغريدة يحذر فيها من نظافة وجودة وجبات المطعم الياباني، مضيفا أن سيدة خرجت للتو من المطعم بألم حاد في معدتها. انتشرت التغريدة بسرعة، وفي كل مرة ببهارات جديدة؛ حيث تحول المغص الخفيف إلى ألم حاد، ثم إلى التهاب ثم إلى تسمم. تناقلت “الخبر” العديد من الحسابات عبر مختلف المواقع، ما دفع أهم الوكالات السياحية لحذف المطعم من لوائحها وتحذير زبائنها من مشاكل النظافة ومن جودة الوجبات في المطعم المعني.
لعلنا أمام أفراد ينتشون بإيذاء الآخر في كرامته أو حياته الشخصية
في البيت، انتبه الزوجان إلى أن الحليب في ثلاجتهما منتهي الصلاحية، وأنه في الغالب كان سبب الألم الخفيف الذي أحست به الزوجة. لكن، في الأثناء، كانت سمعة المطعم قد انتهت بسبب تغريدة تسرع شخص في نشرها دون أن يتأكد من معطياته، وتسرع كثيرون غيره في تبادلها بسرعة خارقة، دون التأكد من صحتها.
اقرأ للكاتبة أيضا: سناء العاجي: “اغتصبوا يرحمكم الله…”
هذا، للأسف، هو بالذات ما نعيشه بشكل يومي من خلال تعاملنا مع مختلف المواقع الاجتماعية. تعليقات كثيرة وأخبار ملفقة وصور مفبركة، ينشرها كثيرون دون التأكد من جدية مصادرها، بينما هي قد تؤثر سلبا وظلما في حياة أشخاص ومؤسسات أخرى.


لعلنا نحتاج تحليلا نفسيا واجتماعيا جديا لهذه الظاهرة. هل ترجع لكون العديد من الأفراد يشعرون، من خلال سلوكهم ذاك، بأنهم فاعلون حقيقيون ومؤثرون، يساهمون في النقاش المجتمعي، وإن كانوا أحيانا يلوثونه؟ ما هو تأثير أعداد اللايكات والمتابعين على مختلف الحسابات، على الأنا الذاتية لكل شخص وعلى تصرفاته اللاحقة؟ هل يشعر البعض بإشباع ذاتي حقيقي حين يتسببون في أذى معين لشخص أو مؤسسة، عبر حملات واسعة على الإنترنت؟ هل يستمتع البعض بتحقيق الأذى وإيلام الآخرين؟ هل وفرت شبكة الإنترنت إمكانية لإبراز كل “العاهات النفسية” للأفراد؟
هذا طبعا لا ينفي أن شبكة الإنترنت ساهمت في تحقيق تغييرات إيجابية كثيرة على المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، وذلك في دول متعددة. لكن هذا لا يمنع أن لها جوانب سلبية أخرى، ما لم نتعامل معها بحذر وذكاء.
يقوم الكثيرون بالهجوم على الأشخاص بدل مناقشة أفكارهم وإنجازاتهم السياسية أو الفنية أو الإعلامية
على سبيل المثال، فقد أصبحنا اليوم نسمع بين الفينة والأخرى عن تسجيل لأشخاص بدون علمهم. إذا كان هذا يساهم في فضح الشطط في استعمال السلطة أحيانا، أو الفساد الإداري، فقد يكون فيه أيضا مس كبير بالحياة الشخصية للآخرين (تصوير الأشخاص خلال لقاءات خاصة، تصوير امرأة مغربية لنساء عاريات في حمام شعبي، إلى غيرها من الأمثلة).
هذا دون أن ننسى كم العنف الذي نلاحظه في النقاش العمومي على الإنترنت؛ حيث يقوم الكثيرون بالهجوم على الأشخاص بدل مناقشة أفكارهم وإنجازاتهم السياسية أو الفنية أو الإعلامية أو غيرها، مستعينين في ذلك بأسماء مستعارة.
اقرأ للكاتبة أيضا: الشرف ليس في غشاء البكارة، بقلم سناء العاجي
هذا العنف وهذا المس بالحياة الشخصية للأفراد، وبالإضافة إلى كونهما لا يرتقيان بالنقاش المجتمعي، فهما يعبران عن حالات مرضية متعددة داخل المجتمع: لعلنا أمام أفراد ليست لديهم القدرة على مساءلة وانتقاد ما يتوصلون به. لعلنا أمام أفراد ينتشون بإيذاء الآخر في كرامته أو حياته الشخصية، مختفين خلف أسماء مستعارة؛ وكأنهم بذلك قد حققوا إنجازا حقيقيا. لعلنا أيضا أمام أنظمة تعليمية وسياسية واجتماعية لا تسمح للكثيرين بتحقيق ذواتهم خارج العنف على الإنترنت.
كل هذه الاحتمالات وغيرها قنابل موقوتة، ما لم نأخذها بجدية، فقد تنفجر في وجوهنا مخلفة أضرار أفظع مما نراه الآن.
من المؤكد أننا اليوم أمام تحول حقيقي لا تراجع فيه: الإنترنت والمواقع الاجتماعية جزء من واقعنا ومن تحولاتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لكننا نحتاج لفهم عميق وجدي لسلوكيات الأفراد على هذه الوسائط، ولمدى تأثيرها (السلبي والإيجابي على حد سواء) على المؤسسات والدول والأفراد.

شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.