الخروج إلى النهار

تناولت زجاجة العطر القديمة من فوق التسريحة بأطراف أصابعها، يكسوها التراب ممتلئة حد المنتصف بسائل أصفر غامق شفاف زيتى القوام، نزعت غطاءها الذى تقشرت بعض أجزاء طلاءه، وقربتها من أنفها بحذر فبدى على وجهها إمتعاض وسرعان ما أبعدتها عن أنفها كأنها تحتوى مادة حارقة.. أعادت الغطاء وأرجعتها للتسريحة ثم مدت أصابعها تزيح خصلات شعرها الى خلف أذنها وبحركة تلقائية ألقت بنظرة سريعة على وجهها فى المرآة فظهرت صورتها متعرجة مشوهة، قربت وجهها أكثر وفى محاولة لتفادي المساحات المغبشة بالنقاط السوداء التى أصابت طلاء المرآة الأثرية المثبتة فى تسريحة غرفة نوم أمها، فتبينت وجهها بصعوبة وخاصة مع ضوء الغرفة الخافت وقد زحفت إلى ملامحه آثار الزمن والانتظار فزادها هذا المنظر شعورا بالاستياء، فضلا عن الاحساس بالهرم الذى بات يملؤها والذى زاد بسبب مرافقتها المستمرة لأمها المشلولة منذ سنتين فى نوبتجيات منتظمة ومتبادلة مع جارتهم أم صفوت، السيدة المسنة وصديقة أمها منذ سنوات طويلة، بالاضافة لهذا الحارس بلا أجر ” رجب زغاليل ” هذا المسكين معتوه الحى الذى لا يبرح باب العمارة منذ مرضت والدتها، وهو دائم السؤال عن أمها بحروفه المتساقطة مع لعابه المستمر، ونظرته المتضرعة للسماء رافعا أصبعه مشيرا الى أعلى بوجه تعبيراته باكية حزينة. بالطبع لم يكن ممكنا الاعتماد عليه فى موالاة أم سهام لكن وفاءه كان لافتا للنظر، وفاءً نادرا وعرفانا غير متوقع من معتوه.

مشت مبتعدة عن المرآة بملل من يحاول تبديد الوقت، دارت بنظرها فى الغرفة تتأمل ربما للمرة الألف الستائر المخملية نبيذية اللون ، والتى طبع الغبار والاهمال والقدم آثارهم على ثنياتها وبراقعها.. ، ورق حائط على شكل تقليمات عريضة لونها أخضر باهت مائل للاصفرار تمزقت بعض أجزاءها ، تصدر الأرضية الخشبية المتآكلة صريرا وقرقعة مع كل خطوة تخطوها سهام فكانت تتعمد أن تضع قدمها على السجادة المهترئة حتى لا يوقظ صوت قرقعة الخشب أمها المريضة بسبب وقع أقدامها، فكانت تقفز وكأنها تتلافى بالوعات مفتوحة فى الشارع.

وفى كل مرة تحدث نفسها : عندما تتحسن أمى قليلا سوف أنظف لها هذه الستائر.. سأقوم بطلاء هذه الحوائط بدلا من الورق الكالح..سأشترى لها سجادة جديدة بدلا من القديمة..ولم تفعل أبدا.

كثيرا ما تساءلت سهام، لماذا تتمسك أمها بهذه الكراكيب، ولماذا لم توافق أبدا على التفاهم مع صاحب العقار للحصول على مبلغ من المال والتنازل عن هذه الشقة الضخمة كبيرة المساحة والانتقال لحى راقى فى المدن الجديدة أو لشقة أكثر عصرية ولا سيما بعد أن خلت هذه الشقة عليها منذ وفاة والد سهام، ولم تعد تستخدم معظم حجراتها.

كانت أمها تردد دوما: بيتى مش حاسيبه ولا أفرط فيه إلا وأنا رايحة القبر.. يا بنتى ده كل ركن فيه شايل حتـَّة من ذكرياتى أنا والمرحوم أبوكى : هو حد طايل شقة زى بتاعتنا دى النهاردة ..!! ثم تلكظها أعلى ساقها بحركة فيها الكثير من التدليل وكأنها تقرصها فى محاولة لإغراء سهام وبابتسامة : ده حتى الشقة دى فيها كنز.

هذا كان إيمانها دوما ان لديها فى هذه الشقة كنز، هكذا أقنعها زوجها والد سهام مدرس التاريخ، شقتهم كانت تقع فى الطابق الثانى من عمارة قديمة ذات ثلاثة طوابق بنيت فى أوائل القرن الماضى بحي الظاهر، ويصل فيها ارتفاع الطابق الواحد إلى حوالى خمسة أو ستة أمتار بسلالم رخامية تجوفت درجاتها عند أوسطها بفعل الاستخدام ودرابزينات من الحديد المشغول على شكل أوراق نباتات يعلوها جزء خشبى، وبسطات بمساحات كبيرة أمام ابواب الشقق مكسوة بالرخام الملون، كثيرا ما شهدت لعبها وأخيها الأصغر مع أولاد الجيران.

