رسوب حزبَي نصرالله وأوجلان في امتحان الثورة السورية

 بكر صدقي : المستقبل

لا تجمع الحزبين المذكورين في عنوان المقالة أي قرابة أيديولوجية، في حين تفصل بينهما الجغرافيا بمساحات شاسعة، وتكاد صورتهما أن تنتميا لعالمين مختلفين تمام الاختلاف. غير أن الثورة السورية حشرتهما في موقف واحد، فكشفت عن تشابهات مذهلة بينهما. لكي تصح المقارنة سنتكلم عن الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المسمى “حزب الاتحاد الديموقراطي”

(PYD)

 بقيادة صالح مسلم.

لا أحد يصدق مزاعم هذا الحزب عن استقلاليته عن الحزب الأم بزعامة عبد الله أوجلان المسجون لدى السلطات التركية منذ العام 1999، على رغم تصريحات قادته المتكررة بهذا المعنى. في حين أن حزب الله يجهر بولائه لولي الفقيه في إيران ويفخر قائده حسن نصر الله بذلك. يجمع الحزبين إذأً أنهما غير وطنيين، فلا حزب الله لبناني، ولا حزب الاتحاد الديموقراطي سوري، بصرف النظر عن جنسية أعضائهما. ففي حين يتلقى الأول استراتيجياته السياسية من النظام الحاكم في إيران، يتلقى الثاني أوامره مباشرةً من القيادة الميدانية لحزب العمال الكردستاني التركي المتمركزة في جبال قنديل شمال العراق.

ويجمع الحزبين، ثانياً، كونهما مسلحين إزاء خصوم منزوعي السلاح. حزب الله الذي تفرد بالاحتفاظ بسلاحه بعد اتفاق الطائف (1989) يملك قرار الحرب والسلم في لبنان الذي لا تملكه الدولة اللبنانية، ويجلس إلى ما يسمى “طاولة الحوار الوطني” مع شركاء لبنانيين رافضاً طرح شرعية سلاحه على أجندة “الحوار”، وحين يجد الجد يستخدم هذا السلاح لفرض الغلبة الداخلية عليهم. حزب الاتحاد الديموقراطي يكرر تقديم البروفايل نفسه في “كردستان الغربية” (المناطق ذات الغالبية السكانية الكردية في سوريا) التي يتخذها وحدة سياسية قائمة بذاتها، بخلاف ادعاءاته المعدة لتخفيف الحرج عن شركائه في “هيئة التنسيق” المؤمنين بأمة عربية واحدة على أرض عربية مديدة، تشمل في ما تشمل كردستانين على الأقل من الكردستانات الأربعة أو الخمسة. فهو “منفتح على الحوار” مع الأحزاب الكردية في سوريا والسلاح في يده، ويوقع معها مجتمعة اتفاقات ومعاهدات ملزمة لها غير ملزمة له، كمثال “اتفاق هولير” الذي وقعه الطرفان في تموز 2012 برعاية بارزاني، ليواصل بعده حزب أوجلان السوري قمعه لشركائه في “الهيئة الكردية العليا” التي انبثقت عنه.

ويجمع الحزبين، ثالثاً، علو صوتيهما، المستمد من السلاح الذي يمسكان به، في وجه خصومهما المتهمين في الحالين بالعمالة والخيانة. فجماعة 14 آذار اللبنانية خائنة بنيوياً في خطاب حسن نصر الله. هل يمكن لوم الرجل في هذا أمام استحالة ولاء سُنَّة لبنان وموارنته ودروزه لإيران الفارسية الشيعية؟ الرجل يطالبهم بالخضوع لأوامر وليه الفقيه لكي يرفع سيف التخوين والعمالة لإسرائيل عن أعناقهم، ولم يبقَ إلا أن يأمرهم باعتناق المذهب الشيعي واللغة الفارسية. أما صالح مسلم فيتهم الأحزاب الكردية في سوريا بالعمالة المباشرة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ما لم يحملوا السلاح دفاعاً عن نظام الأسد، تحت قيادة مراد قرة يلان الذي يخوض القسط المطلوب منه في معركة مصير النظام السوري، من جبال قنديل.

ويجمع الحزبين، رابعاً، ادعاءهما الإيديولوجي بالدفاع عن “قضايا عادلة” على رغم كل التآكل الذي نالها عبر الزمن، وغالباً على أيديهما بالذات. فحزب الله الذي حاول التعمية على هويته الطائفية بسعيه إلى تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وجد نفسه في ورطة وجودية بعد الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد من ذاك الجنوب، ربيع العام 2000، فانتقل إلى هدف آخر مستحيل التحقيق هو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر رغم أنف الفلسطينيين، حتى لو تطلب منه الأمر الإطاحة بالدولة اللبنانية أو إنشاء خلايا سرية في مصر. أما اندلاع الثورة السورية في منتصف آذار 2011، فقد أفقدت الحزب الإيراني في لبنان بوصلته تماماً، ليتبين أن ما عناه حسن نصر الله بـ”ما بعد بعد حيفا” ليس سوى مدينة حمص السورية أو الزبداني في ريف دمشق التي يقتل فيها “مجاهدو” الحزب على يد كتائب الجيش السوري الحر أثناء تأديتهم “واجباتهم الجهادية” المباحة لهم، المحرَّمة على “جبهة النصرة والجهاد” وغيرها من المجموعات المسلحة المناهضة لنظام الأسد (ألأن “الجهاد” الشيعي حلال و”الجهاد” السني حرام؟ أم لأن الأول حركة تحرر وطني والثاني إرهاب، على ما ذهبت إليه رطانة سمجة لحافظ الأسد الذي أعيته الحيلة في إقناع الغرب بهذا التمييز العبقري؟ يحتاج الجواب على هذه الأسئلة الفلسفية العميقة تناولاً مستقلاً ينوء به هذا المقام).

أما حزب صالح مسلم المنضوي في إطار “هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديموقراطي في سوريا” بقيادة القومي العربي حسن عبد العظيم والماركسي المدافع عن حقوق الإنسان هيثم مناع، فقد أعاد تعريف نفسه ودوره في سوريا بدالة الثورة السورية بطريقة متناقضة. فهو من جهة “معارض” لنظام الأسد كما يزعم، ويريد “تغييره” بواسطة الحوار معه، في مؤتمرات “المعارضة الداخلية الشريفة” المنعقدة في دمشق، رافضاً أي “تدخل خارجي” للإطاحة به باستثناء التدخلات الروسية – الإيرانية، ويقوم من جهة أخرى بالانقضاض على أي تظاهرة سلمية في المناطق الكردية يطالب فيها المتظاهرون بالحرية وإسقاط النظام.

ولا تقف تناقضات خطاب الحزب وممارساته عند هذا الحد، ففي الوقت الذي يؤكد على وطنيته السورية بالقول إن كرد سوريا ينتمون أصلاً إلى الجغرافيا التركية، وإنه لا مطمع إنفصالياً لدى الكرد بما خص الأراضي السورية، يقيم ما يسميه “مجلس شعب غربي كردستان” ويحرِّم على عرب سوريا المنخرطين في الثورة ضد نظام الأسد دخول “المناطق الكردية” الخاضعة لحكمه العسكري، مقابل حمايته المسلحة لمواقع أجهزة المخابرات التابعة لعائلة الأسد في “غربي كردستان” ذاتها. بعبارة أخرى: حين يتعلق الأمر بالثائرين ضد النظام يوصفون بأنهم “عرب” (أي أجانب بالنسبة للكرد). أما حين يتعلق الأمر بأجهزة النظام وشبيحته فهم “سوريون” (أي أخوة في الوطن). بالمقابل يبدو الكرد الرافضين لسلطة الأمر الواقع المسلحة لحزب العمال الكردستاني “عملاء أردوغان” ويكاد يصفهم الحزب الكردستاني بأنهم أتراك. ولا يتمتع بجنة الهوية الكردية النقية غير عناصر الحزب التي تنفذ الأوامر بطاعة عمياء، فتقوم باغتيال “عملاء أردوغان” المفترضين هؤلاء بضمير مرتاح دفاعاً عن “قضية كردية” لا نعرف من ملامحها غير تحرير عبد الله أوجلان من أسره في السجون التركية.

يمكننا إطالة قائمة المقارنة بين الحزبين كثيراً، ولكن إذا أردنا الاختصار قلنا إن الثورة الشعبية السورية ضد النظام العائلي المافيوي الحاكم، ضيَّقَت هامش المناورات الكلامية أمام حزبي الله وأوجلان، فلم يعد أحد يحمل ادعاءاتهما الإيديولوجية أو سفسطاتهما حول “القضايا” على محمل الجد، فبات عليهما أن يتحدثا بلغة بشرية مفهومة، فيقولا مثلاً إن “قضيتهما التكتيكية” المشتركة هي الدفاع المستميت عن النظام السوري حتى سقوطه المحتم، و”قضيتهما الاستراتيجية” هي الهيمنة الشيعية على لبنان لصالح إيران من جهة، وتحسين شروط سجن عبد الله أوجلان من جهة ثانية.

هذه دعوة إلى قادة الحزبين لترجمة كلامهما إلى اللغتين العربية والكردية على التوالي، على أمل أن يقوم حوار مثمر حقاً بينهما على ضفة، وسائر العالم الواقعي على الضفة الأخرى

Posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا | 1 Comment

المسيحيون (وليس الإسلاميين) هم الوطنية النقية

محمد حازم فيصل : فيس بوك

 وللنساء في بطولات الثورة نصيب …..وكبير جداً

منقوووووووووووووووووووووووووول ….

منذ شهور ، انتقل عدد كبيرة من كتائب الجيش الحر في درعا إلى مناطق من دمشق مثل حي التضامن ، مخيم اليرموك .. نهر عيشة و حرستا ..

في حرستا إسـتأجروا بيتاً يلجأون إليه للراحــة ، 10 شباب من نفس المنطقة ” إنخل – ريف درعا ” … يخرجون لتنفيذ عملياتهم في المنطقة ، ويعودن لذلك البيت دون أن يعلم بوجودهم أحـــد من أهل الحي .

منذ مايقارب الشهر ، ينفذون إحدى عملياتهم و يعودون للبيت ليتفاجأو بان الحي محاصر ، و أن عدد من رجال الامن بانتظارهم …

عند وصولهم يبدأ أطلاق النار عليهم ، بعض هؤلاء الشباب بلا ذخيرة و البعض الأخر منهك التعب ….

في لحظات معدودة ، يقررون و بدون تخطيط مسبق الهرب – لا أحد منهم يعرف إلى أين … المهم الهرب من الموت ..

يبدأون بالركض بمجموعات متفرقة ..

على إحدى النوافذ تقف تلك المرأة ، ترى 5 من الشباب يركضون … لا يحتاجون لتعريف فاسلحتهم بيدهم و لحاهم تزين وجوههم ، تلوح لهم بيدها ” أن تعالوا لهنا “

– لا يملكون خيارا أخر .. فهو الموت إما هنا أو هناك ..

يخبرني أحدهم ، لحظة دخولنا للبيت كنا مرعوبين أكثر منها .. في عيونها بريق شجاعه .

يطلب أحدهم منها سجادة للصلاة ، لكنها لا تملكها في البيت – كانت تلك المرأة مسيحية ….

يخبرني .. ” رأيناها تخبأ المشروب من البيت ، تضع لنا الاكل كل يوم كما لو كنا اهل لها ، تجلس معنا و تكلمنا .. بامور بعيدة عن الثورة ، ومن نحن او من اين جئنا …

في كل يوم كانت تنزل للشارع لترى إن كان آمن لخروجنا .. وتعود لتخبرهم بوضع الحواجز في أخر الحارة ، و تمنعهم من الخروج خوفا على حياتهم .. اسبوع كامل مضى على بقائهم في بيتها ، دون ان تشعرهم بثقلهم ..

يقول لي ” في كل صباح كانت تضع القهوة و الشاي ، و نحن نيام .. تخرج من الغرفة لتدخل ابنها الصغير حتى ييقظنا .. أخفت المشروب من البيت و قصت جزاء من حرام كان لديها ، وضعته في زاوية إحدى الغرف ، حتى يتمكنو من الصلاة عليه ….. تعتذر لهم بأن ليس لدي قرأن لكم “

 زوج هذه المرأة ضابط في احدى القواعد العسكرية بمدينة الرقة – يسألونها لماذا لا ينشق ..؟؟ لديه طفلان و براتبه يعيشون ، أين سنذهب لو انشق !! يخبرها بأن خدمته ضمن احدى الثكنات لا يخرج منها ….

مضت عشرة أيام ليرحلوا من بيتها .. يعودون إلى مكان ما في دمشق .. يخبرني صديقي : من ذلك اليوم و انا اعيش صراع بداخلي ، ماذا لو صادفنا زوج تلك المرأة و قتلناه بجرم النظام ، كم من إمرأة كهذه يوجد في سوريا !!! بأي ذنب ستكون أرملة .

 ليبقى هذا السؤال معلقاً بيننا برسم الإجابة ….

Posted in الأدب والفن, ربيع سوريا | Leave a comment

سباق مع الزمن لإنقاذ اللغة الآرامية من الانقراض

                     صلاح أحمد : ايلاف

الآرامية والإغريقية منقوشة جنبا الى جنب في مخطوط حجري بأفغانستان

كانت الآرامية أهم لغات العالم على الإطلاق قبل أن تفقد هذه المكانة مع انتشار الإسلام والعربية حتى صارت فقط لغة أقليات عرقية هنا وهناك. لكن الخوف الآن هو أن تندثر بأكملها.

 يرد في تعريف موسوعة «ويكيبيديا الحرة» تعريف اللغة الآرامية على أنها لسان الحضارة التي تحمل اسمها في وسط سوريا. وكانت لغة رسمية في بعض الدول العالم القديم ولغة الحياة في الهلال الخصيب.

 ووفقا للمؤرخين فإن بدايات تدوين هذه اللغة تعود الى قرون عدة قبل الميلاد، وأنها أصبحت اللغة المسيطرة في الهلال الخصيب اعتبارا من القرن الخامس قبل الميلاد بعد هزيمة المملكة الأشورية.

 ويرد أيضا أن الآرامية لغة مقدسة إذ كُتب بها سفري دانيال وعزرا، ومخطوطات البحر الميت، وهي اللغة الرئيسية في التلمود. ومن المؤكد أن الآرامية كانت لغة يسوع المسيح، وبها تأثرت لغات العالم الرئيسية كالعربية والفارسية والعبرية واليونانية واللاتينية.

 مآل مخيف

 حى وقت قريب، كان يعتقد أن الآرامية – ذات العلاقة العضوية بالعربية والعبرية خصوصا – لا تزال مستخدمة في التداول اليومي بالشرق الأوسط خاصة بين معتنقي الديانة المسيحية من أتباع الكنائس السريانية في سوريا والهلال الخصيب وتركيا وإيران. لكن هذا الوضع، في ما يبدو، يتلاشى بسرعة عالية لأن هذه اللغة تقف الآن على حافة الانقراض. وهذا لأن عدد الناطقين بها ظل يتناقص الى حد أن نواقيس الخطر بدأت تقرع قلقا على اندثارها مرة وإلى الأبد.

 .. وطوق نجاة صغير

 هذه النواقيس يقرعها عالم اللغات الانكليزي بجامعة كيمبريدج، البروفيسير جيفري كان، الذي قرر التحرك في الوقت نفسه من أجل إنقاذها. ونقلت صحف بريطانية قوله إن سبيله الى هذا هو زيارة البقاع التي يوجد فيها ناطقون بها وتسجيل أحاديثهم على أمل بناء أعرض قاعدة معلومات ممكنة وكافية لصون أصواتها على الأقل.

 وإضافة الى الأماكن الوارد ذكرها أعلاه فقد أصبحت أكبر الجيوب الناطقة بهذه اللغة الآن في الولايات المتحدة بسبب الهجرة الكثيفة لأهلها من السوريين والعراقيين خاصة، وفي السويد وألمانيا وهولندا بين المهاجرين من الشرق عموما. وهذه هي الأماكن التي يأمل أن يلقي منها البروفيسير كان طوق نجاته على صغره.

 وقال البروفيسير كان في لقاء مع موقع معهد «سميثسونيان» الإلكتروني إنه شعر بالرغبة الجارفة في تسجيل هذه اللغة بعدما تحدث الى يهودي في مدينة اربيل الأثرية بشمال العراق. ووصف ذلك اللقاء قائلا: «لم أصدق أذنيَّ وأنا استمع الى شخص حي يتحدث بهذا اللسان المندثر بالكامل تقريبا. كانت تجربة أطلقت فيضا من النشوة في سائر أعضاء جسدي».

 ليست الوحيدة

 تبعا لموقع «سميثسونيان» فإن الآرامية ليست الوحيدة المهددة بخطر الزوال من وجه الأرض بسبب تناقص عدد الناطقين بها. بل أن عدد اللغات التي تواجه الانقراض محزن ومخيف حقا، إذ تقول هذه المؤسسة الأميركية المرموقة أن ما بين 50 و90 في المئة من نحو 7 آلاف لغة حول العالم ستكون قد انمحت تماما بنهاية القرن الحالي.

 والآن فإن الشيء الوحيد الذي تتعلق به الآرامية (الجديدة كما تعرف لدى علماء الانثروبولوجبا واللغات) يتمثل في مجموعات عرقية متفرقة تدين بالمندائية واليهودية والمسيحية في مناطق شرق البحر الأبيض المتوسط. وأكبر هذه المجموعات الأشوريون / السريان / الكلدان في شمال ما بين النهرين في العراق وسوريا وتركيا وبأعداد أقل في إيران، إضافة الى أعداد أخرى في أميركا وأوروبا خاصة السويد وألمانيا.

 علامة تاريخية

 فقدت الآرامية مكانتها السامية في الشرق الأوسط في منتصف القرن السابع الميلادي مع استتباب الوضع للثقافة الإسلامية الغازية بحيث حلت محلها العربية. ومع ذلك فهي لم تندثر بالكامل لأنها ظلت لسان المجتمعات البعيدة في مناطق الأكراد وفي العراق وسوريا وتركيا وإيران.