تتذكر سهام مزاحها ردا على كلام أمها أثناء استعدادها للذهاب الى الجامعة فى صبح أحد أيام الدراسة منذ سنوات، تعقص شعرها أمام المرآة المثبتة فى البوفيه وتنحنى لترتدى حذائها سريعا ثم تفتح أدراج تخرج أدوات ثم تغلقها..تستدير وتنظر لقوامها فى المرآة : كنز ..!! يعنى لو البيت ده فيه كنز سايبانى ليه ألبس الجزمة المنيلة دى..!! والبنطلون اللى طلعان روحه ده ؟؟ ما تشوفينا بحاجة من الكنز بتاعك ينوبك ثواب.

تحذر أم سهام إبنتها بجدية واضعة سبابتها على شفتيها وتقطب جبينها وهى تنظر نحو شباك المنور المفتوح: ششششششششش. بس يا هب الريح انتى الجيران يسمعوكى، ياللا إنزلى على كليتك يمكن تنفعك وما تنسيش تعدى على أم صفوت قولى لها ماما معلــَّقة عالقهوة.

نظرت لأمها الممدة بالفراش وكأنها قطعة من الخبز المقدد، تفتح عينيها المرهقتين من حين لآخر تنظر للدولاب وتشير بأصبعها إليه أو ترفع عينيها للسقف فى تضرع ثم ينسدل الجفنان دون إرادة منها وتنسحب فى غياب غير معروف إن كان غيبوبة أو نوم.

تأملت سهام صورة والدها المعلقة على الحائط المقابل لفراش أمها، يرتدى سترة مقلمة وقميصا غالبا أبيض وربطة عنق بلون غامق قد يكون كحلى او بنى او أسودـ لا يمكن الجزم ـ شاربه الدقيق المرسوم كخط فوق فمه الواسع نسبيا مع ابتسامة خفيفة وعيون تشبه عيون الممثل كمال الشناوى، نصف رومانسية على نصف خبيثة، تليها صورة أخرى أبيض وأسود أيضا لجدها الشيخ الأزهرى يرتدى الجبة والقفطان والعمامة وتبدو كما لو كانت صورة مرسومة بالفحم تطغى على الصورة وملامح الجد ضبابية وإصفرار.. معلق على الحائط أيضا كف وبه خرزات زرقاء وأسفله عين حورس الفرعونية المصنوعة من النحاس بحدقة مصنوعة من فص أزرق.

تجاورهم صورة العرس لأمها وأبوها، تتأبط أم سهام ذراع الأب ويبدو وجه العروس مشدوها، صور أخرى فيها أشخاص من العائلة حفظت أشكالهم سهام وكانت تحب أن تعيد أسماءهم فى طفولتها مع أمها فى أيام الجمعة حيث تجلس أم سهام لترتق جوارب زوجها فى وقت غيابه للصلاة فى المسجد المجاور لبيتهم، والشمس تمد أشعتها على الفراش وتنبسط على أرض الغرفة بالكامل.

ده عمو سليمان ودى طنط كوثر ودول ولاد طنط عزيزة دى صورتنا فى المصيف عند عمو سعيد القاضى.

ابتسمت سهام حين تذكرت ونظرت للأرض وهى عاقدة ذراعيها، تضم كتفيها وتكشُّهم لأعلى وتشدّ الشال حولهما فى حركة كأنها قد شعرت بالبرد فجأة.

استندت برأسها على حائط فاصطدمت نظراتها المتجولة بدولاب أمها المتهالك الذى مالت الارض من تحته بفعل الرطوبة فمال للأمام كبرج بيزا يقاوم السقوط، ضُلـفـُهُ تساندت على بعضها البعض فى صمود، يعلوه تاج من الأويما الدقيقة على شكل وردتين معقودتين، كاد ينمحى لون دهانهما البنى الغامق، تبدوان كوردتين تقفان لتلقيا بنفسيهما من فوق القمة وتنتحران.

نظرت فى ساعتها.. تقدمت بخطوات مترددة ونادت :

ماما .. أنا مضطرة أمشى عاوزة حاجة ؟ حارجع تانى ، بس أحضر لهم حاجة ياكلوها وآجي على طول، حانادى على أم صفوت تقعد معاكى لغاية ما أرجع.

ظهر تعبير استسلام على وجه الأم، ثم فتحت عينيها بتثاقل وهمست وهى تنطق الكلمات بصعوبة : ما تنسيش تقفلى الدولاب قبل ما تروَّحِى.. وخدى معاكى أكل لرجب.

منذ مرضت أم سهام وهى لا تكف عن الحديث عن الدولاب وذكرت لسهام عدة مرات أن الكنز فى الدولاب بمكان سرى لم يعرفه أحد حتى الآن سوى والد سهام والاستاذ نجيب المرصفى زميله وصديقه.

الاستاذ نجيب الذى جمعته صداقة قوية بوالد سهام بدأت بزمالة بالمدرسة الثانوى، كان متخصصا فى العلوم والفيزياء.. ولم تعرف أبدا سهام ما سر صداقة والدها مدرس التاريخ هادئ الطباع ذو الخلق الدمث بهذا الاستاذ الفظ الغليظ الذى لا يتهاون أبدا مع الطالبات وكان دائم العبوس وصوته عالى سواء فى أثناء الحصص أو حتى فى غرفة الأساتذة. أمها كانت تهذى باسمه حين تذكر الكنز الموجود فى الدولاب.

كلما تحدثت سهام هاتفيا مع صديقة لها عبر الهاتف عن أحوالها أو عن مرض أمها، ترفع الأم أصبعها مشيرة الى الدولاب وتقول لسهام بصوت خافت مرتعش: أوعى تقولى لها على اللى فى الدولاب، ثم تستغرق بعدها فى نوم عميق.

مرت سهام على أم صفوت فى طريقها الى الشارع لتأتى وتجالس أمها الى أن ترجع فى المساء، وحين وصلت لباب العمارة وجدت رجب جالسا على الرصيف يرص طوب فوق بعضه ثم يضربه بيده فيسقط على الأرض، بحركة أتوماتيكية ودون أن تتوقف ناولته كيسا أخذه من يدها بتلقائية غلب عليها التعود وصاح : ألوح حاجّة .. أحب حاجّة .. حاجّة حوة .. أديها إس.. فلوس كتيييل .. ألوح حاجّة ؟

ردت سهام وهى متجهة لسيارتها : لا يا رجب هى نايمة دلوقتى بتستريح.. كل الاكل بتاعك الحاجة بعتتهولك.

كانت سهام تلمحه يوميا فى طريقها للكلية، بالقرب من موقف السيارات المجاور لبيتهم، يقف ملوحا بعلم مصر المثبت فى فرع شجرة، ملابسه رثة قذرة لدرجة غير محتملة، شعره منكوش مهوش، يرتدى سترة غير معروف إن كان لونها كاكي أم أن لونها أصبح هكذا من شدة الاتساخ .. مهترئة ممزقة وقياسها أكبر منه بكثير، مفكوكة الازرار يعلق على كتفه حبلا مربوطا به ثلاثة علب من الصفيح فارغة من تلك التى تستخدم للمياه الغازية، تظهر عظام قفصه الصدرى ناتئة كهياكل الموتى، آثار جروح قديمة وحديثة تملأ صدره العارى وآثار دماء جافة وأخرى حية. ” رجب زغاليل ” هذا هو إسمه الذى ناداه به سائس موقف الانتظار حين طلبت منه سهام أن يناديه كى تمنحه بضعة قروش وكيس به بعض الفطائر المحلاة دسَّـته أمها فى حقيبتها وأوصتها بأن تعطيه له، طمع فيها السائس معبرا عن ذلك بكلمات مثل : ده مجنون يا أبلة .. يضيع الفلوس .. ولا حياكل ولا يشرب .

زجرته سهام بلوم وقالت : مالكش دعوة ماما باعتاها له.

كان كلما إقترب منه أى شخص يزعق مناديا: زغاليل.. زغاليل ولم يكن وقتها يقول غير هذه الكلمة فلقبه الناس بهذا الاسم، وظهر لأول مرة بالشارع فى شهر رجب ولم يكن معروفا له اسم فأسموه رجب وبعد ذلك صار يلقب باسم رجب زغاليل .. كان يبكى حين يضربه أطفال الشارع بالطوب وينادوه .. زغاليل .. زغاليل.

تناول كيس الفطائر بلهفة دون حتى ان يلتفت لها، ووضعه فى جيب سترته الواسع والذى يتدلى منه خرق قماش بالية متسخة، ويظهر منه طرف من كراسة تثنت اوراقها الصفراء، ثم انصرف. لاحظت سهام حين اقترب منها يومها ندوبا وجروحا منها السطحي ومنها الغائر ففزعت لبشاعة الحال. سألت سهام السائس عن سبب الجروح فرد راسما ملامح التأثر : مش عارف يا أبلة إحنا بنشوفه ماسك حجر وبيخبط صدره بيه يا ولداه وبيقول ” أستاهل اكثر من كده”، لحد ما جتته تشرشب دم.. أقولك ايه يا أبلة والله بيصعب علينا ، انا ساعات أروح أجيب له أكل، أصله عدم المؤاخذة مالوش حد وبياكل من الزبالة.

أم سهام كانت تعتبره مسئولا منها، ترسل له الطعام يوميا أو ترسل فى طلبه فيأتيها فتدخله الى صالة البيت وتفرش له بساط على الأرض وتقدم له الطعام الساخن وتصنع له الشاى، وفى إحدى هذه المرات عاد والد سهام من العمل فوجد رجب جالسا على الأرض يأكل، فانزعج جدا وسأل أم سهام : ما هذه القاذورات التى تدخلينها المنزل وانت وحدك ألا تخشين أن ينقض عليكِ فيقتلك؟!

فترد بابتسامة وهى تنظر إلى رجب بعطف كطفل: رجب ؟ يقتلنى ! .. ده غلبان، معلش ياخد طرقته ويمشى.

نظر لها زغاليل وضحك متهللا وصاح : زغاليل زغاليل .. حاجّة حوة.