 واليوم يقدّر معهد سميثسونيان عدد الناطقين بهذه اللغة بنحو نصف المليون شخص حول العالم. ورغم أن عددا كبيرا من اللهجات تفرّع منها على مر الأزمان، فإن هذه اللهجات اندثرت في معظمها وأغلبها بلا رجعة للأسف.

Posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا | Leave a comment

الاسباب الحقيقية للثورة السورية

Posted in ربيع سوريا, يوتيوب | 3 Comments

بماذا يمكن لأزمة السويس أن تذكرنا فيما يتعلق بنفوذ الولايات المتحدة؟

ديفيد إغناتيوس – 27/01/2013 -الشرق الاوسط

 لقد كان يعنيها تشاك هاغل عندما كان يصف نفسه بـ«جمهوري من أنصار أيزنهاور». لقد كان يحتفظ بتمثال نصفي للرئيس دوايت أيزنهاور في مكتبه بمجلس الشيوخ لعدة سنوات ولديه أيضا صورة له معلقة على جدار مكتبه الحالي في جامعة جورج تاون. مع ذلك أكبر دليل على هوس هاغل هو شراؤه لثلاث درزينات من كتاب سيرة أيزنهاور وإعطاؤه نسخا لأوباما ونائبه بايدن ووزير الدفاع آنذاك، بوب غيتس، بحسب مؤلف الكتاب ديفيد نيكولز. ويتناول الكتاب الذي أثار اهتمام هاغل

«Eisenhower 1956»

 (أيزنهاور 1956) لحظة من أهم وأخطر اللحظات وأدقها في فترة رئاسة أيزنهاور. ويتحدث الكتاب، الذي نُشر عام 2011، عن كيفية إجبار أيزنهاور لإسرائيل وبريطانيا وفرنسا على الانسحاب من قناة السويس، وهو ما أدى إلى ترسيخ مكانة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة مستقلة في الشرق الأوسط. ومن المستحيل قراءة كتاب نيكولز دون التفكير في التوترات التي تشهدها العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بسبب التهديد الذي يمثله برنامج إيران النووي. ومثلما كان الزعيم المصري متقلب المزاج، جمال عبد الناصر، يمثل خطرًا كبيرًا على إسرائيل خلال فترة الخمسينات، وهذا هو حال آية الله علي خامنئي اليوم.

والمثير في أمر أيزنهاور هو أنه في الوقت الذي كان متعاطفًا فيه مع احتياجات إسرائيل الدفاعية، كان عازمًا على الحفاظ على استقلال سياسة الولايات المتحدة وتفادي خوض حرب ربما تؤدي إلى تدخل الاتحاد السوفياتي. وقال أيزنهاور في آخر خطاب له قبل انتخابات عام 1956 في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني): «نحن نعتقد أن قوة الأسلحة الحديثة لا تجعل الحرب خطيرة فحسب بل أيضا غير معقولة».

 وتزامنت هذه الانتخابات مع أزمة قناة السويس وغزو الاتحاد السوفياتي للمجر لإخماد الثورة التي كانت مندلعة هناك. لقد كانت بحق اللحظة التي تمثل اختبارًا لإيمان المحارب القديم بأنه يجب ألا يكون هناك المزيد من الحروب.

 ومع تناقش مجلس الشيوخ في أمر تعيين هاغل وزيرًا للدفاع، ينبغي أن يضع جيدًا في الاعتبار خطاب أيزنهاور. ويعد هذا دليلا مفيدا لفكرة هاغل عن القوة الأميركية في الشرق الأوسط ويفسر أيضا الأفكار التي يتقاسمها مع أهم شخصيتين في صناعة السياسة وهما أوباما وبايدن. وجمعت السويس الكثير من الأمور: الإمبراطوريتين الآفلتين البريطانية والفرنسية والهيمنة الأميركية البازغة على العالم واضطراب العالم العربي والدور الهجومي غير المتوقع لإسرائيل، التي وجدت نفسها، كما هو الحال الآن، تقاتل من أجل الحياة وسط دول

 إسلامية معادية. وكان أيزنهاور يراقب الشرق الأوسط بتوجس منذ توليه الرئاسة عام 1953. وقال في مؤتمر صحافي عُقد في يناير (كانون الثاني) عام 1956 إنه ينبغي على الولايات المتحدة تبني سياسة عربية – إسرائيلية «تفوق عالم السياسة» وشجّع على إقامة نوع من الصداقة بين الجانبين أو على الأقل تعاون بينهما. وحان وقت اختبار هذه الفكرة الشفافة عن الحيادية. وذكر أيزنهاور في خطاب إلى ونستون تشرشل بتاريخ 29 مارس (آذار) عام 1956 أن الشرق الأوسط هو أهم وأكثر المشكلات التي تواجهها دولنا حاليًا إزعاجًا. وازداد قلقه في يوليو (تموز) بعد تأميم عبد الناصر قناة السويس.

 وكان البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون – الذين كانوا مجهولين لأيزنهاور ومستشاريه – يخططون سرا لمنع سيطرة عبد الناصر على السويس. وقد تم تشكيل تحالفهم الثلاثي، الذي كان يطلق عليه اسم «عملية الفرسان الثلاثة»، بصورة رسمية في بروتوكول سري في الرابع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول)، والذي نص على أن تقوم إسرائيل بغزو شبه جزيرة سيناء بعد خمسة أيام. وقام الثلاثة أطراف بوضع ما أطلق عليه نيكولز اسم «شاشات الدخان» لإخفاء خططهم عن الولايات المتحدة.

 وعندما جاء الغزو الإسرائيلي في التاسع والعشرين من أكتوبر، قبل أسبوع واحد من الانتخابات الأميركية، كان أيزنهاور غاضبا للغاية وقال لوزير الخارجية جون فوستر دالاس: «فوستر، قل لهم إننا سوف نقوم بفرض عقوبات، سوف نذهب إلى الأمم المتحدة، وسوف نقوم بكل ما يمكننا القيام به من أجل إيقاف ذلك». وبالفعل، نجحت الولايات المتحدة في الحصول على قرار أممي بوقف إطلاق النار، على الرغم من معارضة كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.

 ودخل أيزنهاور في مخاطرة سياسية، وتعرض للانتقاد من قبل منافسه الديمقراطي، أدلاي ستيفنسون، الذي صرح في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) أنه كان يمكن تجنب الحرب لو قدمت الولايات المتحدة دعما أكبر لإسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، فاز أيزنهاور بولاية رئاسية ثانية، مما اضطر الغزاة إلى الانسحاب من قناة السويس والإعلان عن استراتيجية أمنية تقودها الولايات المتحدة في المنطقة والتي أصبحت تعرف باسم «مبدأ أيزنهاور».

 والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف تنطبق هذه الأحداث على إسرائيل والولايات المتحدة الآن، ولا سيما في ضوء إدارة أوباما، التي تتعهد بمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية، وتتمنى تجنب شن عمل عسكري على طهران؟

 في الحقيقة، من المستحيل عقد مقارنة بين أوجه التشابه في الحالتين بدقة، ولكن المهم هو أن أيزنهاور، الذي كان يتسم بالحذر والاستقلالية، يعد نموذجا يحتذى لوزير الدفاع القادم في الولايات المتحدة.

 * خدمة «واشنطن بوست»

Posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا | Leave a comment

صراصير الاحتراز

سمير عطا الله – الشرق الاوسط

 كان كمال جنبلاط يسمي هذه البقعة التي أطلق عليها المزورون والمقنعون «الوطن العربي الكبير»، «السجن العربي الكبير». ومثل السجن الروسي القيصري ثم السوفياتي، الذي أنتج مرحلة أدبية كلاسيكية، بدأ السجن العربي يؤتي آدابه كلما سنح للسجناء الكلام. صدرت أبرز الأعمال، أولا من مصر، ثم من العراق، والآن تتزاحم شهادات السجن السوري. والظاهرة الغريبة في هذه السجون التقدمية الاشتراكية الحرة، نوعية السجناء: إسلاميون وشيوعيون سواء. يضاف إليهم في سجون سوريا نوع غريب آخر: البعثيون العراقيون، كما يذكر ياسين الحاج صالح في كتابه «بالخلاص يا شباب.. 16 عاما في السجون السورية» (دار الساقي).

 كما تحذر البرامج الوثائقية التلفزيونية سامعيها سلفا من حدة المشاهد التي سوف تلي، يحسن بأدباء السجون العربية أن يحذروا قراءهم مسبقا: ينصح لشديدي التأثر بتجنب هذه القراءات. الأمة بخير، من المحيط إلى الخليج، ومن صنع الله إبراهيم إلى ياسين الحاج صالح. الغرابة الأخرى، لا الأخيرة، أن السجناء إما طلاب طب سنة ثالثة – مثل صالح – أو طلاب هندسة سنة ثانية، أو طلاب حقوق، أو طلاب أي علوم. يعتقل هذا العدد الخطر «احترازيا» وهو في العشرين، ويفرج عنه بعد 16 عاما من البيض المسلوق وهو في السادسة والثلاثين، قضاها تحت لقب «ابن …».، يطأطئ الرأس أمام السجان، يشكر مسؤول التعذيب، وأحيانا ينقل نعال رفاقه من مكان إلى مكان لزوم الترتيب: بفمه.

 وهناك نوعية الخطاب: «قرر حضرة الرقيب الأول في البداية أننا ضباع غدارة، ولم يلبث أن تدارك بأننا صراصير غدارة. هذا أنسب. كان واحدنا، وهو محني الظهر، رأسه يكاد يلامس قدميه، يشبه الآخر، تماما شبه الصرصور بالصرصور. الضبع حيوان كريه وشرس، لا يستغرب الغدر منه، وربما ينتفع منه. أما وضاعة شأن الصرصور انعدام شخصيته التام واستحالة أن يجني شيئا من غدره، فتجعله أشد إثارة للاحتقار والسخط. «مجرد التفكير في أن كائنا قذرا مقززا كهذا يقف في مواجهة الحضرة (الرقيب الأول) إهانة لا تطاق، لا يمحوها إلا سحقه».

 يتحول طالب الطب (أو الهندسة أو سواها) في السجن إلى حائك خرز لكي يؤمن مصروف السجائر، أو الكتب، بعد مضي ثلاث سنوات من منعها، وتقوم ألفة في السجن بين أهل اليمين واليسار، ويتساوون أمام الرقيب الأول وخطابه وإهاناته. وأما السجينات وهن أيضا شيوعيات أو أخوات، وربما بعض بعثيات العراق، لم يسلمن من الشتائم المقززة. وأعمار تمضي في التوقيف «الاحترازي».

Posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا | Leave a comment

الرفيق غورباتشوف

كنت أضع اللوم على نفسي في أنني ومن موقعي في قلب الإعلام العراقي لم أتمكن من فهم الآليات التي أدت الى تقويض الإتحاد السوفييتي وتحويله الى جمهوريات تابعة لمنظومة ( الكومون ويلث ) المحكومة بالجنيه الإسترليني .

غير أن فترة منتصف الثمانينات من القرن الماضي , وتحديدا منذ وفاة ليونيد بريجينيف عام 1982 وتولي يوري أندروبوف الحكم بعده , الذي أناط بميخائيل غورباتشوف مسؤوليات كبيرة ورقّاه ليصبح الرجل الثاني في الحزب الشيوعي السوفييتي … تلك الفترة كان العراق يمر بمرحلة عصيبة من حربه مع ايران , من معارك شرق البصرة الى شرق العمارة , الى كارثة تحرير الفاو التي دفعنا ثمنها ربع مليون عسكري عراقي , الى الكارثة الأصعب على المدنيين العراقيين وهي حصول ايران على صواريخ بعيدة المدى وبداية سياسة ( التنكيل ) بين البلدين المتحاربين بدك المدن بالصواريخ لقتل وإفزاع المدنيين العزل , كل ذلك ألقى بظلال كئيبة قاتمة حتى داخل الإعلام العراقي نفسه , لذلك كنا نركز على أمورنا الداخلية , ولم نبذل كبير جهد لمحاولة فهم ما يدور في العالم , رغم كل جسامة ما كان يدور .

حين غادرت العراق منذ ما يزيد على عشر سنوات , قررت أن أقرأ عن تلك المرحلة لمحاولة فهمها , غير أني وفي عهد ما قبل شيوع الأنترنت , تواجهت مع مشكلة شحة أو إنعدام الكتاب الأجنبي في المكتبة العربية , كما واجهتني كتابات وتحليلات لكتّاب عرب ( كبار أو صغار ) غير مبنية على واقع موضوعي موجود على الأرض , ولكنها مبنية على أحكام مسبقة جاهزة , تم تقريرها ضمن علاقة العرب الطويلة الأمد مع الإتحاد السوفييتي , والأسوأ من ذلك أن غالبية كتّابنا ( وهم كتّاب حكوميون ) إعتمدوا في تحليلاتهم على نشرات الأخبار , ومعلوم أن الإعلام مقنن من الحكومات في أقطارنا العربية , لذلك فالموقف الرسمي الحكومي هو الذي سيتحكم بإتجاه الخبر , ناهيك عن أن حتى حكوماتنا نفسها , تستمد مادتها الخبرية من وكالات أنباء عالمية , وعند مطالعتنا لأي جريدة محلية سنجد عبارة : (( ذكرت وكالة كذا للأنباء … )) تسبق أغلب الأخبار . فإذا وضعنا في أذهاننا فكرة أن وكالة الأنباء في يومنا الحالي هي ( مؤسسة عسكرية مدنية الطابع ) صار مفهوما كيف يوجه رأينا ( عالميا ) بإتجاه قضية ما أو ضدها .

 حين أصبحت مواطنة في دولة غربية , وإنتسبت الى الدراسة من جديد للحصول على درجة ماجستير ثانية , صار من واجبي قضاء عدة ساعات يوميا في المكتبة , لذلك ومنذ عام تقريبا أخصص ساعة من وقتي المكتبي كل يوم للبحث في قضية الإتحاد السوفييتي ( السابق ) . وقد تكونت لدي الملاحظات التالية عن الكتب التي تخص هذا الموضوع , والمكتوبة باللغة الإنكليزية

# لا أحد يهتم بتوصيل أفكار المواطنين السوفييت أنفسهم , أو الشيوعيين البلاشفة الى الرأي العام العالمي فلا كتاب يترجم عن الروسية أو عن أي لغة محكية في الإتحاد السوفييتي الى الإنكليزية , وحتى لو وقعت الترجمة , فمن الذي سيطبع أو يوزع على نطاق واسع ؟؟ خصوصا إذا كان ما يتضمنه الكتاب آراء تتعارض أو تتناقض مع الطرح الأمريكي للقضية ؟؟

# الكتب الغربية الموضوعة عن هذه المرحلة تغطي الحقائق الموجودة على الأرض ببرقع ( الديموكرسي ) وشعارات حرية الشعوب , في وقت نحن فيه متيقنون أن حرية أي شعب على هذه الأرض بما في ذلك حرية الشعب الأمريكي نفسه , لن تهم الحكومة الأمريكية إذا كانت تلك الحرية تتعارض مع توجهاتها وأولوياتها . وأغلب هذه الكتب تتحدث بمنطق المنتصر الذي يهلل للنتيجة , دون أن يبذل كبير عناء لتوخي الحقيقة , فيحدثنا بشكل صريح عن الآليات ( نظيفها أو قذرها ) التي أوصلت الى تلك النتيجة .

كل هذه المعطيات دفعتني لقراءة جميع مؤلفات غورباتشوف الموجودة في المكتبة والمترجمة الى الإنكليزية وهي :

# ( في بلدي والعالم ) غورباتشوف . مطبعة جامعة كولومبيا . نيويورك , 1999 , قطع كبير 300 صفحة .

# ( وقت للسلام ) غورباتشوف . ريتشاردسون وستيرمان . نيو يورك , 1985 , قطع متوسط 297 صفحة .

# ( إنقلاب آب . الحقائق والعبر ) غورباتشوف . هاربركولين . لندن , 1991 , قطع متوسط 127 صفحة .

# ( البريستوريكا . أفكار جديدة من أجل بلدنا والعالم ) غورباتشوف . هاربركولين . لندن , 1987 , قطع كبير 254 صفحة .

# ( البحث عن بداية جديدة : تطوير حضارة جديدة ) غورباتشوف . مطابع كولين . سان فرنسيسكو , لا سنة طبع , قطع متوسط 81 صفحة .

# ( نحو عالم أفضل ) غورباتشوف . هتشينسون . لندن , 1987 , قطع كبير 389 صفحة .

# ( الموعظة الأخلاقية للقرن العشرين . حوار بين غورباتشوف وآيكيدا عن البوذية والشيوعية ) ميخائيل غورباتشوف و دايساكو آيكيدا . آي بي تاوريس . لندن , 2005 , قطع كبير 180 صفحة .

# ( المذكرات ) غورباتشوف . دبل داي . لندن ونيويورك وتورنتو وسيدني وأوكلاند , 1996 , قطع كبير 769 صفحة .

 ن حكم فيما لم يعلم فقد ظلم , ولذلك فلن أقدم حكما سياسيا على ميخائيل غورباتشوف لأني لا أعرف حقيقة الملابسات التي جعلته يتصرف بالطريقة التي كان عليها . لكني ومن خلال أفكاره التي كتبها في كتبه العديدة , أستطيع القول أنه كان شخصا ماكرا , يدّْعي الشيء ويضمر ضده , كما كان شخصا زئبقيا يتماشى مع الضغوط الواقعة عليه دون أن يجعلك تأخذ منه لا حق ولا باطل .. ومواقفه الآنية تحكمها ( اللحظة نفسها ) دون دراسة واقعية لما يمكن أن تفضي إليه من نتائج مستقبلية .

وهو أيضا إنسان وصولي عقد الكثير من التحالفات مع أشخاص آخرين لمجرد طموحه في أن يصل , وحال وصوله إنقلب على حلفائه وإحتل أماكنهم .

ومن صفاته الأصيلة : سلوكه المتعالي نتيجة إحساسه الكبير بالنقص , ذلك الذي سيدفعه الى التعالي على رفاقه أو مواطنيه وهو يكتب عنهم أو يتعامل معهم , وتجلت أكبر نقاط إحساسه بالنقص عند وصوله الى الكرملين كوزير للزراعة عام 1978 حيث إنسحب هو وزوجته من الحياة الإجتماعية للحكومة التي صارا عضوين فيها , بإستعلاء ليس له مبرر حتى وإن كانت بعض مسبباته صحيحة .

كما أنه شخص (( أخذته العزة بالإثم )) فهو كزعيم بلشفي من المستحيل أن يعترف بالخطأ , هذه الصفة التي كان ينتقدها في ستالين وغيره من الزعماء السوفييت , كان يتصف بها هو أيضا عن كل جدارة , ونتائج أخطائه يوزعها يمنه ويسرة على الغير , وكان الأحب إليه أن يتهمه مواطنوه ورفاقه بخيانة مباديء الحزب أو مباديء الوطن , على الإعتراف أنه أخطأ أو تم إستغفاله من قبل الغرب عند محادثاته معهم , ويبرقع تدميره لمنظومة بلده , ببرقع الحرص على السلام العالمي , وكأن معامل السلاح الأمريكية ستقفل أبوابها بمجرد توقيعه على إتفاقية أو معاهدة . وعلى أي حال .. وكل حال .. فإن العالم لم يصبح أفضل بعد تقويض الإتحاد السوفييتي الذي كان ينظر إليه من عموم العالم كقوة عظمى , تدعى بالكتلة الإشتراكية , التي تقابل الكتلة الرأسمالية .

المهم , أننا من سنقرأ كتب غورباتشوف , ورغم كل دعواته الإنسانية , إلا أننا لن نتمكن من الثقة بما يقول , فهو إنسان ماكر , ورغم كل مكره .. إلا أنه أُسقِط في يده فوق ذلك .

سأستعين بكتاب مذكراته … لا للحديث عنه , ولكن لنبحر في تفاصيل تقويض دولة … كانت الى ما قبل سنوات , واحدة من أقوى دول العالم .

 ولد ميخائيل غورباتشِف يوم 2 مارس 1931 في قرية ( بريفولنويا ) التي تقع في مقاطعة ( ستافروبول ) جنوب روسيا , كان والداه كادحين , بيتهم بسيط الى أبعد الحدود مكون من 3 غرف مبنية بالطين والقش . والده كان هادئا وذكيا ويعمل مسؤولا عن محطة ( المركبات الزراعية ) في القرية . أما والدته فقد كانت سيدة ذات شخصية قوية أثرت كثيرا في حياة إبنها وشخصيته .

مقاطعة ستافروبول خصبة الأرض ودافئة في الصيف , وهي منطقة ممتازة لنمو المحاصيل وتربية الماشية . وكان غورباتشوف صبيا حين لاحظ أن الناس كانت تتضور جوعا لأن الرئيس السوفييتي جوزيف ستالين , أمر جميع الكادحين بالعمل في ( مزارع جماعية ) .

حين رفضت بعض قرى ستافروبول الأمر قام رجال ستالين بمصادرة إنتاج تلك القرى . وأثناء شتاء 33 _ 1934 جاع ثلث السكان حتى الموت .

خلال الثلاثينات من القرن الماضي كان هناك ماهو أخطر من الموت جوعا .. إنهم ( الشرطة السرية ) التي إعتقلت الملايين من الناس الذين ( يُشك ) أنهم يعادون النظام . الكثير منهم أُعدموا أو أرسلوا الى المعتقلات . عام 1937 أعتقلت الشرطة السرية جد غورباتشوف عند الفجر , وأطلق سراحه بعد عام , لكن حكاياته عن التعذيب والمعتقل أثرت بشكل صارخ في حفيده .

أثناء الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1941 غادر والد غورباتشوف الوطن ليحارب مع الجيش السوفييتي ضد ألمانيا النازية التي غزت روسيا . وكان الولد ميخائيل ذا 10 سنوات من العمر هو الإبن الوحيد للعائلة الذي يجب عليه الآن أن يحل محل أبيه فيحفر مروز الخضرة ويجمع الحطب ويطعم البقرة ويحلبها , ولم يكن لديه وقت للمدرسة .

وصل الجنود الألمان الى قريته بريفولونيا في آب 1942 وقاموا بأخذ كل الطعام الموجود في القرية وهددوا بإعدام ( الشيوعيين ) , لذلك سارع الولد ميخائيل للهرب والإختباء في بيت حقلي بعيد .

بداية عام 1943 حرر السوفييت المنطقة من الألمان لكن مشاكل عائلة غورباتشوف لم تنته , فالمجاعة ضربت القرية من جديد مما أجبر والدة ميخائيل , أن تبيع ملابس زوجها في السوق لتشتري الطعام .

خلال عام 1944 تمَّ طرد الألمان من كل روسيا , لكن الحرب العالمية الثانية لم تنته إلا في عام 1945 . وببطء شديد عادت الأمور الى حالها الطبيعي , فعاد ميخائيل الى مدرسته الإبتدائية بعد سنتين من التوقف عن الدراسة , وكان رعب الحرب كما يقول : (( إضاعة وقت )) .

عاد والده من الجيش الى عمله في ( النقليات الزراعية ) وكبرت العائلة بولادة إبنها الثاني ( ألكسندر ) عندما كان عمر ميخائيل 15 سنة , الذي لم تربطه أبداً أخوة حميمة مع شقيقه الأصغر .

كان ميخائيل قد عمل في ( المزارع الجماعية ) أثناء فترة الحرب . وفي العام 1946 كان يافعا بما يكفي ليشارك في ( حملة حصاد ) لقطع وجمع الحنطة من الحقول , وكان يعمل ما يقارب 20 ساعة في اليوم مع 3 أو 4 ساعات نوم , ولم يكن معه فراش في الحقل لذلك كان عليه أن يغطي نفسه بالقش ليتقي البرد .

عام 1948 إنتظم في المدرسة الثانوية وكانت تبعد 20 كيلومتر عن بيتهم , فكان عليه أن يؤجر غرفة قرب المدرسة ويعود للبيت نهاية الأسبوع .

درس بكد وصار نجما طلابيا بسرعة , متميزا في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والتاريخ , كما إنضم الى منظمة شباب الحزب الشيوعي ( الكومسومول ) .

غادر المدرسة وهو يحمل وسامين . الأول كان ميدالية فضية عن تفوقه المدرسي , أما الثاني فقد كان وسام ( الراية الحمراء ) عن تفوقه بالعمل في حملات الحصاد , وكان الوسامان عونا له في طموحه , فمعظم رفاقه كانوا قد إنتسبوا الى معاهد وكليات محلية , لكنه تمكن بهاتين الشارتين من الإلتحاق بجامعة موسكو .

قرر دراسة القانون , رغم أنه كان يحمل رؤيا غير واضحة عن معنى القانون , لكنه كان يطمح بهذه الدراسة أن يصبح قاضيا أو محققا .

على عكس قريته البسيطة , موسكو كانت تبدو له مدينة للمسارح والمعارض الفنية . زار الساحة الحمراء , والكرملين , وبقية المواقع المشهورة . ومنذ الشهر الأول لوجوده في موسكو شعر ب ( صدمة القروي بأضواء المدينة ) , يرتدي بفخر قبعة من الفراء وبدلة بنية رديئة الخياطة يعلق عليها ميدالية الراية الحمراء التي حصل عليها أثناء مواسم الحصاد حيث وجد زملاؤه شكله غريبا وسخروا منه , لكنهم إحترموه حين تعرفوا أثناء الدرس على ذكائه الثاقب وطاقاته .

الحياة في الجامعة لم تكن مرفهة , فقد عاش في أقسام داخلية كبيرة , يقاسم 21 طالبا قاعة كبيرة , وعليه أن يطبخ أكله الذي يجلب مواده من قريته , أما حمامه فقد كان حماما عموميا يسمح له بدخوله مرتين في الشهر .

في هذه الفترة أصبح عضوا كاملا في الحزب الشيوعي الروسي وهو بعمر 19 سنة , أصغر عمر يسمح فيه بالحصول على العضوية الكاملة , مما يدل على مقدار طموح غورباتشوف في روسيا ذلك الزمان , الذي لم بإمكان المرء فيه الوصول الى موقع سلطوي دون أن يكون متحمسا بجدية , وحزبيا مخلصا .

كان غورباتشوف يريد السلطة .. وهو كبلشفي .. يعرف أن عليه العمل بكد للحصول على تلك السلطة , مثلما عليه أن يرضي المسؤولين ولا يسال أسئلة تسبب لهم القلق بشأنه .

تعلم هذه الحكمة بأسلوب صعب , ففي عام 1952 كان قد إعترض على أحد أساتذته أنه لا يحاضر في قاعة الدرس , لكنه يقرأ بصوت عالي الصفحات تلو الصفحات من أحد كتب ستالين . فكان رد الفعل صادما ومرعبا , فليس من حق أحد غير ستالين نفسه ( كما قالت الكلية ) أن ينتقد أسلوب أستاذه . وتداولت الألسن في موسكو هذه الحكاية على شكل فضيحة صغيرة قام بها غورباتشوف , ولم ينقذه منها غير الإعتذار , وبعدها تعلم أن يكون حذرا في المستقبل .

 يقول غورباتشوف : (( رغم هذا , وجدت من الصعوبة أن أبقى هادئا , حين كنت أرى الظلم يقع . في بداية عام 1953 إنتشرت مظاهر معاداة اليهودية في موسكو . غضبت حين إكتشفت أن أحد زملائي وكان يهوديا , قد تمت إهانته والإعتداء عليه , فهرعت لحمايته من طلبة جامعة موسكو [ الرعاع ] وكانت تلك آخر مرة يتعرض فيها للأذى )) .

تعرف غورباتشوف عام 1951 على على زميلة إسمها ( رايسا تيتورينكو ) تدرس الفلسفة , حاصلة على ميدالية ذهبية من المدرسة قبل إلتحاقها بالجامعة , وأغرم بها وحاول أن يجعلها تعجب به , يقول في مذكراته : (( أعتقد أنني كنت أقوم بحماقات كبيرة لجلب إنتباهها )) لكنها إنتبهت له وسرعان ما صارا يقضيان معظم وقت فراغهما معا , وعند العام 1953 قررا أن يتزوجا رغم كونهما طالبين فقيرين .

كان عليه أن يجمع بعض المال ليفتحا به بيتهما , ولذلك ففي الصيف عاد الى قريته وعمل ميكانيكيا في موقع للمكائن الزراعية , وكان هناك موسم حصاد وفير ذلك العام , باع غورباتشوف ووالده غلتهما فيه بما يقارب 1000 روبل , وكانت مبلغا ضخما ذلك الوقت , لذلك صار بإمكانه الإعداد للزواج .

وسط كل هذه الإستعدادات , مات جوزيف ستالين , الذي كان يحكم الإتحاد السوفييتي منذ 25 سنة , وقد مات 20 مليون مواطن خلال عهده المليء بالظلم والجور والتعسف , مع هذا فقد كان الناس ينظرون إليه كما لو كان ربا من الأرباب . صعق غورباتشوف لموته وشارك آلاف الناس لإلقاء نظرة الوداع عليه .

بدأت الشكوك تغزو رأس غورباتشوف وهو يتطلع الى جثة ستالين المسجاة , فيقول عن ذلك : (( بحثت عن آثار عظمته , لأن هناك شيء كان يحيرني في طلعته , خلق في نفسي مشاعر متضاربة , فقد كنت أرى أن الإتحاد السوفييتي الذي أنشأه ستالين كان بلا عدالة ومشرفا على السقوط )) .

أصدقاء الجامعة يصفون غورباتشوف أنه (( منشَّق )) وشخص معارض للنظام السياسي , وكان ذلك خطرا عليه , لذلك كان عليه أن يخفي توجهاته الليبرالية بشكل جيد بمظاهر عضويته للحزب الشيوعي .

تزوج ميخائيل ورايسا في موسكو يوم 25 سبتمبر 1953 , وكانا طالبين . في البداية لم تسمح لهما الجامعة بالعيش معا في سكن الطلبة , لذلك كان عليهما أن يبقى كل منهما في سكنه السابق , عندها قدَّم غورباتشوف إحتجاجا عن طريق ( الكومسومول ) ضد هذا الإجراء , الذي كان من نتيجته أن منحا غرفة خاصة ليقيما فيها . يكتب عن ذلك بقوله (( شعرت عندها بفرح أنني أصبحت رب أسرة )) .

عمر الفرحة قصير .. تخرج غورباتشوف من الجامعة عام 1955 , وتقدم بثقة للحصول على عمل في مجال القانون , أخبروه أن لا وظيفة لديهم , لكونهم يعتقدون أن المتخرجين الجدد من كلية الحقوق , صغار وأبرياء جدا على عمل مثل هذا .

طار صوابه من هذا الرد , إذ يبدو أن عمله التخصصي قد إنتهى من قبل أن يبدأ . ولم يكن لديه خيار غير العودة الى قريته ومحاولة العثور على عمل هناك . كما كان عليه العثورعلى سكن له ولزوجته .

ترك زوجته لتبقى في بيت أهلها لعدة أشهر , وحمّل أشياءهما في حقيبتين , وصندوق خشبي كبير , وركب القطار عائدا الى ستافروبول حيث أجّر هناك غرفة صغيرة رثة تحتوي على سرير حديدي كبير وموقد لطبخ الطعام , الصندوق الذي أحضره معه من موسكو تم إستعمال سطحه كمائدة طعام وباطنه كرف للكتب , المرحاض كان خارج الدار , أما الماء فيجلب بواسطة سطل من موقع المضخة .

كان هذا البيت مكانا كئيبا بالنسبة لرايسا لتعيش فيه , وكانت حاملا , فأضطرت للتوقف عن الدراسة في موسكو , لكن الأسوأ هو أنه كان على ميخائيل قبول عمل في الكومسومول في مكان بعيد يبقيه خارج البيت عدة ليالي في الأسبوع .

كان قد كره عمل المحاماة , فعلى الرغم من أن ستالين كان قد مات , لكن أسلوبه في السيطرة على الدولة كان باقيا في محله , وهذا يعني أن معظم القضايا القانونية كانت تحت إشراف الساسة , أو حتى تحت إشراف الشرطة السرية ( الكي جي بي ) وهناك القليل لعمله مع العدالة والقانون , لكن عمل غورباتشوف الجديد لم يكن قانونيا بل كان في قسم الدعاية والإعلام , ويتطلب منه نشر أفكار الشيوعية بين المواطنين الشباب وتشجيعهم على أن يكونوا مواطنين نموذجيين . وكان هذا العمل يتطلب سفرا كثيرا في أرجاء المقاطعة وقراها البعيدة , أحيانا بالقطار أو السيارة , وعلى الأغلب مشيا على الأقدام , ولذلك فلا عجب إذا أنفق راتبه الشهري الأول لشراء حذاء متين .

يقول غورباتشوف في كتاب مذكراته الذي صدر عام 1995 : (( الى أبعد ما يمتد البصر ويجول الطرف , كانت هناك أكواخ تمتليء بسعال التدخين , في هذه المساكن التعيسة كان الناس يعيشون حياة ما , لكن الشوارع [ إذا جاز تسميتها شوارع ] كانت كارثة , كما لو أن الوباء كان قد إجتاح عموم القرية ….. كنت أحدث نفسي : بأن هذا هو سبب هجران الشباب لهذه القرية المنسية , إنهم يهربون من الخراب والرعب , ومن إرهاب فكرة أن يدفنوا أحياء فيها . الشعب يستحق حياة أفضل _ وهذه فكرة بقيت عالقة في ذهني )) .

تعلم غورباتشوف العديد من الدروس المهمة من عمله في الكومسومول , أهم الدروس هو كيفية أن يصنع من نفسه شخصية عامة تجيد التحدث وتلقي الخطب وتجيب على الأسئلة , كما أنه رأى بعينيه طبيعة الحياة البائسة التي يعيشها الناس في المناطق المنسية , كما لاحظ أن العديد من مسؤولي الحزب الشيوعي يتملكهم الغرور والطمع , ومقارنة لهم مع بقية الناس , تبدو علامات الشبع واضحة عليهم , يقول غورباتشوف أنه كان يخبر رايسا : (( عندما تنظرين الى الواحد منهم فإنك لا تكادين تلاحظين شيئا غير كرشه )) .

توجهات غورباتشوف السياسية إهتزت متأثرة في ربيع عام 1956 عندما ألقى الرئيس السوفييتي الجديد نيكيتا خروشوف خطابا هاجم فيها الرئيس السابق جوزيف ستالين , وفي الحقيقة إن هذا الخطاب كان قد صدم عموم المجتمع السوفييتي , إذ لم يكن أحد يجرؤ على الإشارة الى أن ستالين قد قام بخطأ ما . وأثناء رحلات غورباتشوف في القرى كان الناس يسألونه عن معاني خطاب خروشوف .

أصبح الإتحاد السوفييتي محط الأنظار في عام 1956 عندما أمر خروشوف الدبابات بالنزول الى شوارع العاصمة الهنغارية بودابست لسحق اٌُنتفاضة ضد السوفييت . فسقط حوالي 2500 هنغاري قتلى في العمليات العسكرية .

ولدت إبنة غورباتشوف الوحيدة في يناير عام 1957 وتمت تسميتها ( إيرينا ) , لكن فرحة العائلة تكدرت حين أخبرهم الطبيب أن الأم لن تتمكن من الحمل مرة أخرى , وعلى أي حال فقد كان البيت صغيرا باردا , ولا تملك العائلة لإطعام الطفلة الجديدة إضافة الى ان العائلة تعيش على راتب الأب وحده , لذلك كان من العملي أن لا يكون لها طفل آخر .

تحسنت الأمور ببطء , فقد تمكنت رايسا من العمل في معهد محلي , وكان راتبها أكبر من راتب زوجها , فتمكنت العائلة من إيجار شقة من غرفتين , وكان عليهم مشاركة المرحاض والحمام مع الجيران .

بجهوده الشخصية البحتة , في العام 1958 تم إنتخاب غورباتشوف ( سكرتير ثاني ) للكومسومول عن مقاطعة ستافروبول , بما يعني أن مسيرته نحو القمة كانت قد بدأت بالصعود .