إعتادوا جميعا على هذا المنظر، وجود رجب جالسا إما على بسطة السلم أو فى مدخل الشقة، يأكل مما طبخته أم سهام أو فى الشارع يلعب مع الأطفال ويصيح بفرح زغاليل زغاليل.

فى هذه الليلة عادت سهام بعد أن أنهت مهمتها ببيتها، واتخذت طريقها لبيت والدتها لتمنح أم صفوت بعض الراحة وتتسلم دورها فى النوبتجية. كان الجو باردا الى حد كبير فى تلك الليلة، قابلته على باب العمارة متسمرا ينظر الى لا شئ، ويصدر صوتا كالنحيب لكنه لم يكن يبكى، أمها لم تكن فى حالتها المعتادة، اى انها كانت تفتح عيونها وتحدق بهما فى الدولاب وهى فى حالة من اليقظة والانتباه لم تحدثا لها منذ أصابها الشلل ورقدت حبيسة الفراش.

سألتها سهام : مالك يا ماما

ردت الأم بسؤال : فين هشام أخوكى ؟

أجابت سهام : ما انتى عارفة ياماما إنه فى السعودية.

ردت الام : لازم يرجع خلاص، مافيش وقت.

إنزعجت سهام من كلام أمها وردت بسرعة : بعيد الشر عنك يا ماما.

ردت أم سهام : لازم هشام ييجى علشان أسلمكم الكنز، الوديعة اللى سابها أبوكم أمانة فى رقبتى، بس لازم هشام يعرف ان الكنز ده مش حينقسم ثلث لك وثلثين له .. لأ .. الكنز ده لازم ينقسم بينكم بالنص، وكمان فى جزء أبوكم تركه لزغاليل.

ردت سهام بابتسامة يائسة : تانى يا ماما .. كنز تانى.. انتى مش حتنسى الكلام ده بقى ؟ الكنز الحقيقى إنك تشدى حيلك كده وتخفِّى وتبقى كويسة… ثم بدهشة : زغاليل ؟ هو حيورث معانا كمان !! والله عال!!.

ثم أكملت : إرتاحى يا ماما ماترهقيش نفسك بالكلام ده. وهمت بأن تحكم الغطاء عليها لكن أمها قاطعتها بعصبية غريبة ليست من طبعها: بقولك إسمعينى مافيش وقت.. بكرة كلمى أخوكى فى التليفون خلييه يرجع بلده بسرعة قولى له امك محتاجة لك.

ردت سهام بدهشة : إيه الحكاية يا ماما.! مالك الليلة دى؟

أشاحت ام سهام بنظرها بعيدا وكأنها مترددة فى أن تبوح بشئ ولكن استدارت برأسها نحو سهام وقالت لها : عمك الاستاذ نجيب المرصفى صاحب المرحوم أبوكى جه زارنا النهاردة. ثم بجدية غريبة على أمها السيدة البسيطة التى عرفتها طوال عمرها : فتح الدولاب وكمان الضلفة السحرية وحط الشنطة اللى معاه وقال خلاص دى آخر حاجة.

ردت سهام باستنكار: سحرية ايه !! وشنطة ايه ؟ ماما إنتى كويسة ؟

صمتت أم سهام وظهر على وجهها يأس بسبب عدم فهم إبنتها لكلامها وإرهاق بسبب إنفعالها أثناء الحديث، فأدارت وجهها وأغمضت عينيها وانتظمت أنفاسها وراحت فى نوم كالاغماء.

ظلت سهام تنظر لأمها الراقدة على الفراش بشفقة ويأس، قامت فأحكمت الغطاء على أمها وذهبت لتعد كوبا من الشاى، رمقت الدولاب فى طريقها للمطبخ وابتسامة سخرية مرتسمة على وجهها الذى حمل تعبير عدم التصديق من لحظة انتهاء الحوار الذى دار للتو مع أمها.

ضحكت سهام من نفسها أثناء إعدادها للشاى ورددت : وانا مدوخَّة نفسي ليه، أفتح الدولاب وأشوف إيه الحكاية، بس يمكن يكون فى الضلفة المقفولة بالمفتاح ..!! المفتاح مع ماما رابطاه فى رقبتها من زمان .. عمرى ما فكرت أسأل نفسى إشمعنى الضلفة دى هى الوحيدة المقفولة بمفتاح .. كل دواليب البيت مفتوحة ما عدا الضلفة الوسطى فى دولاب ماما ..!! عجيبة.

عادت حاملة كوب الشاى ورمقت الدولاب مرة أخرى فى طريق عودتها، إتخذت الكرسى المجاور لفراش أمها التى لا تزال مستغرقة فى النوم مقعدا إذ كان فى مواجهة الدولاب، وظلت تتأمل الدولاب بعيون فاحصة وكأنها تراه للمرة الأولى.