في يناير 1960 ذكر خروشوف في خطاب له بالكرملين : (( إن الرفاق العلماء السوفييت قد إبتكروا سلاحا جديدا غير نووي لو إستخدم … فسيمحو الحياة من على كوكب الأرض )) . ثم وهو يلقي خطابا في الأمم المتحدة نفس العام , وفي حادثة فريدة من نوعها , قام بخلع حذائه ودق به فوق المنصة قرب المايكروفونات , في إشارة منه للحضور معناها : إسمعوني جيدا . ثم طالب الأمريكان بوقف عملياتهم العسكرية فورا في ( خليج الخنازير ) بسبب أزمة الصواريخ السوفييتية في كوبا , مقابل أن يسحب الإتحاد السوفييتي تلك الصواريخ من الأراضي الكوبية .

 لم ينتظر غورباتشوف طويلا للحصول على الترقية التالية , ففي العام 1961 كان قد أصبح ( سكرتير أول ) أو قائد الكومسومول في جميع ستافروبول , فصارت لديه سيارة حكومية لتنقلاته , وجبل من الأوراق على مكتبه , مرسل من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي , كما أن وظيفته الجديدة أدخلته الى مستوى أعلى في عالم السياسة المحلية , وصار يختلط بأشخاص أكثر أهمية .

أكتوبر 1961 إجتمع غورباتشوف للمرة الأولى مع أعضاء الحزب الشيوعي في موسكو بصفته رئيس وفد الكومسومول القادم من ستافروبول , وهناك إستمع بإعجاب الى خروشوف يجدد هجومه على ستالين ويحدد إصلاحات رئيسية للنظام السوفييتي , لكنه لاحظ أن خروشوف كان قد إكتسب الكثير من الأعداء الذين من المحتمل أن يطيحوا به .

كان يعلم أن أي سياسي , خصوصا إذا كان كادحا طموحا مثله هو شخصيا , سيكون له أعداء , وماكان يطمح إليه هو : أن يعثر على أشخاص يلتزمونه , إناس لهم مراكز قوية , يدعمونه ويساعدونه , ووجد أول هؤلاء الناس في شخص ( فيدور كوليكوف ) رئيس الحزب الشيوعي في مقاطعته , الذي لاحظ أن غورباتشوف شاب ملتزم ودؤوب , فتمت ترقيته بسرعة لينقل من الكومسمول للعمل مباشرة مع الحزب الشيوعي .

وظيفته الجديدة كانت الإشراف على العمل الإقليمي للحزب الشيوعي في 3 مقاطعات زراعية , فصار عليه العمل بكد أكثر من السابق , يقول عن ذلك : (( أمضيت أياما وليالي مسافرا حول المقاطعات وزائرا الحقول )) .

في أقل من عام خطا خطوة أوسع عندما إختاره كوليكوف ليصبح رئيساً للقسم الذي يشرف على تعيين الحزبيين رسميا في الإقليم . كان الموقع شديد المسؤولية ويحتم على غورباتشوف اللقاء اليومي مع كوليكوف .

كان كوليكوف شخصا طموحا جداً , ومهماً , و( يجب ) إتخاذه صديقا , فقد كان يعمل بطريقته الخاصة للوصول الى الكرملين , وكان ماكرا أيضا , يتفق في العلن حول كل ما يقوله خروشوف , لكنه يتكلم بالضد من ذلك بشكل شخصي مع الرفاق الذين يخشون أن إصلاحات القائد قد تمادت أكثر مما يجب .

في أكتوبر 1964 أطاح ليونيد بريجنيف بخروشوف حين كان خروشوف يقضي إجازة خارج موسكو , وأخضعه الى مراقبة دقيقة من جهاز المخابرات السوفيتي ( كي جي بي ) حتى وفاته عن عمر يناهز 77 عاما في عام 1971 .

حين وصل ليونيد بريجنيف الى الحكم . قام بنقل كوليكوف على الفور الى موسكو كوزير للزراعة , عندها صار لغورباتشوف عضيد يجلس الى جانب الرئيس مباشرة .

يقول غورباتشوف في مذكراته : (( تعلمت درسا من سقوط خروشوف , وهو أن على القائد أن لا يندفع في التغيير إذا كان له خصوم أقوياء داخل الحزب )) . لكن غورباتشوف سينسى هذه الحكمة التي تعلمها حين سيصبح قائدا .

بدعم من كوليكوف وصل غورباتشوف عام 1966 الى منصب ( السكرتير الأول ) للحزب الشيوعي في ( مدينة ستافروبول ) , وهذا أعطاه الكثير من الحرية ليتخذ القرارات بنفسه .

 خطَّطَ غورباتشوف للحصول على مؤهل في الزراعة مادام ( عضيده الحكومي ) يعمل في هذا المجال . وكانت زوجته رايسا تقوم بالتدريس في معهد زراعي , فإنتسب الى معهدها وكان يداوم في محاضراتها كواحد من الطلاب , عام 1967 حصل على شهادة زراعية من المعهد الذي تعمل فيه رايسا , ويخطط للإستفادة من الشهادة في أي موقع وظيفي زراعي قد يرشحه له صديقه كوليكوف .

زوجته كانت مهتمة بنفس الموضوع أيضا , ولهذا فحين كان عليها دراسة مرحلة الدكتوراه في جامعة موسكو , إختارت موضوع ( المزارع الجماعية ) التي تهم صعودها مع زوجها الذي بدأ ( يمسك ) طريق الصعود الصحيح من خلال علاقته مع الوزير كوليكوف . وكان من محصلة دراستها التوصل الى أن الفلاحين الذين يسمح لهم العمل بإستقلال فإنهم ينتجون أفضل من أولئك الذين يعملون تحت سيطرة الدولة , وقد تعلم غورباتشوف الكثير من أطروحتها .

 في آب عام 1968 كان غورباتشوف في موسكو حين تم تبليغه بترقيته ليصبح ( سكرتير ثاني ) في الحزب الشيوعي عن ( جميع مقاطعة ستافروبول ) , ولم يستقر في موقعه الجديد بعد , حين وصلت أخبار الإجتياح العسكري لتشيكوسلوفاكيا من قبل قوات حلف وارشو .

 تشيكوسلوفاكيا كانت تُحكم من قبل الحزب البلشفي منذ عام 1948 , وهذا يعني أنها تحت السيطرة السوفيتية كجزء من الكتلة الشرقية . وصل ألكسندر دوبجيك الى قيادة الحزب عام 1968 وأعلن الكثير من الإصلاحات منها حرية الصحافة , وحرية الإتصال بالدول الغربية , ووعد بإشتراكية ذات صورة إنسانية .

قصر الكرملين غضب وإستشاط , فقد رأى بريجينيف وبقية القادة السوفييت أن إجراآت دوبجيك ستضعف السيطرة البلشفية في تشيكوسلوفاكيا , كما خشوا أن دعوة الإصلاح قد تنتشر الى بقية دول الكتلة الشيوعية , ولهذا ففي آب 1968 قام 200 ألف جندي سوفييتي إضافة الى قوات صغيرة من دول حلف وارشو بغزو تشيكوسلوفاكيا , إعتقل دوبجيك , وحل محله متشددون , وأعيد البلد الى القبضة السوفييتية .

الأحوال داخل روسيا كانت قمعية أيضا , فالإطاحة هي مصير كل من يسائل الحزب الشيوعي أو يقترح إصلاحات .

في ربيع عام 1970 إنتخب أعضاء الحزب غورباتشوف ( سكرتير أول ) عن جميع مقاطعة ستافروبول , وكان المنصب كبيرا , لذلك أصبح شخصا مهما , وبيده جميع الصلاحيات الإدارية , ولا قرار يتخذ دون موافقته . والأهم من كل هذا أن من يحملون صفة ( سكرتير أول للحزب عن مقاطعة ) يشكلون أغلبية أعضاء ( اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي ) والتي إنضم إليها غورباتشوف عام 1971 ليصبح ( سكرتير أول في اللجنة المركزية للحزب ) .

 الترقية الجديدة لغورباتشوف جلبت له إمتيازا مهما وهو أن بإستطاعته السفر الى أوربا , ولهذا فقد سافر مع زوجته الى ألمانيا الشرقية , وبلغاريا , وتشيكوسلوفاكيا , وهي دول تسير على نهج الإتحاد السوفييتي وتسيطر على الزراعة والصناعة وتمنع مواطنيها من حرية الكلام .. يقول غورباتشوف : (( لكنني أُحبطت حين وجدت برلين الشرقية مكانا بارداً ومحرماً )) .

كما صار بإمكانه السفر عبر ( الستار الحديدي ) الى دول الغرب ( الإستعمارية ) _ ذلك الشيء الذي لم يسمح إلا لقلة من السوفييت أن يقوموا به .

قام مع زوجته عام 1972 بزيارة بلجيكا , وهولندا ثم قاما بعد ذلك برحلة الى إيطاليا وفرنسا وألمانيا الغربية .

طاش صوابه بما رأى . الأخبار التي تذاع في إعلام الإتحاد السوفييتي عن الغرب مقننة بشدة , ولهذا فهناك القليل جدا من الأخبار التي تصل الى المواطن العادي عن هذه الدول , ولهذا فالسوفييت يجهلون الغرب ويسيؤون الظن به , لكن غورباتشوف إكتشف فجأة وبشكل صادم إنفتاح الغربيين على العالم , وحقيقة مستوى وأسلوب حياتهم الذي هو أعلى كثيرا من مستوى مواطنيه السوفييت .. هل يمكن للمجتمع الإستعماري أن يعمل ويعيش بشكل أفضل من المجتمع الإشتراكي ؟

في منتصف السبعينات من القرن الماضي عثرغورباتشوف على إثنين من الحلفاء الأقوياء , يمكنهما ( إلتزامه ) : ( ميخائيل سوسلوف ) الماكر الشرير الذي عمل مع ستالين ثم خروشوف مديرا لمكتبيهما والآن هو مدير مكتب بريجينيف . والثاني هو ( يوري أندروبوف ) رئيس جهاز المخابرات الروسي ( كي جي بي ) الذي كان ينتقد سرا سياسة الرئيس السوفييتي بريجينيف , وقد لاحظ أندروبوف بأن غورباتشوف يمكن أن يكون موضع ثقة , ومن حقه أن يكون له مستقبل أكبر .

كان غورباتشوف كسكرتير أول في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في موقع سلطة حقيقية , لهذا عليه أن يخطط للحصول على موقع أكبر .. وزيرمثلا , لذلك سيبدأ الآن التسلق للوصول الى الإستحواذ على منصب صديقه الحليف ( كوليكوف ) .. بأن يبرهن أنه قادر أكثر منه على إتخاذ قرارات مهمة وتفعيل خطط كبيرة .

ستافروبول كانت مكانا مناسبا للبرهنة على هذه القدرة بإصلاح أرضها ومضاعفة غلة حصادها , فبدأ بمعالجة الجفاف الذي يؤثر على المنطقة .

في زمن ستالين كانت قد تمت المباشرة بشق قنال يوصل الماء الى المنطقة , ولكن إكمال المشروع أهمل , فبقي يشبه الخرائب على الأرض . من جديد عاد إليه غورباتشوف ليفرغ فيه كل طاقته , فرسم لإكماله خطة حاسمة بمفاتحة كل الوزارات بمطاليبه ولم يتوانى عن مخاطبة بريجينيف نفسه , وعند العام 1978 كان المشروع قد تم .

إبتدع غورباتشوف مشاكل ( تنتظر القرار والحسم ) : ما مقدار الغلة الواجب إنتاجها !؟ وهل يجوز توفير العلف للماشية والخنازير لتأكله أثناء الشتاء !؟ وهل يجوز تسمين هذه الحيوانات بسرعة !؟ وقد توصل غورباتشوف الى إتخاذ القرار ( بمشاورة الحكومة المركزية ) التي يطمح الآن الى ( جذب إنتباهها إليه ) .

إعتمادا على مخرجات أطروحة زوجته رايسا في مرحلة الدكتوراه عن ( المزارع الجماعية ) بدأ غورباتشوف يشجع المزارعين المستقلين , فسمح لمجاميع صغيرة منهم بزراعة الأرض بالطريقة التي يرغبون . كانت المفاجأة أن هذه المجاميع أعطت زراعتها غلة تزيد 6 أضعاف عما تعطيه مزارع الدولة العادية … لكن وزير الزراعة كوليكوف قلق بشدة على موقعه كوزير , ومن موقعه في موسكو , رفض تطبيق هذا النظام الزراعي الجديد عوضا عن نظام مزارع الدولة .. فأجبر غورباتشوف على التخلي عن تطبيق تجربته

لكن كوليكوف لم يستطع إسكات غورباتشوف من الكلام عن تجربته و ( التخبيث ) على وزيره , مما جعله شخصية بارزة في ميدان السياسيين القابلين للصعود والترقي وظيفيا , ولهذا فحين مات كوليكوف عام 1978 , وكان غورباتشوف محاطا برعاية ( حليفيه ) الآخرين : ميخائيل سوسلوف , ويوري أندروبوف , لتقريبه من رئيس الوزراء ( أليكسي كوسيجن ) …. فكان من نتيجة كل هذه الجهود : تعيين غورباتشوف وزيرا للزراعة عوضا عن كوليكوف . وصار مقر عمله الجديد في الكرملين . وكان على غورباتشوف وعائلته الرحيل ليعيشوا في موسكو .

 تغيرت موسكو كثيرا منذ أن كان ميخائيل ورايسا طالبين فيها . كتب غورباتشوف عن حياتهما الجديدة في موسكو : (( كنا وحيدين فيها )) .

إلتحق بعمله مباشرة , معتقدا هو وزوجته أن الناس في الكرملين ينظرون إليهم على أنهم مجرد أجلاف قادمون من الأرياف .

ترك غورباتشوف إنطباعا عند أعلى مفاصل الحكومة أنه يعمل 15 ساعة يوميا في مكتبه , ويدور في أرجاء الكرملين , يطرح الأسئلة , ويغني , ويفرقع النكات , لكنه في نفس الوقت متحفز على الدوام لمعرفة وفهم ما يجري حوله . قال عنه واحد من زملائه : (( إنه شخص متحمس كالإعصار )) .

الإقتصاد السوفييتي كان متضررا , والبطالة المقنعة كانت ضاربة في المعامل والحقول , ومئات آلاف العمال والفلاحين لا يقومون بشيء في الحقيقة , والكثير من المعدات والمكائن والسيارات كانت من نوعيات وموديلات قديمة جدا , والسلف المالية التي أقرضتها الدولة للمشاريع لن يتمكن مشروع واحد من إعادة تسديدها للدولة , كما أن تضاؤل خبرة العاملين أفضى الى نوعيات متردية من الإنتاج الزراعي والصناعي , والأسوأ من كل هذا هو أن ربع الإنفاق الحكومي كان يذهب لتمويل سباق التسلح مع الولايات المتحدة الأمريكية , يضاف الى ذلك أن ( المعمرين ) بريجينيف وبقية القادة الذين جاوزوا السبعين من العمر قد أغلقوا أعينهم عن كل المشاكل المتنامية .

غورباتشوف ومن موقعه الجديد كوزير للزراعة كان يعرف أن الإتحاد السوفييتي مشرف ذلك العام ( 1979) على شحة في الغذاء أو مجاعة , فقد كان موسم الحصاد شحيحا , لذلك إتخذ بعض الإجراآت الداخلية , ونصح حكومته المركزية بإستيراد الحنطة من الولايات المتحدة الأمريكية .

قامت الدبابات السوفييتية بغزو أفغانستان أثناء إحتفالات الكريسماس عام 1979 من أجل مناصرة الحكومة الشيوعية فيها . وكان القتال عبارة عن كارثة حقيقية , فالقوات السوفييتية الضخمة بكل معداتها المتطورة لم تتمكن من دحر القوات التي يعتقد أنها ضعيفة التسليح : ( مقاتلي المقاومة الإسلامية ) المدعومين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بقوة وغزارة , لكن الأسوأ لم يأت بعد ….. عند إحتجاج العالم على الإجتياح السوفييتي لأفغانستان … سارعت الولايات المتحدة الأمريكية الى خرق إتفاقيتها التجارية مع الإتحاد السوفييتي , ورفضت بيع أي قمح له … ليتجاوز مجاعته المقبلة .

فجاة صارت الزراعة موضوعا ساخنا . غورباتشوف تمكن الآن من وضع خطط ثقيلة لإصلاح الزراعة متحاشيا أي كلام عن الحاجة الى شراء تجهيزات من الخارج .

عمل جاهدا , ودرس البحوث , وإجتمع بالمختصين وقاتل من أجل التوصل الى حلول مقبولة , وحين أعلن برنامجه عام 1982 …… سقط البرنامج لأن الفاسدين حكوميا كانوا قد إستغلوا نتائج البرنامج من أجل مكاسب شخصية وخاصة .

كانت الحرب الأفغانية كارثة أخرى على قادة الإتحاد السوفييتي . في هذه الفترة كانت الحكومة السوفييتية قد وصلت الى حالة الجمود التام , وليس بمقدور واحد من أعضائها إتخاذ قرار , ( معدل عمر الأعضاء 70 سنة ) وكانت إجتماعاتهم قد تحولت الى مهازل .

كان بريجينيف مريضا , يتعاطى الأدوية والكحول , وسكران لمعظم الوقت , وقلة من أعضاء المجلس يتمكنون من سماع صوته حين يتكلم , وكان أندروبوف وبقية الأعضاء مشغولين في قضية الإستيلاء على كرسيه حين يموت . غورباتشوف كان مثلهم , لكنه كان يدبر خططه خارج المكتب أو يزور الرفاق في بيوتهم , وكان مرتعبا من فكرة أن بريجينيف قد يسمع بذلك فيعرف أنهم يخططون للإطاحة به .