نهضت ومشت نحوه وفتحت الناحية الخاصة بوالدها، فصدمتها رائحة الصوف المخزون المختلطة بالغبار والكولونيا الرجالى العتيقة المنبعثة من سترات أبيها المعلقة والمغطاة بملاءة بيضاء، أدخلت يدها تتحسس جوانب الدولاب الخشبية وتطرق عليها بحثا عن الضلفة السحرية التى ذكرتها أمها دون جدوى، تململت أمها فى الفراش فأغلقت الضلفة ورجعت تجلس بجوارها. ضحكت سهام من نفسها ساخرة، ورددت همسا: أما انا مجنونة بصحيح هو انا لسة حاعرف بيت أبويا من أول وجديد !! إذا كنت ما تركتوش ليوم واحد من يوم ما اتجوزت.. لكن ايه حكاية الشنطة اللى جابها عمو نجيب دى ؟

فى اليوم التالى إتصلت سهام بأخيها لتخبره أن حالة أمهما الصحية بدأت تتأخر وأنها أصبحت تهذى بأشياء لا معقولة مؤخرا، كما انه يستحسن أن يحضر فى أقرب وقت لأنها لا تستطيع التنبؤ بما قد تؤول اليه الأمور.

شعرت سهام فى هذا اليوم بميل الى تصديق ما قالته أمها .. فلماذا لا يكون وراء هذا الهذيان حقيقة أو جزء من الحقيقة، أى أنه قد يكون هناك بعض المال الذى خبأه أبوها كتحويشة عمر أو شيئا من هذا القبيل، أو قد يكون شيئا متبقيا مما ورثه عن جده الأزهرى واحتفظ به الى ان مات ولم يطلع أحدا عليه سوى أمها وصديقه الاستاذ نجيب، ومن الجائز أن يكون تمثالا أثريا قد جلبه من إحدى رحلاته الاستكشافية مع مستر دوبلر العالم الأثرى الذى كان أبوها فى صحبته دائما فى كل زياراته لمصر .. لكن أم سهام قالت أن صديق والدها الاستاذ نجيب قد جاء ووضع حقيبة داخل الضلفة السحرية، إذن هو كنز مشترك بينهما ولأن الاستاذ نجيب أستاذ الفيزياء لم ينجب وقد ماتت زوجته ففضل أن يرث أبناء صديقه .!!! إحتمال بعيد ، إذن فماذا وضع الاستاذ نجيب فى دولاب أمى؟ إتجهت سهام نحو الدولاب المائل للأمام ووقفت تنظر خلفه، قد تجد أى علامة تدل على تلك الضلفة السحرية التى ذكرتها أمها لكن دون جدوى.. بعد أن أرهقها التفكير، ذهبت ونادت على أم صفوت : ايه رأيك يا طنط فى حالة ماما ؟ مش شايفة إنها بتتأخر!!

ردت السيدة فى استنكار : ليه يا بنتى !! انتى حتأخريها ليه ما هى زى الفل أهى.. ليه بتقولى كده؟

جاوبتها سهام : أصلى ملاحظة كده انها بتقول كلام غريب الأيام دى.

أم صفوت : زى ايه ؟

سهام : كلام كده عن عم نجيب المرصفى .. فاكراه ؟ بقى له مدة ما زارناش.

أم صفوت : ليه يا بنتى ده كان لسة هنا إمبارح بعد ما روحتى جه وزار والدتك وقعد معاها ييجى ساعة،عملت له شاى شربه وبعدها مشى، والنبى دايما يفكرنى بسي المرحوم أبوكى ولا يتخيرش عنه، هم الناس دول يتعوضوا، مابقاش موجود الصنف ده.

تركت أم صفوت سهام وهى فى حالة من الدهشة، فلم تكن تصدق ما قالته والدتها عن أن الاستاذ نجيب قد حضر، إذن موضوع الحقيبة هذا صحيح.

دخلت سهام لحجرة أمها وجدتها جالسة فى الفراش وهو الشئ الذى لم يحدث طوال السنتين الماضيتين منذ ان أصابها الشلل، إقتربت منها سهام وهى تهلل فرحة: الحمد لله على سلامتك يا ماما .

إبتسمت أمها بضعف وقالت : أشعر أن أجزاء من جسدى بدأ يسرى فيها الاحساس من جديد.

ثم نظرت لإبنتها بحزن وقالت: أخوكى مش ناوى ييجى وأنا ما عادش فاضل لى وقت.. ومن يوم ما إتدروش وربى دقنه إتغير خالص، حتى أم صفوت بتقول إنه نجح فى إنه يأثر على إبنها صفوت بكلامه والشاب إبتدى يغيب مدد طويلة قاعد فى الجامع وساب شغله ورغم إنه هو اللى مسئول عن أمه لأن معاشها ضعيف أوى بعد المرحوم جوزها.. لكن برضه سايق فيها، الولاد دول مش حيعرفوا قيمتنا إلا لما نموت ويفقدوا الطريق.

نظرت سهام لأمها وكأنها تراها لأول مرة ، واندهشت لتغير أسلوبها وأحست أن أمها لم تكن مشلولة جسديا فقط وإنما عقليا أيضا وأن هذه الصحوة المفاجئة هى إما يقظة روحها قبل الموت، أو أنها شفيت فعلا تماما.

بعد عدة أيام عاد هشام، وقابل ترحاب أخته وأمه ببرود وفظاظة من يشعر أن هناك مهمة ثقيلة يجب أن ينتهى منها فى أسرع وقت.