 القروية رايسا التي قدمت قبل وقت قصير الى الكرملين كزوجة لوزير الزراعة قادمة من قرية تبعد عن الكرملين مئات الكليومترات , وجدت أن فرصة الحياة ( المحدودة ) بين زوجات الكرملين ( لاتكفيها ) وتعتقد أن هؤلاء الزوجات ( مملات ومغرورات ) , فعقدت جميع صداقاتها خارج الحلقة الحكومية الضيقة (؟) ثم عادت الى الكلية وقدمت طلبا لدراسة اللغة الإنكليزية , وكانت تذهب مع زوجها لمشاهدة بعض المسرحيات أو الأوبرات أو حفلات الموسيقى السمفونية التي يرتادها ( القلة ) من أعضاء الكرملين وزوجاتهم .

 ( العتيقون ) أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي , بدأوا بالموت … إفتتح الحلقة سوسلوف نائب الرئيس عام 1982 , فإحتل منصبه مباشرة يوري أندروبوف رئيس المخابرات كنائب للرئيس . في الحال صار الرئيس بريجنيف الذي كان في غاية المرض , لا يتمكن من حمل قلم أو التحدث بشكل عام , وعلى الرغم من أن وضعه الصحي قد بقي سرا بعيدا عن الشعب , وكان محاطا طول الوقت بفريق طبي مجهز , إلا أنه مات في نوفمبر 1982 , فإحتل نائبه يوري أندروبوف موقعه مباشرة كرئيس للإتحاد السوفييتي .

 أناط يوري أندروبوف بصديقه غورباتشوف الكثير من المسؤوليات تصحبها العديد من الترقيات الوظيفية , التي جعلته الرجل الثاني في الحزب بعد أندروبوف , والشخص المسؤول عن الموازنات المالية لعموم الإتحاد السوفييتي , ومن بين واجباته الكثيرة كانت زيارته الى كندا , حيث بدأ الغرب بمغازلته منذ الان فقد ( أعجب الكل بذكائه وحس الدعابة لديه ) , كما أعجبوا ( بجاذبية رايسا وحيويتها ) , لذلك سيبدأ إستقبالهما منذ الآن بمظاهر من الحفاوة والتكريم , كافية لتدير رأسيهما بتنظيم برامج زيارتهما الأماكن الراقية والفخمة جدا , ودور الأزياء العالمية , وأي مكان , وكل مرفق يتم ( التحسر ) في الإتحاد السوفييتي على مشاهدة مثله أو شبيه له … أو حتى أقل منه

 أخيرا تمكن أندروبوف من إقرار بعض الإصلاحات داخل الإتحاد السوفييتي , وتدعيم علاقة أكثر ( دفئا ) مع الولايات المتحدة الأمريكية , حيث بدأ حملة ضد الفساد الإداري في مجال الزراعة , والأداء الوظيفي الهابط , ومحاربة الإدمان على الخمر , وإفتتح مباحثات مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان حول خفض عدد الصواريخ النووية في أوربا .

لكن هذه المشاريع لم تنجح , فقد كان أندروبوف مثل سلفه بريجينيف , رجلا عجوزا مريضا , والإشاعات تدور حول موته القريب . وحين مات في شباط 1984 , وجد الرفاق أن إناطة مسؤولية الرئاسة بغورباتشوف شيء صعب , لأنه كان صغير السن ( 53 سنة فقط ) ولهذا إنتخبوا ( كونستانتين تشيرنينكو) بدلا عنه والذي كان يبلغ من العمر 73 سنة فقط , ويحتضر من الربو وأمراض أخرى .

كان على غورباتشوف أن يكون أكثر صبرا فهو التالي على خط الرئاسة وعليه أن يغمر نفسه بالعمل لحين موت تشيرنينكو الذي بسبب مرضه لا يتمكن من السفر , وعليه فقد صار غورباتشوف ( ممثل الرئيس ) في كل المحافل التي يجب السفر إليها , عندها سافر غورباتشوف الى إيطاليا عام 1984 لتمثيل الرئيس تشيرنينكو في مراسيم تشييع الزعيم الشيوعي الإيطالي ( إنريكو برلينغور ) .

بعد عدة أشهر إصطحب غورباتشوف زوجته في زيارة الى بريطانيا , حيث إلتقيا برئيسة الوزراء مارغريت تاتشر , ومن أجل مغازلة غورباتشوف من جديد فقد كانت الزيارة ( بالغة النجاح ) ويقال أن الشعب البريطاني كان ( مذهولا ) من بريق وحيوية السيدة رايسا التي لا تشبه أي من زوجات المسؤولين السوفييت الذين زاروهم من قبل . وبسرعة قامت مارغريت تاشر بتشخيص ( جاذبية وطاقة ) غورباتشوف وكانت تقول : (( أنا أحب السيد غورباتشوف , ونستطيع أن نتفق عمليا )) .

بعض القادة العجائز في الكرملين بدأوا بالغيرة من شعبية غورباتشوف الداخلية والخارجية , لكنهم كانوا متأخرين جدا على فعل شيء لوقف قوته المتزايدة , فحين صار تشيرنينكو مريضا جدا , أخذ غورباتشوف يحتل مقعد تشيرنينكو في إجتماعات المكتب السياسي الأسبوعية , أما حين مات تشيرنينكو في آذار 1985 , فلم يكن هناك خيار أمام الرفاق من أن يقروا بأن غورباتشوف هو الذي سيكون الرئيس الجديد للإتحاد السوفييتي .

يوم 10 آذار1985 إنتخبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي ميخائيل غورباتشوف رئيسا للبلاد , فرد على ذلك بخطبة عصماء قدّم فيها أهداف رئاسته , قال فيها إن على البلاد أن تطور العلوم والتكنولوجيا , أما تطوير المجتمع فيتم بالمزيد من العدالة والتحولات الديمقراطية , وأن على الحزب والبلاد إتباع سياسة الجلاسنوست ( الإنفتاح ) . كما أعلن أنه راغب في وقف سباق التسلح مع الغرب وخفض إنتاج السلاح النووي .

العديد من الرؤساء السوفييت تحدثوا بمثل هذا الكلام في السابق , ولم يعتقد أحد أن هذا القروي الكادح القادم من ستافروبول سيلتزم بوعوده , لكن غورباتشوف لم يكن حاسما في تنفيذ التغييرات التي وعد بها فقط , لكنه كان ماكرا بما فيه الكفاية ليعرف أنه ماكان قادرا على عمل شيء من دون دعم أعضاء المكتب السياسي له … لذلك كان أول عمل قام به هو خلط الأوراق على هؤلاء الأعضاء لجعلهم يتضامنون معه , كما تخلص من ( الحرس القديم ) الذين كانوا في المكتب منذ عهد بريجينيف , وبضمنهم وزير الخارجية ( أندريه جروميكو ) , الذي يكرهه أصدقاء غورباتشوف الغربيون ويطلقون عليه تسمية ( جِرْم جرومي ) أي : ( الجرثومة جروميكو ) لأنه لا يتماشى معهم , من أجل أن لا يتواجه مع معارضة جروميكو في أي قرار بشأن السياسة الخارجية .

أما خارج المكتب السياسي , فقد أقال نصف رؤساء الأقسام , وأبقى 39 وزيرا فقط من أصل 101 وزير . خارج الإتحاد السوفييتي كان قد أبدل 20% من العاملين في الدبلوماسية بأشخاص جدد . وكان التغيير في كل مكان , أراد غورباتشوف أن يطبع عهده بتلك الصفة ( التغيير ) .

 الخطوة التالية كانت قيامه بزيارات دورية للمصانع والمدن والتحدث مع الناس .. وكانت رايسا ترافقه في تلك الزيارات على الدوام .

في تلك الفترة كان الإقتصاد السوفييتي في أسوأ حال , وكان غورباتشوف يعلم أن الإنفاق على التسلح هو أحد الأسباب الرئيسة لتدهور الإقتصاد . من ناحية ثانية فعلى الرغم من ذلك الإنفاق الباذخ إلا أن التسلح السوفييتي كان متخلفا عن نظيره الأمريكي .. أو ( هكذا كانت تروج الدعايات الأمريكية ) يضاف الى ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية قررت تطوير قدراتها ( فجأة ) بإعلانها برنامج ( حرب النجوم ) .. وهو برنامج يقوم على تحميل رؤوس نووية في الفضاء الخارجي للأرض تكون قابلة للتوجيه الى أي نقطة تراها الولايات المتحدة مناسبة لتدعيم سياستها حول العالم , كما تكون قادرة على تدمير الأسلحة المعادية بأشعة الليزر . وكل هذا يضيف أعباء مالية جديدة على الإقتصاد السوفييتي المتعب أصلا .

 من أجل فتح المباحثات مع الأمريكان أعد غورباتشوف للقمة السوفييتية _ الأمريكية في جنيف/ سويسرا عام 1985 , وبعد 3 أيام من عقدها وقّع الطرفان إعلانا يقول : (( لن يتحقق نصر بالحرب النووية وينبغي عدم خوضها بتاتا )) . كما تم التعهد بتطوير العلاقات بين البلدين .

 عقدت القمة الثانية بين البلدين في ( ريكيافيك ) بجزيرة إيسلندا التي تقع في منتصف الطريق بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي . حيث توصل الطرفان الى إتفاق بشان خفض التسلح والتخلص من السلاح النووي , لكنهما لم يوقعا على شيء مكتوب بهذا الخصوص , فقد كانت الشكوك مازالت متبادلة بين الطرفين .

 كان القادة السوفييت يتحدثون عن أن المفاعل النووي في تشيرنوبل / أوكرانيا هو مفاعل آمن . ولكن في يوم 26 نيسان 1986 إنفجر إحد أقسامه فقتل 31 شخص وجرح ما يزيد على 500 فسبَّب الإنفجار سحابة محملة برذاذ إشعاعي فوق جزء كبير من أوربا , مما أدى الى حدوث تشوهات في خلق البشر والحيوان والنبات , لكن السحابة سرعان ما إنقشعت , غير أن آلاف الناس ماتوا بسبب السرطان في أوكرانيا خلال الخمس سنوات التالية .

عندها أبدى الأمريكان شكوكهم : إذا كانت حادثة مأساوية مثل هذه يمكن أن تقع , فكيف نثق أن السوفييت مسيطرون فعلا على أسلحتهم النووية الموجهة ضدنا ؟؟

 كان غورباتشوف يرغب مخلصا إنهاء الحرب الباردة .. وبقية الحروب الأخرى , والتي من أهمها : الحرب في أفغانستان . ولهذا تم سحب 6000 جندي سوفييتي من أفغانستان عام 1986 ولكن بقي فيها ما يزيد على 90 ألف , تم الإتفاق على سحبهم بمراحل .

 عام 1986 زارت مارغريت تاتشر موسكو , وعلى الرغم من كرهها الشديد للشيوعية , إلا أنها كانت تجد طريقة غورباتشوف العدوانية المحملة بالطاقة في مهاجمة الأمور تشبه طريقتها هي أيضا , تحدث الإثنان بصراحة في مختلف القضايا ووعدته بأن تسعى لتوثيق علاقته مع ريغان لتذليل سوء الفهم وعدم الثقة الحاصلة بينهما .

 في الداخل آمن غورباتشوف أن سياستين جديدتين ستقومان بدفع بلده بعيدا عن الدمار :

# الغلاسنوست أي ( الإنفتاح ) . تم تشجيع المواطنين السوفييت على التحدث الى حكومتهم وإبداء إنتقاداتهم . وتم السماح رسميا لمحطات راديو مثل ( بي بي سي ) و ( صوت أمريكا ) بأن تكون مسموعة , والكتب التي حرِّمت من قبل بإعتبارها معادية للشيوعية تم طبعها وتوزيعها , وفي منتصف عام 1987 تم إطلاق سراح ما يزيد على 300 سجين سياسي .

# البريستوريكا أي ( الإصلاح أو أعادة البناء ) بتحويل الإقتصاد الوطني والصناعة الى العمل بأطر حديثة والنظر الى ( العامل الإنساني ) بالإستماع الى ما يريده العمال لتطوير العمل , وإستثمار المزيد من المال في صناعات جديدة .

لكن هاتين السياستين كانت لهما مشاكلهما الخاصة التي أفرزتاها داخل المجتمع , فقد تشجع المواطنون السوفييت على إنتقاد غورباتشوف نفسه , والعديد من الشيوعيين المتحمسين كانوا يمقتون الطريقة التي خسر بها الحزب الكثير من صلاحياته , أما المواطنون العاديون فقد كانوا يرون أن تحديث الدولة لم يضف لهم أي مكاسب شخصية أو يغير من مستوى معيشتهم , وكان ذلك يغضب غورباتشوف بشدة ويجعله يقول : (( تريدون كل شيء بدون تغيير أي شيء ؟؟)) .

 كان عضو المكتب السياسي ( بوريس يالتسن ) من أشد معارضي السياسة الجديدة , متهما غورباتشوف أن سياسته الإصلاحية بطيئة وأن وعوده فارغة , وأنه يسعى بها الى تخويف أعضاء المكتب . غضب غورباتشوف وأجبر يالتسن على الإستقالة بعد عدة أيام قائلا له : (( لن أسمح لك مطلقا بالعودة الى العمل السياسي )) , لكنه لم يكن يعرف أنه بذلك صنع من يالتسن عدوا قويا , سيتضح حجمه فيما بعد .

 ديسمبر 1987 غادر غورباتشوف الى واشنطون لحضور القمة الثالثة مع الرئيس ريغان , وكانت هذه المرة ناجحة بعد وساطة تاتشر بينهما , ليتم الإتفاق على طريقة لإنهاء الحرب الباردة بينهما والتوقيع على معاهدة لسحب المئات من الصواريخ النووية من أوربا .

 بعد 6 أشهر عقد الرئيسان القمة الرابعة في موسكو , تمت فيها الموافقة على التخلص من المزيد من الرؤوس النووية , وفتح الإتحاد السوفييتي على العالم الخارجي , وكان الرئيس ريغان أول رئيس أمريكي يحادث المواطنين السوفييت بشكل مباشر حين ألقى خطابا في موسكو بين جمع من الطلبة .

لكن غورباتشوف ومن منطلقاته ( البلشفية ) كان يتصور أن حكم الشعوب مازال مثلما خططه لينين قبل حوالي 60 سنة : بلشفي , أي ( شعب تحكمه أقلية يحكمها واحد ) ولم يتصور أن أوضاع الشعوب قد تغيرت كثيرا الان … خصوصا إذا كان الغرب يمد يده إليها من ( الأبواب الخلفية ) طيلة فترة الحرب الباردة .

هذا التصور جعله حين وقّع على خفض أسلحته , فإنه لم يبحث بشكل جدي عن ( ضمانات وتعهدات أمنية وإقتصادية ) تصاحب مرحلة التنفيذ , معتقدا أن الأمور كلها ستبقى تحت سيطرته , وقد كان ذلك من عاشر المستحيلات .

 في مؤتمر الحزب الشيوعي عام 1988 أعلن غورباتشوف أن البلد يجب أن يدار في المستقبل من قبل ( الرئيس وحده ) ويشاوره ( نواب عن الشعب ) يتم إختيارهم عبر إنتخابات حرة . حتى تلك اللحظة كان الحزب الشيوعي هو الحزب الوحيد المسموح له بالعمل في الإتحاد السوفييتي وهو الذي يقود البلد ويقرر له بدلا عن البرلمان , وإعلان غورباتشوف هذا معناه تحديد صلاحيات هذا الحزب وتحجيمه .

في إجتماع الحزب التالي الذي وقع في سبتمبر , تمت إحالة العديد من الحزبيين على التقاعد وبضمنهم أندريه غروميكو الذي كان يشغل منصب رئيس الحزب , فرشح غورباتشوف نفسه ليحل محله , فأصبح الان : رئيساً للإتحاد السوفييتي , ورئيساً للحزب الشيوعي السوفييتي .

 يوم 7 ديسمبر 1988 ألقى غورباتشوف كلمة في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك بحضور ممثلين لما يزيد على 150 دولة , أعلن فيها نهاية الحرب الباردة , ونهاية تباعد دولته عن الغرب , وبداية حرية الشعب السوفييتي في تقرير مصيره , وختم كل هذا بإعلانه خفض حجم الجيش السوفييتي الى نصف مليون جندي فقط .

صمت الحضور ( ربما لأنهم كانوا يدركون أن الرجل لايفقه معنى ما يقول ) , ثم قاموا وقوفا لهذه الخطوة الجبارة . وأينما حل غورباتشوف بعدها في الولايات المتحدة كانت الجماهير الأمريكية تهتف له : غوربي .. غوربي .. غوربي .

عودة الى الإتحاد السوفيتي , كانت الأمور مختلفة تماما . فحالما زال خطر السلاح والجيش السوفييتي بدأت جمهورياته بإعلان إستقلالها واحدة بعد الأخرى .

بداية عام 1989 أعلنت أستونيا إستقلالها ومنحت جنسيتها لكل الناطقين باللغة الأستونية .

في هنغاريا أعلن البرلمان قوانين هنغاريا الحرة , وقام الجنود الهنغار بقطع الأسلاك الشائكة التي تفصل أراضيهم عن النمسا .

وعمت المظاهرات شوارع تشيكوسلوفاكيا , وأذربيجان , وجورجيا .

في آذار 1989 دخل المواطنون السوفييت الى إنتخابات لا يعرفون ما هو معناها , فإنتخبوا ولأول مرة في حياتهم برلمانا لهم , رشح لعضويته جميع أعضاء الحزب الشيوعي الذين هزم الكثير منهم أمام مرشحين مستقلين . واحد من العائدين الى العمل السياسي كان بوريس يالتسن الذي إنتخبه 5 مليون روسي ليصبح ( عمدة موسكو ) , وعودته كانت علامة مقلقة لغورباتشوف , فقد طالب يالتسن بإصلاحات أكثر فاعلية , وإلا سيتم إنتخاب رئيس أكثر من غورباتشوف قدرة .