تحدث هشام كما لو كان يصدر تعليمات ودون أن ينظر لأخته أو أمه الراقدة: على فكرة انا جاى يومين فقط وعندى ميت حاجة لازم اعملها.

دون كلام نظرت له أمه بتأثر ثم بيأس لفت ذراعيها خلف رقبتها وقامت بفك السلسلة التى ترتديها والمعلق بها مفتاح الدولاب، خلعتها وفكت منها المفتاح ومدت يدها تناوله لسهام.

مدت سهام كفها بتلقائية واستسلام من تعرف أخيها وكأنها تلقت إشارة دون كلام من أمها أن تفتح الدولاب وقامت متجهة نحوه فى تصميم.

تسمرت سهام أما الدولاب للحظات وكأنها تريد التراجع ، لا تعرف لماذا إنتابها شعور بالخوف وكأنها بمجرد ان تضع المفتاح فى كالون الدولاب ستكون قد ضغطت زر تفجير قنبلة.

هناك هشام جالس فى تحفز وعدائية غير معروف سببها يحملق فى أخته : ما تخلصينا يا سهام .. هى كيميا ؟

سهام : حاضر حاضر حلمك علينا شوية يا سي هشام انت جاى حامى كده ليه؟

وضعت المفتاح فى الثقب المخصص له وأدارته مرتين وفى الثالثة إنفتحت الضلفة فكان فى الدولاب عدة أرفف تحتوى أوراق قديمة أطرافها مشققة ولونها أصفر وفى المنتصف جزء مربع ومقبض صغير جذبته سهام للخارج وفتحت الضلفة الصغيرة، مدت سهام يدها بالفتحة فسقط فى يدها لفافة من الورق وكأن هناك من يقف خلف الدولاب وبمجرد أن مدت يدها سلمها اللفافة، هى مجموعة من أوراق البردي الملفوفة والمربوطة بشريط وكانت تظهر أيضا حقيبة صغيرة سحبتها سهام من مكانها وكانت ثقيلة وحين فتحتها وجدت كتابا عنوانه الخروج الى النهار، قلــَّبته ثم فتحت أولى صفحاته فوجدت،

إسم المترجم / عز الدين حماد

الاهداء : الى أبنائى سهام وهشام .. خارطة طريق.

وجدت مبلغا من المال فى ظرف مكتوب عليه من الخارج من أجل زغاليل. فتحت سهام اللفافة فوجدت فيها كتابة باللغة الهيروغليفية ومكتوبا أسفل الورقة الأخيرة باللغة العربية ، قمت بالترجمة لأن هذه الأوراق هى الدليل والنبراس، أرجو أن تسلم أوراق البردي لمستر دوبلر المُعَّلِم الذى عشق ترابها.

قَرَأت السطور بصوت عالى فنهض هشام متجها نحوها بعصبية : يا نهار اسود ..!! إنتوا جايبينى من السعودية عشان شوية الكلام الفارغ ده ؟ أنا عارف إنه كان مجنون .. طول عمره مجنون ، ما كفاهوش يطلــَّع جنانه علينا وهو عايش كمان وهو ميِّت.

اختطف ورق البردي والكتاب من يد سهام وحدق بهما لحظة ثم رمى بهما فى الأرض، لم ينتبه للظرف وأنصرف بزوبعته كما جاء بها.

نظرت سهام لأمها والدموع فى عينيها وقالت : بكرة يعقل.

 ‎فاتن واصل – مفكر حر

Posted in الأدب والفن | Leave a comment

دعاء الكروان

الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

اما بعد..

ابشركم اخوتي بالرضاعة والدين والمذهب باقرار الموازنة في العوراق العظيم لهذه السنة.

فقد اقر امس مجلس البرطمان موازنة هذا العام بعد “عر وجر” لاربعة شهور مضت كانت الكتل السياسية، وهو تعبير مجازي، تتصارع من اجل معرفة نسبة كل منها خصوصا وانهم اشتكوا من كثرة المصاريف الملقاة على عاتقهم والتي تبدا من رواتب رجال الحماية مرورا بعدد الطباخين والطباخات وانتهاءا بالزيارات المتتالية الى المدن القريبة (دبي وقطر) تليها المدن البعيدة (باريس،لندن وواشنطن سي دي).

المهم ايها الاخوة في الاسلام ان الموازنة اقرت او كما قال احد النواب الظرفاء ان البورطمان ولد الموازنة بعد ان شال حملها حولين الا بضعة شهور.

ولاننا لانستطيع ان نعيش بسلام،كما تقول زوجة ابو الطيب، فقد صاحب صدور الموازنة امس حادثان مفزعان جدا.

الاول استعمال القنادر في الحوار الديمقراطي بين النائبين سلمان الجميلي وعالية نصيف.

ويقول اهل الصون ان هذه المعركة هي الثالثة من نوعها التي تدور رحاها في كافتيريا البرطمان بعد ان وجه سيادة الرئيس اسامة النجيفي رسالة توبيخ مع انزال العقوبة القصوى باي نائب يتعارك بالقنادر داخل قاعة البرطمان وطالب الجميع تغريغ فضلاتهم الديمقراطية في الكافتيريا المخصصة لشرب الشاي والعصير وتوفير الاحذية بدون (قيطان).