تسارعت الأمور خارج روسيا , حزيران عام 1989 أزاح البولونيون الحزب الشيوعي عن السلطة في إنتخابات حرة , أما هنغاريا فقد فتحت حدودها للمواطنين الألمان للعبور من ألمانيا الشرقية الى الغربية , فأعلنها غورباتشوف واضحة أنه لن يتدخل في هذا الأمر , وفي أكتوبر زار برلين الغربية التي يفصلها جدار برلين الكونكريتي عن برلين الشرقية فقوبل بالهتافات التي تطالبه بالتغيير في كل شيء . وبعد أسابيع أُجبرت الحكومة الألمانية الشرقية على فتح حدودها مع الغربية , وعلى الأقل قام نصف مليون ألماني بحمل ما تمكنوا عليه من أدوات لهدم جدار برلين .

في بلغاريا قامت ( جماعة إصلاحية ) بالسيطرة على المكتب السياسي للحزب الشيوعي .

في تشيكوسلوفاكيا تم طرد الحزب الشيوعي من مكاتبه وحل محلهم الإصلاحيون بضمنهم ( ألكسندر دوبجيك ) الذي قاد إنتفاضة بلده عام 1968 .

رومانيا التي عانت من مشالكل إقتصادية جسيمة , وقعت فيها ثورة عارمة أطاحت بالرئيس نيكولاي شاوشيسكو الذي تم إعدامه مع زوجته رميا بالرصاص .

 الشيء الوحيد الذي بقي لدي غورباتشوف الآن هو الخراب الإقتصادي . فرغم كل قوانين الإصلاح التي وضعها إلا أن ما حصل جعل الخزينة خاوية , فإرتفعت الأسعار , وإنخفض مستوى المعيشة عن ما كان عليه من قبل , والكثير من الناس وجدوا أنفسهم بلا عمل , والحرية الجديدة التي حصل عليها المجتمع جعلت الإنتقادات توجه الى غورباتشوف من جانبين : # رفاق الحزب الذين إتهموه بخيانة أهداف ثورة أكتوبر 1917 , وخيانة التعاليم البلشفية .

# المواطنون الذين كانوا يطالبون بالعمل والمزيد من الحريات , وإبعاد الحزب الشيوعي عن السلطة , ويناقشون في زيادة الأجور وطريقة عمل مؤسساتهم .

الخطة الأمريكية , كانت موضوعة لتفكيك الإتحاد السوفيتي بأكمله … ونقطة البداية لهذه الخطة هو فصل دول أوربا الشرقية عنه , فحين إنفصلت جمهوريات أوربا الشرقية عن سيطرة موسكو , تشجعت بقية الدول الخاضعة للإتحاد السوفييتي مطالبة بالإنفصال . وهذا هو ما سيمحو عبارة ( إتحاد سوفييتي ) من على الخارطة .

نيسان 1989 وقعت مظاهرات عارمة في ( تبليسي ) عاصمة جورجيا , فقام جنود سوفييت بالرد عليها بالهراوات والغازات السامة , فمات 19 جورجي وجرح المئات .

سافر غورباتشوف في يناير 1990 الى ليتوانيا لحث الناس وتشجيعهم على البقاء في الإتحاد , لكن الليتوانيين تجاهلوا خطابه وأعلنوا إستقلالهم بعد شهرين , وإنتخبوا رئيسا لهم .

 نهاية عام 1989 قام غورباتشوف بزيارة البابا في روما لعل وصايته الدينية تتمكن من وقف جزء من الأحداث المتسارعة . ثم عقد لقاء قمة مع الرئيس الأمريكي الجديد ( جورج بوش الأب ) . وكان يعتقد أن خطأه الوحيد هو تصوره أن الأمور كانت ستبقى تحت السيطرة الى أن يصرفها هو ك ( رئيس ) بالطريقة التي يراها مناسبة , ولم يكن لديه تصور أن الأحداث ستجري بهذه السرعة ودون الرجوع إليه .

عند إقتراب الكريسماس 31 ديسمبر 1989 كانت الإمبراطورية البلشفية في أوربا الشرقية قد أطيح بها .

تطور الموقف من سيء الى أسوأ عام 1990 , فبعد إستقلال ليتوانيا قامت العديد من الدول بإعلان إنفصالها عن الإتحاد السوفييتي . إستونيا في آذار 1990 , لاتفيا في مايس 1990 , أوكرانيا في تموز 1990 .

إستشاط غورباتشوف غضبا , فقطع تجهيزات النفط عن ليتوانيا .. وأرسل الجيش لفرض قانونه بالقوة , لكن شيئا من هذا لم يوقف الإندفاع نحو الإستقلال في عموم الإتحاد السوفييتي . هذا الوضع كان محبطا جدا بالنسبة لغورباتشوف , ولا أحد يدري خطوته التالية وهو محبط ما قد تكون .. فقد يتوصل الى قرار إنتحاري بإستعمال السلاح النووي الذي ما زال بحوزته , وقد يتراجع عن كل القرارات التي توصل إليها مع الأمريكان , وقد يفعل أي شيء لم يتم التحسب له , فيشعل حربا تمتد من وسط آسيا حتى وسط أوربا , لذلك كان ينبغي إتخاذ خطوة إستباقية تحسم كارثة محتملة مثل هذه بدقة .

بعد عدة أيام من إستقلال أوكرانيا , دفع الأمريكان صدام حسين لإجتياح الكويت في 2 آب 1990 , فحقق ذلك الإجتياح أغراضا متعددة منها :

# إشغال وسائل الإعلام والرأي العام العالمي بقضية جديدة تبعد الإنتباه عن القضية السوفييتية التي تهدد بوقوع كارثة .

# إشغال وسائل الإعلام والرأي العالمي عن الإنتفاضة الفلسطينية الأولى 1989 التي جلبت الكثير من الإدانة والإستنكار لإسرائيل .

# تحريك الجيوش والأساطيل وعقد تحالفات عسكرية سريعة حول العالم بحجة إخراج صدام من الكويت لكن سببها الحقيقي هو تطويق الإتحاد السوفييتي عسكريا في هذه اللحظات العصيبة .

# تخويف غورباتشوف نفسه , بإستعمال القوة الغاشمة ضد الشعب والجيش والبنى التحتية العراقية , ليرى بعينه ما يقع في العراق بسبب عناد صدام حسين ( في إحتلال بلد آخر , يرفض الخروج منه رغم المطالبة الدولية ) , ويتخيل فقط ما الذي سيحصل لو قرر هو عدم منح جمهورياته إستقلالها , ثم وهو يرى نفسه مطوقا عسكريا من كل الإتجاهات , فلا يقوم بعمل يجلب عليه الوبال في الحال .. وليس بعد حين .

إستقلت دول الإتحاد السوفيتي واحدة إثر واحدة دون أن يملك أحد أن يبدي أي إعتراض , فأوقع ذلك خلافات حادة داخل اللجنة المركزية للحزب , أدرك غورباتشوف من خلالها أن شعبيته إنهارت . إضافة الى إستشراء البطالة وإرتفاع الأسعار , وشحة المواد .. حتى الخبز صار سلعة مفقودة .

 من جراء المعاناة الإقتصادية والسياسية والحزبية , قام الروس بالإطاحة بالبرلمان الذي نصبته حكومة الإتحاد السوفييتي بقيادة غورباتشوف , وأقروا برلمانهم الجديد الذي أُختير لرئاسته ( عمدة موسكو) .. بوريس يالتسن الذي طرده غورباتشوف من المكتب السياسي ذات يوم قائلا له إنه لن يسمح له بالعودة الى العمل السياسي مطلقا .

عندها قال يالتسن في خطابه : (( نحن لم نحصل على البرلمان فقط , وإنما حصلنا على كل روسيا )) . ومن أجل الإمعان في الإطاحة بغورباتشوف .. أعلنت روسيا إستقلالها عن الإتحاد السوفييتي .

مقرات مؤسسات الإتحاد السوفييتي كلها موجودة في موسكو ,, وموسكو أعلنت إستقلالها عن الإتحاد السوفييتي , وهذا معناه أنها وخلال فترة وجيزة ستطلب من الإتحاد إخلاء مقراته ومغادرة روسيا كلها .. فإلى أين سيذهب غورباتشوف وكل جمهوريات الإتحاد السوفييتي تستقل عنه ؟؟؟

في هذه الأوقات العصيبة صار غورباتشوف مثل ولد صغير يركب في قاطرة ( رولركوستر ) مرعبة في مدينة الألعاب , ولا يدري هل ستنطلق به صعودا أم نزولا في الخطوة التالية .

 من أجل مداراة وضعه النفسي فقد تم منحه جائزة نوبل للسلام عام 1990 لكنها إذا كانت فعلا من أجل السلام فلماذا لم تمنح له مناصفة مع رونالد ريغان ؟؟؟

أحد المحتجين على سياسته إستغل فرصة إستعراض في موسكو شهر نوفمبر 1990 فأطلق النار على غورباتشوف , لكنه لم يصبه , الحادث أجج عناد غورباتشوف فقام بعد أسبوعين بتخفيض عدد الجيش في أوربا , بعد ذلك بشهر واحد إستقال وزير خارجيته ( أدوارد شيفرنادزه ) بسبب قرارات الرئيس غير المدروسة .

في يوم عيد العمال 1991 قابلته طبقة الشغيلة الغاضبة بهتاف واحد لا سواه : إستقل .. إستقل .. إستقل .

إزداد الغليان في جمهورية البلطيق عام 1991 بسبب مطاليب شعبها بالإستقلال , فأمر غورباتشوف الجيش بإحتلال المواقع المهمة في هذه الجمهورية , فقتل 13 شخص أثناء المواجهات .

وكانت هناك المزيد من الدماء في ( ريغا ) عاصمة جمهورية لاتفيا بين المتظاهرين والجيش , عندها صار ينظرالى غورباتشوف على أنه دكتاتور يقوم بأعمال فظيعة , مما إضطره لسحب الجيش .. فإستقلت هاتين الدولتين عن الإتحاد السوفييتي , ثم لحقتهما جورجيا بإعلان إستقلالها في نيسان .

بينما كان بوريس يالتسن يحوز الدعم الكبير بإعتباره واحدا من كبار قادة روسيا , قام بتوقيع معاهدة دفاع مع جمهورية البلطيق ضد أي تهديد سوفييتي جديد . وفي حزيران 1991 تم إنتخاب بوريس يالتسن رسميا ( رئيسا لجمهورية روسيا ) .

قام غورباتشوف بجهود كبيرة لتحاشي الفضيحة التي لحقت به كرئيس للإتحاد السوفييتي تنشّق عنه جمهورياته بمنتهى السهولة , فوقّع معاهدة جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية لخفض الرؤوس النووية لكلا البلدين , والتي بموجب توقيعه عليها ستقرضه الولايات المتحدة بعض المال لتدعيم قوة ( الإتحاد السوفييتي ) .

بواسطة هذا المال الذي يعرف غورباتشوف أن كل جمهوريات الإتحاد بأمس الحاجة إليه سعى الى وضع خطة جديدة سماها : ( خطة تسعة زائد واحد ) , وتقوم على نقض الإتحاد السوفييتي السابق تماما وتأسيس إتحاد مصغر جديد من ( دول ذات سيادة ) يكون عددها تسعة زائد روسيا … لكن روسيا كانت قد أعلنت إنفصالها عن الإتحاد السوفييتي منذ وقت سابق , فما هي الخطة التي ستجعلها تقبل العودة الى حكم غورباتشوف والإنضمام الى هذا الإتحاد الجديد ؟

كل الناس , حين تريد الوصول الى مكسب , فهي تراهن على حب الناس لها للوصول الى مبتغاها , غورباتشوف كان على العكس تماما , فمن أجل إدخال روسيا الى الإتحاد الجديد … راهن على كراهية الناس له . فبعد إعلانه الخطوط العامة لخطة ( تسعة زائد واحد ) رتب بمساعدة المقربين له إنقلابا على نفسه . فذهب في إجازة الى مكان على البحر الأسود , وفي يوم 18 آب 1991 , دخلت عليه في مقر إقامته مجموعة عرفت فيما بعد بإسم ( لجنة الطواريء ) خبروه أنهم لا يستحسنون ما أعلنه والذي سيؤدي الى تغييرات كبيرة في وضعية البلاد لأنها ستقوض تماما بنية الإتحاد السوفييتي وتعجل بنهاية الحزب الشيوعي , ثم وضعوه مع عائلته تحت الإقامة الجبرية , وكانت لجنة الطواريء مكونة من بعض الشيوعيين يقودهم : نائب غورباتشوف نفسه , ورئيس جهاز المخابرات ( كي جي بي ) , ورئيس وزراء غورباتشوف , ووزير دفاعه . في نفس الوقت أعطوا أوامرهم بان تجتاح طوابير الدبابات موسكو , وحظروا التجمهر , وأغلقوا الصحف .

طيب .. إذا كان الإنقلاب ضد غورباتشوف فلماذا لم يحقق الإنقلاب أهدافه بعد وضع غورباتشوف تحت الإقامة الجبرية ؟ ولماذا يهاجم الإنقلابيون موسكو التي إستقلت عن الإتحاد السوفييتي منذ بداية العام ؟ والجواب هو أن الإنقلاب المزعوم كان خطة مخلوطة الأوراق , لإعادة فرض السيطرة على روسيا . ومن أجل كسب دعم الرأي العام الروسي , تم إستغلال كراهية الروس لغورباتشوف بالإدعاء أن الإنقلاب مخطط للإطاحة به . وبعد نجاح الخطة والسيطرة على المواقع المهمة في موسكو وإنهاء مقاومة الحكومة الروسية الجديدة التي إنشقت عن الإتحاد السوفيتي , تعود لجنة الطواريء الإنقلابية الى تغيير خطابها وتجد عذرا لإعادة غورباتشوف الى السلطة .

لكن الروس الذين كانوا يمقتون غورباتشوف ومعه أي شكل من اشكال العودة الى الخضوع للحكومة السوفييتية , قاوموا هذا الإنقلاب وأفشلوه , وتحرك آلاف المواطنين لمحاصرة برلمانهم المنتخب لحمايته من السقوط بأيدي الإنقلابيين . وبعد ثلاثة أيام فشل الإنقلاب , فحملت الطائرة غورباتشوف الى مطار موسكو يوم 22 آب , الذي أعلن منه حال نزوله من الطائرة (( أنه شخص مختلف , عاد الى بلد إختلف )) . وكانت مظاهرات حاشدة ضده تعم أرجاء موسكو .

تم إستدعاؤه الى البرلمان الروسي , وكان حضوره بمنتهى المذلة , حيث سخر منه أعضاء البرلمان وإستهزأوا به , ثم أجبره يالتسن على إعلان أسماء الإنقلابيين , ليعرف الناس من كان وراء ذلك الإنقلاب . تم إعتقال الإنقلابيين الذين حصلوا من الحكومة الروسية على ( عفو عام ) سنة 1994 عدا وزير الدفاع ( بوريس بوغو ) الذي كان قد إنتحر عند فشل الإنقلاب . أما غورباتشوف ففي اليوم التالي لظهوره في البرلمان كان قد أجبر على حل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي والإستقالة من رئاسة الحزب .

ظل غورباتشوف بعدها مدة أربعة أشهر رئيسا لإتحاد سوفييتي منحل , ولم تتبق له أية سلطة , فإضطر الى إعلان إستقالته من منصبه كرئيس للإتحاد السوفييتي يوم 25 ديسمبر 1991 .

خلال 24 ساعة كان عليه وعائلته مغادرة القصر الرئاسي المخصص لهم , وفي منتصف ليلة رأس السنة 31 ديسمبر 1991 , تم الإعلان رسميا عن مسح خارطة الإتحاد السوفييتي من أطالس العالم .

منذ يوم إعلانه رئيسا في 10 آذار 1985 وحتى يوم إستقالته , وهي مدة حوالي ست سنوات ونصف , كان قد أضاع جهودا بذلت خلال 74 سنة هي عمر الثورة البلشفية , تذكرنا ببيت من قصيدة لأحمد شوقي يقول فيه : (( مولاي وروحي في يده , قد ضيَّعها سلمت يده )) صحيح أنه تسلم الحكم في فترة حالكة من تاريخ الإتحاد السوفييتي مليئة بتراكمات من الأخطاء , لكنه كان يستطيع إتخاذ سياسة أكثر إعتدالا فلا يتهافت بهذا الشكل ويعطي تنازلات كبيرة في مفاوضاته .. ودون ضمانات . ولن ندعم التسلح وإرهاب الحروب حول العالم , لكننا كنا نطمح على الأقل , أن يبحث هذا الرجل عن ضمانات أمنية وإقتصادية للشعوب التي تعيش في الجمهوريات التي يحكمها , وهو يخطو خطوته التي سلمت شعوب جمهورياته للفاقة وعدم الإستقرار , وسلمت معهم كل شعوب الأرض , الى نظام عالمي جديد لا يدرون الى أين سيقودهم بعد عقد أو عقدين من السنين بحروبه على أعداء وهميين , سماهم بالإرهابيين ( رغم أنهم وكلاؤه أصلا ) وبما يرافق ذلك من الكوارث الإقتصادية العالمية المصاحبة والتي بدأت تلوح في الأفق .

توفيت رايسا غورباتشوف بسبب مرض اللوكيميا في إحدى مستشفيات ألمانيا يوم 20 سبتمبر 1999 , وتركت وراءها مؤسسة خيرية تنظم حفلات عروض أزياء من أجل جمع التبرعات لمرضى اللوكيميا في بريطانيا وروسيا .

أما آخر ظهور لغورباتشوف فلم يكن في إجتماع سياسي , أو بين قادة الدول , لكنه في إعلان تجاري عن حقيبة فرنسية الصنع ماركة لويس فويتون , حيث يظهر في الإعلان الى جوار حقيبة سفر متوسطة الحجم موديل ( كيبال ) على المقعد الخلفي من سيارة تمر بجوار جدار برلين . وافق غورباتشوف على الظهور في إعلان الشركة المتخصصة في الصناعات الجلدية مقابل تبرع سخي منها لمؤسسة الصليب الأخضر الدولي التي يرأسها .

يذكر أن شركة فويتون تعاني من حملة تشكيك في إلتزامها بشروط العمل في مصانعها مما دفعها الى بادرة دعم المشاريع البيئية , لتنظيف سمعتها السيئة .

ويذكر أيضا أن غورباتشوف كان قد أطلق منظمة الصليب الأخضر الدولي عام 1993 في ( قمة كيوتو) ، وهي قمة عقدتها منظمة تسعى لمكافحة التصحر وظاهرة الإحتباس الحراري للأرض . ميسون البياتي – مفكر حر؟

Posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر | Leave a comment

جزيرة العار

غلاف كتاب : جزيرة العار

 عنوان الكتاب كاملا : (( جزيرة العار _ التاريخ السري للقاعدة الأمريكية في دياغو غارسيا )) وهو من تأليف ديفيد فين , ومن إصدار مطابع جامعة برنستون , يحتوي على 259 صفحة , وسعره 29.95 $ دولار أمريكي .

 ديفيد فين أستاذ مساعد في علم الأنثربولجي , تشمل إهتماماته العلمية الواسعة : السياسة الخارجية الأمريكية العسكرية والتسليحية , والتشريد القسري والهجرة , حقوق الإنسان , الشعوب الأصيلة , الأعراق والأجناس والجنسية , الفقر , عدم المساواة , مشاكل المحيط الهندي , والأنثربولوجيا الحضرية , وهو أحد الأعضاء المؤسسين للمجلس الذي يسعى الى الحد من عدد القواعد الأمريكية في الخارج .

من مؤلفاته :

# جزيرة العار 2009 .

# القواعد العسكرية في الخارج جدا كثيرة ( نسخة ألكترونية ) 2009 .

# معركة بسبب القواعد العسكرية 2009 .

# مقترحات لوضع سياسة لحقوق الإنسان 2009 .

# أعيدوا لنا دياغو غارسيا 2008 .

# جمينا نستحق نفس المعاملة 2008 .

 يبدأ ديفيد فين كتابه من نقطة بعيدة جدا عن هذه الجزيرة الملعونة الواقعة في مجاهل المحيط الهندي , فيقول أنك لو نظرت الى القائمة التي تضم أسماء الفرق التي تلعب دوري كرة القدم البريطاني , فستعثر على فريق مسجل بإسم مدينة ( سوسيكس ) في جنوب شرق بريطانيا .

 لكن هذا الفريق يحمل إسما آخر يختلف تماما عن هذا الأسم .. فهو يحمل إسما يرتبط تاريخيا بأرخبيل ( جاكوس ) الذي كان واقعا تحت إستعمار بريطانيا العظمى , أما أين يقع أرخبيل جاكوس الذي يضم أكثر من ستين جزيرة بيضاء الرمل غزيرة النخل , فهو يقع في المحيط الهندي وفي منتصف الطريق تماما مابين أفريقيا وأندونيسيا , جنوب جزر المالديف مباشرة .

 لوصف كيف وصل سكان هذا الأرخبيل الى بريطانيا , فذلك يتطلب حديثا عن واحدة من قصص الإمبريالية الحديثة الصادمة , بقيام بريطانيا العظمى بتسليم الجزيرة الرئيسة في هذا الأرخبيل ( دياغو غارسيا ) الى الولايات المتحدة الأمريكية منذ منتصف خمسينات القرن الماضي , وتهجير سكان المنطقة قسرا , حيث ستقوم الولايات المتحدة ببناء قاعدة دياغو غارسيا التي تسيطر على المحيط الهندي , وتفرض مراقبتها على منطقة الخليج العربي .

هذه القاعدة التي تنطلق منها القاصفات ( بي 1 ) و ( بي 2 ) و ( بي 52 ) التي تقصف أفغانستان والعراق .

ولم يدخل الصحفيون الأرخبيل إلا مرة واحدة ولمدة 90 دقيقة فقط , حين كانوا برفقة بوش الإبن عام 2007 حين غادر العراق متوجها الى دياغو غارسيا ومنطلقا منها الى أستراليا .

 قام الجاكوسيون المهجرون الى خارج ديارهم والموجودون في بريطانيا بتوكيل محامي ليثبت عائدية هذا الأرخبيل لهم , وحقهم بالعودة إليه , فقام المحامي بالإستعانة بالأنثربولوجي ديفيد فين , ليبحث له في أوليات هذه القضية , عندها إطلع ديفيد فين وبشكل رسمي على أضابير وأرشيفات حكاية هذا الأرخبيل , في كل من الدوائر صاحبة العلاقة في بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية . كالمراسلات الدبلوماسية بين البلدين , والمذكرات الحربية والعسكرية , كما قام بزيارة جزيرة مورشيوس القريبة من مدغشقر والتي يقطنها الكثير من الجاكوسيين لأخذ إفاداتهم , ومن مجموع كل ذلك , تم تأليف هذا الكتاب .

 طبقا لجميع هذه المصادر , فإن المشاكل كانت قد وصلت الى أرخبيل جاكوس في خمسينات القرن الماضي عندما قام ( ستو باربر ) وهو محلل بحري أمريكي بتعريف مفهوم ( الجزيرة الستراتيجية ) حيث قال بأنه وفي عهد الإستعمار الأمريكي , ستقوم الولايات المتحدة ببناء قواعدها العسكرية على أراضي أمم اخرى إذا كانت هناك علاقات مرنة بين البلدين , ولكن في حالة تبدل هذه العلاقات فإن هذه الدول ستقوم بركل هذه القواعد خارجا , محتفلة بإستقلالها , ولهذا فعلى الولايات المتحدة ومن أجل مواصلة سيطرتها على العالم , ودون الحاجة الى تواجد قواعدها بين شعوب مختلفة , فإن القواعد التي ستبنيها على الجزر وبالأخص غير المأهولة .. سيكون هو الحل .

حين نظر ستو باربر الى خارطة العالم .. وجد أن جزيرة دياغو غارسيا .. جزيرة مناسبة تماما لتطبيق مفهومه النظري , فموقعها ( بعيد وقريب ) من الشرق الأوسط , ويسمح بالسيطرة على وسط آسيا , والخليج العربي , وأفريقيا .

خصوصا وأن المحيط الهندي وكما أشار تقرير أمريكي صدر في آذار 2009 (( سيكون منطقة الصراع العالمي للقرن 21 )) وجزيرة دياغو غارسيا بشكلها الذي يشبه رسم الرقم سبعة بالكتابة الهندية .. تشكل ميناءا طبيعيا وسط هذا البعد السحيق في المحيط , وهي التي ستكون صالحة لبناء هذه القاعدة الأمريكية … ومن هنا ستبدأ مشاكل سكانها .

 بكل بساطة وافق البريطانيون على تسليم الجزيرة الى الأمريكان ليستعملوها كما يحلو لهم , ولم يبق لبريطانيا موقع على هذه الجزيرة غير العلم البريطاني المرفوع على أرضها الى جانب العلم الأمريكي , وكابينات التلفون الحمراء اللون على ناصيات الشوارع .

فقد تراجع مجد الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية ولم يعد بمقدورها أن تبقى شرطي المحيط الهندي مثلما كانت منذ حروب نابليون . ولهذا أفسحت المجال عوضا عنها للأمريكان . وشكلت معهم حليفا قويا في مواجهة العدو الشيوعي .

حين غادر البريطانيون الجزيرة , كان عليهم تسليمها خالية من السكان لأن الأمريكان يريدون الجزيرة ( لغرض محدد ) ولهذا فإن الأدميرال الأمريكي ( إلمو زموالت ) رد في العام 1971 على مذكرة رفعها الجاكوسيون يطالبون فيها بحقهم في البقاء على أرض الجزيرة بعبارة مكونة من 3 كلمات : (( بالتأكيد عليهم المغادرة )) .

الحكومتان البريطانية والأمريكية إفترضتا أن سكان أرخبيل جاكوس .. ليسوا سكانا أصليين أو لهم جذور عميقة مع هذا الوطن , بل هم جماعات من ( عمال التراحيل ) يبحرون في قوارب عبر المحيط ويستقرون مؤقتا في بعض الجزر , ولهذا فلا تنطبق عليهم أي من بنود الأمم المتحدة في حق الشعوب بتقرير المصير .

قالت إدارة الرئيس نيكسون عنهم عام 1971 حين أعلنت خطتها بشأن الجزيرة (( أن سكانها عدد صغير من عمال يشتغلون بالعقود قادمين من جزيرتي سيشل أو موريشيوس )) .

 دفع الأمريكان مبلغا للبريطانيين مقابل هذه البيعة , فقام البريطانيون برشوة حكومة الجزيرة بمبلغ 3 مليون دولار , ثم نقلت بريطانيا حكومة الأرخبيل الى جزيرة مورشيوس القريبة من مدغشقر الواقعة تحت السيطرة البريطانية أيضا , وأعلنتهم دولة مستقلة , تخلصا من هم كل هذه الحكاية .

 أنزل الأمريكان ما يقارب 1000 جندي على أرض الجزيرة , وبدأت مختلف أنواع القطع البحرية تجلب إليها معدات ثقيلة , مواد إنشاءات , وقاطعات صخور , ومعامل طابوق , وإستعملوا بلدوزرات ( كتربلر ) لإقتلاع النخيل من أرضه , وقاموا بتفجير صخور الشاطيء لتنفيذ شكل المراسي في الميناء .

أما البريطانيون .. فبدون إبطاء بدأوا بعملية إخلاء ما تبقى من السكان عن ديارهم . أبلغوا من غادر جزيرة دياغو غارسيا أنه لن يعود إليها , لأن الجزيرة أصبحت مغلقة , أما السكان على بقية جزر هذا الأرخبيل , فقد أنذروا بان البقاء في جزرهم يعد جريمة أمام القانون .

 الخطوة التالية : قام البريطانيون بتجويع الشعب بتقنين كميات الطعام الواصلة الى هذه الجزر , وتقنين الأدوية , وإيقاف العمل , فأصبح السكان بلا مورد .

الآن ستأتي مهمة الجنود الأمريكان الترويعية , فمن أجل إرهاب السكان وتخويفهم وإجبارهم على المغادرة تم منح الجنود الأمريكان بنادق هوائية ( إم 16 ) ومعها أمر بقتل جميع الكلاب الموجودة على الجزيرة .. وهكذا أطلقت العيارات النارية على الكلاب وهي بمعية أصحابها وأمام أعينهم .

ثم تم إجبار هؤلاء الجاكوسيين على الصعود الى سفن شحن قديمة ناموا على ظهرها بالمئات يغطيهم البول والقيء الذي عانوا نوباته بسبب الخوف الذي أصابهم عند ترحيلهم الى جهة مجهولة .. وحين طلع الصباح , كان بعضهم قد ألقي على شواطيء سيشل , والبعض الآخر على شواطيء موريشيوس . ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم فهم يعيشون في أفقر أحياء هاتين الجزيرتين .

 الجزيرة التي غادرها الجاكوسيون صارت مختلفة تماما الآن . فيها الآن ما يزيد على 150 دبابة , وناقلات مدرعة من مختلف الأنواع والأعداد , ومدفعية ثقيلة , وآليات هندسية لنقل وخزن السلاح الذي يصل الجزيرة عبر الجو أو البحر , وأجهزة متطورة جدا أسعارها بمليارات الدولارات وكل هذا إستخدمته الولايات المتحدة الأمريكية في العدوان على أفغانستان والعراق .

 هناك أدلة غائمة تشير الى أن إدارة بوش الإبن كانت قد إستعملت هذه الجزيرة كمحطة للتحقيق مع معتقلين أو لنقلهم بين مراكز إعتقال مختلفة حول العالم . ففي آب الماضي 2008 كانت مجلة ( تايم ) قد نقلت عن مصدر رفيع في البيت الأبيض عند لقائه بآخر من السي آي أي , أنه أكد مرتين بأن الولايات المتحدة كانت كانت قد سجنت وحققت مع معتقلين ( ذوي أهمية كبرى ) في دياغو غارسيا خلال عام 2002 , ومحتمل خلال عام 2003 أيضا .

 منظمة حقوق الإنسان في لندن كانت قد وجهت إهتماما محددا الى إثنتين من الإفادات :

# الأولى تشير الى أن وحدة السجن التي تم إنشاؤها في دياغو غارسيا في ديسمبر 2001 , شبيهة بالضبط بتلك الموجودة في القاعدتين الأمريكيتين في بولندا ورومانيا , مواقع تعمل ك ( نقاط مظلمة ) لتحقيقات غير قانونية .

# الثانية هي الشكوك حول إحتجاز المطلوبين في ( سجون عائمة ) كما حدث عند إحتجاز أشخاص من ( طالبان ) على ظهر السفينة ( يو إس إس باتان ) . أو سفينة ( يو إي إن إس ستوكهام ) التي أرسلت الى دياغو غاريسيا في تموز 2001 .

 يقول ديفيد فين إنه يستطيع تعداد ما يزيد على 16 موقع آخر حول العالم , يشبه بشكل ما جزيرة دياغو غارسيا من حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد إتخذته أداة لأغراضها الخاصة , وأغلب هذه المواقع هي لجزر نائية أو مهجورة . فهناك مثلا جزيرة ( بيكيني أتول ) التي أعدت من أجل إختبار التفجيرات النووية .

 أو جزيرة ( كوهو أولاوا ) التي تمت السيطرة عليها بعد معركة بيرل هاربر , أو جزيرة غوام التي يسيطر الجيش الأمريكي على ثلثها بينما بقية الثلثين تعود للفلبين , حيث توجد قاعدة كلارك الجوية .

أو جزيرة ( فايكيز ) القريبة من ألاسكا , أما عدد النازحين عن ( غرينلاند ) الدنماركية بسبب القواعد الأمريكية , فإنه لا يساوي شيئا أمام الربع مليون الذين تم تهجيرهم من جزيرة أوكيناوا اليابانية .

 منذ وقت طويل تم إبعاد سكان دياغو غارسيا عن أهاليهم وأرضهم بسبب بناء قاعدة دياغو غارسيا الملعونة , وهكذا فاق الأمريكيون أسلافهم الإمبرياليين من رومان وغيرهم .. لا بل تفوقوا حتى على الإمبراطورية البريطانية ( الملعونة هي الأخرى ) التي كانت تحلم بأن تلون خارطة العالم بلون بريطانيا الوردي .

 يقول الخبير العسكري الأمريكي جون بايك : (( حتى لو تمكن الجزء الشرقي من الأرض من ركلنا من كل القواعد على أراضيه فإننا سنكون قادرين على الوصول الى أهدافنا العسكرية , فنحن سنسيطر على الكوكب من خلال قاعدة دياغو غارسيا , وقاعدة غوام بحلول العام 2015 )) .

نظرا للقيمة الستراتيجية التي يتمتع بها أرخبيل جاكوس , فالنظرة الواقعية للأمور تفرض أن ينسى ٍسكان هذا الأرخبيل الأصليون ( عددهم حوالي 5 آلاف شخص ) أي علاقة تربطهم بموطنهم , وأن يقطعوا الأمل بعودتهم إليه ذات يوم . فرغم أي شيء وكل شيء لن تنسحب الولايات المتحدة الأمريكية من الأرخبيل , وهي تعمل الآن وبخطة طموحة على ربط جزر في خليج البنغال بأخرى على ساحل المحيط الهاديء المقابلة للصين , بمشروع يشبه مشروع قناة بنما , في نفس الوقت الذي تعمل فيه على تأسيس قواعد ( تصنت ) بحرية في جزر مدغشقر ومورشيوس وسيشل . قال روبرت كابلان ( ؟ ) في أكتوبر 2007 : (( البحرية الأمريكية قررت أنها تحتاج الى إثبات وجودها المتزايد في المحيط الهندي )) .

كل ما يريده الجاكوسيون الآن هو إثبات حقهم في العودة الى الأرض التي ولدوا عليها , والمحكمة العليا البريطانية قضت في العام 2000 بأن مواليد دياغو غارسيا لهم حق العودة الى الجزيرة .

لكن في العام 2004 قرر ت الحكومة البريطانية تحاشي تنفيذ قرار المحكمة بإصدار قرار خاص دعمه البرلمان ينفي حق الجاكوسيين بالعودة .

في أكتوبر 2008 أصدرت المحكمة العليا البريطانية قرارا ينص على أن دياغو غارسيا وبعد أحداث 11 سبتمبر قد أصبحت (( أداة دفاع بمنتهى الأهمية )) وأنها إذا وضعت تحت (( يد غير مناسبة )) فمن المحتمل أن يستغلها الإرهاب العالمي … وحين تساءل الجاكوسيون عندها عن حقهم في العودة الى أرض الميلاد .. قيل لهم : إن هذا الحق يعطى بالقانون .. وبالقانون أيضا .. يمكن أن يسحب هذا الحق .

يقول ريتشارد جيفورد محامي الجاكوسيين في هذه القضية : (( بدون ملل أو كلل .. كانوا يعملون ما بوسعهم للعودة الى فردوسهم المفقود )) . محكمة حقوق الإنسان الأوربية تسلمت نسخة من شكواهم , يقول جيفورد : (( نأمل أن المحاكم الأوربية قد تتمكن من أن تأمر المحاكم البريطانية بحفظ حق الجاكوسيين بالعودة , وأن تقوم بما هو ضروري لتمكين الجاكوسيين من ذلك الحق )) .

خلاف المعتاد , فالجاكوسيون لم يطالبوا بتدمير القاعدة الأمريكية على جزيرتهم . لكنهم قالوا : سيكونون سعداء .. فقط إذا تمت عودتهم الى أجزاء المكان التي لم تشغلها القاعدة الأمريكية . أو حتى بعودتهم الى بعض الجزر غير المأهولة في هذا الأرخبيل التي تبعد 135 ميل عن دياغو غارسيا . وكانوا متساهلين جدا , حين عرضوا أن يحولوا أرخبيلهم الى ( فردوس سياحي ) للأثرياء من هواة الغوص أو أصحاب اليخوت .

وتخيّل المساكين .. أن بإمكانهم إعادة زراعة نخيل جوز الهند , الذي أصبح زيته أغلى من البترول , بحكم أن جميع معامل مستحضرات التجميل تستعمل هذا الزيت لصناعة مستحضراتها , حيث نخلات جوز الهند على جزرهم المهجورات .. لاأحد يعتني بقطافها منذ 30 عاما خلت .