وامس سمعت عالية نصيف كلاما جارحا من الجميلي مما دعاها الى نزع “بابوجها” المدبب لتضرب به وجه الجميلي الذي استمر في اطلاق كلماته النابية رغم تورم “خشمه” من اثر الضربة.

وحاول عدد من المقربين لكلا الطرفين ان يعرف ماذا احتوت الكلمات النابية الا انهم عزفوا عن ذلك بعد ان قالت لهم نصيف: ان هذه الكلمات لو قيلت خارج قبة البرطمان لالقي القبض على صاحبها بتهمة”القذف”.

ولم تسترسل نصيف في تعداد عدد الكلمات النابية التي اطلقها الجميلي بعد ان عرف المقربون النص المفصل لهذه الكلمات وتوقعوا ان تستمر معارك القنادر في الكافتيريا لما بعد انتخابات مجالس المحافظات خصوصا وان مدير الكافتيريا تعاقد مع شركة”باتا” لتزويده بعدد من “البساطيل” لاستعمالها في الحوار الديمقراطي بين النواب.

الحادث الثاني:كشف احد النواب بان الموازنة تضمنت تخصيص 3 مليار دولار الى دولة رئيس الوزراء لكنه لم يكشف عن سبب تخصيص هذا المبلغ الذي يعادل ميزانية ارتيريا والصومال معا.

ولم يعرف احد بعد لماذا تم صرف هذا المبلغ وتحت اي بند الا ان المتوقع هو صرفها بعدة منافذ” رواتب المخبرين السريين،شراء الاسلحة الخاصة بدون علم الحكومة او البرطمان، رواتب الخدم والحشم، تسديد فواتير المياه الخاصة بسقي الزهور والورود في الحديقة التابعة لبيت المنطقة الخضراء، تقديم المعونة لمن يستحقها من الوزراء والمدراء العامين شرط ان يكونوا من اعضاء دولة القانون، استعمال المبلغ المتبقي في الانتخابات المقبلة.

نقطة نظام:هناك قرار ضمني وتوجيهات من المراجع الدينية والقانونية بعدم استعمال المال العام لاغراض انتخابية ولكن يبدو ان هذه التوجيهات تستعد للدخول في عالم “اكل عليها الدهر وشرب” رغم لمساتها الدينية.

فاصل دموي:الشهيدان اللذان اطلقت الشرطة النار عليهما في تظاهرة الموصل امس تثبت ان العوراق قد دخل فعلا في العالم الديمغراطي.تواصل مع محمد الرديني فيسبوك

Posted in الأدب والفن, فكر حر | Leave a comment

الازدهار الياباني والملائكة السبعة 2

د خليل حسن

من مفكرة سفير عربي باليابانفي زيارة استطلاعية إلى مدينة كيوتو التاريخية والثقافية لفت نظري تحفة “للملائكة” السبعة اليابانية، وحاولت من خلال هذه التحفة أن أتفهم علاقة التطور والازدهار الياباني بالمفاهيم الأسطورية والروحية اليابانية. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن الازدهار في أي بلد ما مرتبط بكفاءة موارده البشرية، وغزارة موارده الطبيعية. وتنعكس كفاءة الموارد البشرية في دقة الوقت، ومهارة الأداء، مع مستوى علاقات التناغم في العمل وأخلاقياته. ويحتاج التناغم البشري لدرجة ذكاء يجمع بين الذكاء الذهني لخلق عملية تفكير متأنية، وذكاء عاطفي لتكوين قرارات بعيدة عن الانفعالات العاطفية، وذكاء روحي يتفهم تداخل الحقيقة بالخيال وقوانين الكون بعقائده وأساطيره، لتجنب معارك ايديولوجية امتلاك الحقيقة المطلقة واستبدالها بتفكير احتمالات الحياة المتناقضة، ويكملها ذكاء اجتماعي ليتواصل الإنسان مع أقرانه بلطف واتزان، لتوفير تناغم مجتمعي يحقق استقرار المجتمع وتنميته. ومع أن اليابان متميزة في نوعية مواردها البشرية، لكنها تواجه تحديات كبيرة في شح مواردها الطبيعية. والسؤال: كيف استطاع الإنسان الياباني أن يتعامل مع التحديات الطبيعية والتاريخية ليحول بلاده لدولة التعليم والتصنيع في القرن السابع عشر، ودولة التكنولوجية المتطورة في القرن التاسع عشر؟ وما هي المميزات التي ساعدته على تجاوز أخطاء الحرب العالمية الثانية، ليحول بلاده إلى مجتمع التناغم والحكمة والسلام، ليحقق تقدم اجتماعي وعلمي وتكنولوجي واقتصادي باهر؟ وما علاقة كل ذلك بالروحانيات اليابانية وأساطيرها؟