يقول الجاكوسيون …. حتى لو خابت كل تلك المساعي , فنحن نطمح الى قرار سياسي يعيدنا الى وطننا الأم , فنحن متأكدون أننا عدد قليل من البشر , ولا يمكن لنا أن ننظم حركة قومية أو وطنية للمطالبة بحقنا بتلك العودة .

ديفيد فين مؤلف الكتاب .. ومعه جمع خيّر من جميع أهل الأرض .. يوجهون نداءهم الى الرئيس باراك أوباما للنظر في هذه القضية .. فهناك ظلم كبير قد وقع , وبإمكانه بسهولة ( لو أراد ) أن يحق الحق لأهله . فهل سيقبل الرئيس أوباما النظر في هذه القضية ؟ وحتى إن قبل فهل سيقدر على إتخاذ أي قرار ؟؟ فيأمر بالمساس بواحدة من أدوات نشر بلده للحرية والديموكرسي حول العالم , وركيزة أساسية من مرتكزات ( التحرير ) الأمريكي للشعوب ؟؟ لا نظن , حتى لو كان هدف فترته الرئاسية هو : تحسين صورة أمريكا أمام العالم . ميسون البياتي – مفكر حر؟

Posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية | Leave a comment

أيهم -امعة- فهم كثر.. هذا اللي ناقص للعراق

 كثرت الامعات في العراق هذه الايام وقلما نجد “امعة” صغيرة فهم اما اصحاب كروش متهدلة الى الامام واما اصحاب لحية كثة عافها التنظيف منذ سنوات واما دشداشة قصيرة بنعال ابو زنوبة.

ولعل تجارة الدشاديش القصيرة والمحابس الملونة وانبات السكسوكة هي الاكثر ربحا من كل المعارف الاكاديمية والاقتصادية بل ،كما قال احد المقربين، انها “تدر الملايين على مريديها وفي كل يوم نصلي الى رب العالمين ليحفط لنا هؤلاء من كيد الاعداء ويزيد من عدد الاصدقاء”.

وبالامس طلع علينا رجل ملتح من سوق البالة السعودي ليفتي بان التظاهر ضد ولي الامر حرام شرعا.

لا احد يدري كم عدد الدفاتر التي قبضها ليصدر هذه الفتوى الخايبة وهل قبضها نقدا وعدا ام حولت له الى حساب خاص في سويسرا.

لو قال ماقاله في السعودية لهان الامر فالناس هناك اعتادوا على مثل هذه الفتاوى ولكن ان تصدّر الى العراق فهذا لعمري اقصى درجات الخيبة التي اتاحت لمثل هؤلاء ان يتدخلوا في المشهد العراقي وكانهم قادمون من كوكب لاحياة فيه.

صاحبنا كتب على نفسه ان يكون بفتواه هذه منبوذا من كل العراقيين وسيكون كذلك الى ان يعتذر ويسحب فتواه الخايبة جدا.

لاتنفع فيه لحيته الكثة لكي يصدقوه ولا دشداشته القصيرة حتى يتبعوا فتواه ولا شكله الامرد حتى يستمعوا اليه. انه بكل المقاييس امعة بامتياز.

المضحك ان اسمه الحزبي ابو منار العلمي.. وهو ليس بمنار ولا تتشرف عائلة العلمي ،فلسطينية المنبت، بمثل هذه الامعات.

والمصيبة انه حرّم التظاهر ضد رئيس الووزراء نوري الماكي تحديدا باعتباره “ولياً للأمر”.

ويقول هذا الامعة في فتواه ان “من يتظاهر تأييداً للمالكيّ يعدّ مجاهداً في سبيل الله”.

سبحان الله اصبح المالكي بنظره ليس فقط وليا للامر وانما حجة الاسلام ومنارة الدين وهادي العباد.

صاحبنا ينتمي الى التيار السلفي الجامي وهي فرقة تنشط في السعودية وتمتاز بعدائها المطلق لكل من يناوئ السلطة وتحرم الخروج على الحاكم سواء كان عادلا او جائرا.

يقول احد المؤرخين لهذه السلفية، ان ابو منار ولد في يوم انقشعت فيه الغيوم عن السماء وباتت صافية مثل بيوت السلف في هور الجبايش(السلف اسم يطلق على شبه قرية تسكنها عوائل تربطها علاقة القربى).

واضاف هذا المؤرخ “ان القابلة التي اشرفت على ولادته اصابتها الدهشة حين رأته يبتسم لها ويقول بصوت رجولي”هل نحن الان في السلف” وحين اجابته بالايجاب ارتفع صوته باغنية “كون السلف ينشال شلته على راسي” وما ان سمعت القابلة ذلك حتى اغمى عليها ولم يدم ذلك طويلا فقد وضع ابو المنار يده الصغيرة على وجنتها لتنهض وكأن شيئا لو يكن.

مبروك للعراقيين هذا الضيف الجديد ولابد من تكريم وفادته فهو قد كلّم القابلة وهو في المهد وفي ذلك معجزة جامية ،نسبة الى اسم هذا التيار،لاتحدث الا كل مليون سنة.

بالمناسبة اطلق عليه اسم آخر “العنكود” وهو طالب عند الروزخون الجامي. تواصل مع محمد الرديني فيسبوك

Posted in الأدب والفن, فكر حر | Leave a comment

ألغى أوباما تعهده بمحاربة «القاعدة»؟

سليم نصار: الحياة اللندنية

 بعد مرور إحدى عشرة سنة على اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي حصدت أكثر من ثلاثة آلاف قتيل بين نيويورك وواشنطن… قام وريث زعامة «القاعدة» أيمن الظواهري بوضع استراتيجية جديدة تنظم مراكز القوى المنتشرة في اليمن والصومال والسودان وليبيا ومالي والجزائر ونيجيريا والمغرب العربي.

 وكان من الطبيعي أن يأخذ الظواهري في الاعتبار اغتيال رفيقه ومَثله الأعلى أسامة بن لادن، قبل أن يشرع في رسم الخطوط العريضة للمرحلة المقبلة. كذلك أخذ في الحساب عودة «طالبان» إلى السلطة بعدما قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما سحب قواته وقوات التحالف من أفغانستان خلال السنة المقبلة. وهكذا توقع المراقبون أن تزول سلطة حميد كارزاي مع سحب القوات الدولية التي قامت بتدريب فرق محلية معدّة لملء الفراغ.

 قيادة الاستخبارات الباكستانية، التي ساهمت في عملية استيلاء «طالبان» على الحكم في أفغانستان، نصحت الملا عمر بضرورة الانفتاح على الدول الغربية من أجل إعادة إعمار البلاد.

 ويُستنتَج من فحوى خطاب التنصيب، أن الرئيس أوباما يسعى إلى تطبيق سياسة الانحسار إلى الداخل، والابتعاد عن سياسة التدخل في الخارج. وعليه يرى خبراء الحزب الديموقراطي أن الرئيس سيباشر قريباً في ترجمة التزاماته إلى خطوات عملية. وقد حدد هذه الالتزامات بكل وضوح عندما قال: «سنظهر شجاعة لتسوية خلافاتنا مع الأمم الأخرى بطرق سلمية. ذلك أن الانخراط في حلّ المخاطر التي نواجهها يمكنه إزالة الشكوك والمخاوف.»

 ويعكس كلام أوباما إصراره على استعجال الانسحاب من أفغانستان، وامتناعه عن «خوض حروب بلا نهاية.» وتبدو هذه السياسة انقلاباً على عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش الذي غاب عن احتفال التنصيب.

 وفي الشرق الأوسط تتوقع العواصم الكبرى أن تنجلي سياسة أوباما، خصوصاً حيال الملف النووي الإيراني. وتسعى واشنطن في هذا السياق إلى إطلاق مفاوضات جدية مع طهران، الأمر الذي يضع الرئيس الأميركي في موقع صِدام مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو.

 أسباب القوقعة الأميركية فسّرتها مراسلة جريدة «ليبراسيون» الفرنسية لورين ميلو بالتحولات التالية: أولاً – الشعب الذي انتخب أوباما لولاية ثانية، ومنحه ما نسبته خمسين في المئة من الأصوات على المستوى الوطني، منقسم إلى فريقين. والثابت أن النساء والشبان والأقليات والفقراء وسكان المدن والعلمانيين هم مَنْ اقترعوا لأوباما.

 ثانياً – في وقت يدعو أوباما إلى توحيد صفوف المواطنين، يتفاقم الانقسام الحزبي. مثال ذلك أن نسبة إقبال الديموقراطيين على التصويت لمرشحهم ارتفعت، شأن إقبال الجمهوريين على التصويت لرومني. كذلك أبرزت الانتخابات عمق الهوة بين الحزبين. ذلك أن نسبة اقتراع المدن الكبيرة للديموقراطيين زادت عن 69 في المئة، بينما وصلت نسبة المقترعين في المدن الصغيرة لصالح المرشح الجمهوري إلى 56 في المئة.

 خلاصة الكلام أن أميركا المنقسمة انتخبت رئيساً لم يمنحها الأمل بمستقبل أفضل. أو أنها أولت ثقتها لقبطان تجهل في أي مرفأ سترسو سفينته!

 ومن تداعيات هذا التحول تنطلق أسئلة القيادات المعنية بنشاط «القاعدة» وتأثيرها العملي في مستقبل الدول التي استوطنتها مثل اليمن والصومال والسودان والنيجر وليبيا ومالي… وسواها.

 الملفت أن أوباما لم يطرح عناوين سياسته الخارجية كحزمة مبادئ فقط، وإنما أتبعها باختيار ثلاثة مسؤولين عُرِفوا بتبني هذا الخط الوقائي قبل أن يرسمه الرئيس. والثلاثة هم: وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هاغل ومدير الاستخبارات المركزية جون برينان.

 وفي هذا السياق، يمكن الاستنتاج أن أوباما تراجع عن الالتزامات التي تعهد بتنفيذها يوم انتُخِبَ رئيساً للجمهورية في الدورة السابقة. ولم يكن القرار الذي اتخذه بشأن محاربة «القاعدة» في أفغانستان سوى تأييد للخط السياسي الذي رسمه سلفه جورج بوش عقب اعتداءات 11 أيلول 2001.

 قال بوش، في خطاب موجه إلى الأمة وحلفاء الولايات المتحدة، «إنه على كل الدول أن تقرر ما إذا كانت هي معنا… أم مع الإرهابيين!» واعتُبِرَ ذلك المبدأ في حينه أول تعديل في سياسة واشنطن الخارجية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945. كما اعتبر جورج بوش أن القضاء على الإرهاب هو بمثابة مبدأ إستراتيجي يجب أن تتبناه كل الإدارات الأميركية وكل الدول الحليفة والصديقة.

 بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، فوجئ الرئيس بوش برفض دول صديقة عدة تطبيق هذا الشعار. واستغل بنيامين نتانياهو الغضب الأميركي ليفتتح في واشنطن مركزاً إعلامياً لمحاربة الإرهاب استخدمه كمنصة انطلاق لضرب الفلسطينيين الذين يناضلون من أجل استرجاع وطنهم المحتل. وادعى في حفلة التدشين أن المركز يحمل اسم شقيقه الأكبر جوناثان الذي قُتِلَ في مطار كامبالا أثناء حملة تحرير رهائن خطفهم فدائيون فلسطينيون.

 عام 2006 قدمت بريطانيا مبادرة سياسية مختلفة استبدلت فيها عبارة «محاربة الإرهاب» بعبارة «الحرب ضد التطرف.» وحجتها أن دعوة أميركا تتضمن أهدافاً ملتبسة، كونها تحارب عدواً وهمياً يخضع لأوامر رئيس يقطن في مغاور «تورا بورا»، وينتشر أنصاره في كل مكان على الأرض.

 والمرجح أن الرئيس أوباما قرر اغتيال بن لادن على أمل محو الهاجس النفسي الجماعي من أذهان الشعب الأميركي المصدوم. وقد حصّنه ذلك القرار الجريء بمناعة استثنائية وظفها في حملته الانتخابية الأخيرة كشهادة على قتل «التنين» وإراحة الخائفين من شروره. وبفضل ذلك الإنجاز تجاسر على الإعلان عن سحب كل قوات التحالف الدولي من أفغانستان قبل نهاية عام 2014.

 في ضوء هذا التحول الذي اتخذته الإدارة الأميركية، كان اهتمام أيمن الظواهري منصباً على ضرورة إيجاد أرضية صالحة لإكمال نشاطات «القاعدة»، وتوفير السياسة الملائمة لانتشارها. وكان يهمه عقب اغتيال أسامة بن لادن المحافظة على الأهداف التي حددها معلمه، خوفاً من اجتراح متغيرات قد لا تتناسب وطموحات الرمز المؤسس. لذلك ركز الظواهري، بادئ الأمر، على اليمن لأكثر من سبب: أولاً – لأنه الباب الواسع لتطويق المملكة العربية السعودية من الجنوب المفتوح على البحر الأحمر. ثانياً – لأن تواصل قوات «القاعدة» مع مسلحي «الشباب» في الصومال يمكن أن يهدد الملاحة في باب المندب. ثالثاً – لأن الخلافات القبلية في اليمن يمكن أن تُضعِف سلطة الجيش النظامي، الأمر الذي يُسهل عملية الاستيلاء على الدولة، وتحويلها تدريجياً إلى موقع استقطاب مركزي لدولة «القاعدة.»

 وقد ظهرت هذه الرؤية بجلاء من خلال الأحداث التي شهدتها محافظة مأرب، شرق البلاد… ومحافظة أبين، في الجنوب. ومع أن الرئيس عبدربه منصور هادي توقع انحسار عمليات «القاعدة» بعد اغتيال بن لادن، إلا أن النشاطات الأخيرة خذلته. خصوصاً بعد ارتفاع مؤشرات الخطر في محافظات مأرب وشبوة وحضرموت. أي المحافظات المُنتِجة للنفط والغاز اللذين تعتمد عليهما البلاد في دخلها القومي بنسبة تسعين في المئة. إضافة إلى وجود المنشآت النفطية والمحطة الغازية لتوليد الطاقة الكهربائية في مأرب.

 المهم أن الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة كانت مهتمة بإضعاف سلطة «الشباب» في الصومال… وضرب «القاعدة» في اليمن. كل هذا من أجل منع حدوث أي تغيير على الأرض، تستفيد منه الحركتان لتثبيت نفوذهما وتمتين علاقتهما. وهذا ما يفسر إصرار وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على دعم حكومة الصومال والاعتراف بشرعيتها. بل إن هذا ما يفسر تدخل أجهزة الاستخبارات الأميركية في عملية مطاردة رجل «القاعدة» الأول أبو علي الحارثي. وقد قُتِلَ بصاروخ موجه أطلِق من طائرة «درون» مع خمسة من مرافقيه.

 عملية الهجوم على منشأة الغاز الجزائري كشفت عن وجود مسلحين سودانيين مع جماعة «القاعدة.» وهذا يدل على الاهتمام الذي يوليه التنظيم المتطرف للمجتمع السوداني. خصوصاً بعدما لجأ أسامه بن لادن إلى السودان لمدة خمس سنوات أقام خلالها في بعض المزارع التي استخدمها لتدريب عناصره. وإلى السودان أيضاً لجأ الإرهابي الفنزويلي كارلوس قبل تسليمه إلى فرنسا. ومن السودان انتقلت عناصر مصرية تابعة لـ «تنظيم الجهاد» لاغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في أديس أبابا.

 وفي هذا الشهر أعلن تنظيم «القاعدة» عن تشكيل جناح طلابي في جامعة الخرطوم. وهذا معناه توسيع دائرة الاستقطاب بحيث تصبح الفئات المتعلمة جزءاً من التنظيمات المتطرفة في بلد تمزقه الخلافات العنصرية والدينية.

 عملية مالي كشفت عن تصدع كبير في صفوف «القاعدة»، الأمر الذي أدى إلى ظهور تنظيمات مستقلة مثل «حركة أنصار الدين» و»الملثمون» بقيادة مختار بلمختار. ويُعتبر بلمختار، الذي تبنى الهجوم على موقع للغاز في جنوب شرقي الجزائر، أحد القادة البارزين في تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.» وقد تدرب في أفغانستان عام 1991 حيث أمضى ثلاث سنوات قبل رجوعه إلى الجزائر ليؤسس «الجماعة السلفية للدعوة والقتال». وهو الذي أدخل التنظيم إلى شمال مالي برفقة عماري صايفي. وتتشكل إمارة الصحراء من كتيبتين هما «الملثمون» بقيادة مختار بلمختار و»طارق بن زياد» بقيادة عبدالرزاق البارا.

 ووفق مصادر أمنية موثوقة فإن الأمير الجديد لتنظيم «القاعدة» في منطقتي الساحل والصحراء يُدعى جمال عكاشة. وهو وفق التراتبية الحزبية، قائد عام لكل الكتائب التي تقاتل في تلك المنطقة، بما فيها المنطقة التابعة للجزائري عبدالحميد أبو زيد والمنتشرة في تمبكتو، شمال غربي مالي. إضافة إلى المنطقة التي يتزعمها مختار بلمختار والممتدة في الصحراء الشمالية الشرقية لمالي.

 عندما زار الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الجزائر، قبل شهر تقريباً، طلِبَ منه الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية. ومع أنه رفض الاعتذار، إلا أنه وصف الاستعمار بأقسى الأوصاف، مؤكداً أن بلاده لن تغرق في هذا المستنقع مرة أخرى.

 برر هولاند تدخله العسكري المفاجئ بطلب حكومة مالي المساعدة العاجلة لمواجهة المسلحين الإسلاميين. وقد اعتمد على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في كانون الأول (ديسمبر) الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال.

 صحيفة «لوموند» كتبت تصف الحملة الفرنسية بأنها الأضخم من نوعها بعد الحملة ضد أفغانستان. ولكنها توقعت بقاء القوات الفرنسية مدة أطول بكثير من المدة التي تحدث عنها الرئيس هولاند. علماً أنه كان دائماً ينتقد عهود فرنسا الاستعمارية. وقد فاجأته المجلات الأوروبية هذا الأسبوع برسم صورته على صهوة حصان وقد وضع يده اليمنى تحت معطفه تيمناً بنابليون!

Posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا | 1 Comment