تبدأ النظرة المعاصرة للأسطورة اليابانية بصدور كتاب في عام 1715 بعنوان، المرأة المتكاملة لعملية الجنس، كتبه كاهن عقيدة الشنتو اليابانية، ماسوهو زانكو، الذي ناقش فيه التفاعل الجنسي بين المرأة والرجل كجزء من تناغم الأنوثة والذكورة، وكطاقة الكون الأساسية الدائمة، ليشكل الرجل والمرأة قطعتين متطابقتين، لا يفرق بينهما الدرجات، وليؤدي لعملية جنس مقدسة، تتمثل في الأسطورة اليابانية ببدء الخليقة، بتزاوج “كامي” اليابان ازنامي وازناجي، ليبدأ التاريخ الياباني. فتعتبر عملية التواصل الجنسي نوع من احتفالية بداية أصل اليابان المقدسة، وهنا ألفت نظر القارئ العزيز لتعبيرين في عقيدة الشنتو اليابانية، تعبير قليل الاستعمال والفهم وهو “الإله” كمفهوم شرق أوسطي لألهه الكون، وتعبير اخر شائع، “كامي”، تعبير يجمع بين مفهوم “الروح” و “الملائكة”. ويتوضح ذلك حينما تدخل بيت ياباني لتجد معبد على شكل صندوق صغير، يعتقد اليابانيون بأن أرواح موتاهم تزوره كالملائكة بعد أن تحوم حول الأنهار والجبال.

وسنبدأ دراسة أسطورة التاريخ الياباني بمراجعة كتاب كوجيكي، الذي يعتبر من احد أقدم الكتب التاريخية اليابانية الموجودة اليوم، ويعطي صورة مفصلة عن بداء تاريخ اليابان، ويجمع التاريخ مع الاسطورة ليسجل صورة جميلة لبلاد اليابان القديمة ومعتقداته منذ عام 660 ما قبل

الميلاد. وقد كتبه السيد ياسومارو على لسان “الرجل ذو الذاكرة الفذه”، السيد هيدا نوار، وقدم للديوان الامبراطوري بعد تكملته في عام 712. والجدير بالذكر بأن الشعب الياباني يحترم هذه القصص والأساطير، كما أن آلهة هذه الأساطير لها معابد يزورها الشعب بانتظام للتبرك والدعاء. وتصف قصة الكوجيكي بدء الخليقة بانشطار كتلة جرمية فصلت السموات عن الأرض، لتجمع بينهما جسر سماوي، جلست على عرشه أوائل آلهة اليابان. وتبدأ قصة الالهة بولادة ثلاثة من آلهة السموات العليا وهم: آلهة السماوات، والمخلف لآلهة الإعجاز، والمولد لآلهة الاعجاز، ولتبدأ بعدها نبتة صغيرة تشكل منها آلهة أمير الأرض والزرع، والجنة والخلود. كما يصف الكتاب ولادة سبعة من الآلهة المختصين بالأرض. ويشرح الكتاب في الفصل الثالث كيف أجتمعوا آلهة السموات في احتفالية كبيرة وأمروا الإلهين ازناجي وأزنامي بالتزاوج لولادة ارض اليابان، بعد أن قدموا لهم السهم السماوي المليء بالمجوهرات، وهم جالسين على عرش الجسر السماوي المتواصل بين السموات والأرض، فقاما بتدوير السهم في بحر اليابان ليتبلور الملح تدريجيا، ويتحول الى الجزر اليابانية. وتستمر أزنامي بتكملة ولادة باقي آلهة الطبيعة، مثل آلهة الجبال والأنهار والغابات والأمواج، كما يصف الكتاب احتراق الاجهزة التناسلية لأزنامي بعد ان ولدت آلهة النار، فمرضت واستلقت لتستريح، ليبدأ مرضها المزمن، ويسترسل الكتاب في وصف أعراض أصابتها، وربطه بولادة إلهه جديد، فمثلا حينما تتقيئ أزنامي يولد من قيئها الهه امير وأميرة معادن الجبال. وبعد أن اشتد المرض بها اقترب ازناجي منها، وبداء يبكي على حالها، فتحولت الدموع الى آلهة أنثى الدموع الباكية، وبعد فترة وجيزة فقدت الحياة، فقام أزناجي بدفنها على قمة جبل هيبا.

تلاحظ عزيزي القارئ بأن الأسطورة اليابانية حاولت أن تقدس كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة ومنتجاتها، وحتى المرض وأعراضة وأفرزاته كانت مهمة لتأثيرها على البيئة. كما أن لكل شيء في الأسطورة اليابانية أهمية متضادة، فالنار مهمة للحياة، ولكن قد تكون مدمرة في نفس الوقت، فالشمس أساس الحياة، ولكن قد تكون سببا لجفاف وحرق الغابات، لذلك هناك معبد صغير بقرب معبد إلهة الشمس، يمثل غضب إلهة الشمس. والجدير بالذكر بأن الكهنة يقدمون ثلاث وجبات يوميا للالهه، ويشترط بأن يجهز الطعام باستخدام نار طبيعية ناتجة عن احتكاك قطعتين من الخشب. كما توجد بالمعابد مسرح لاسترخاء الالهة، تعزف فيه الموسيقى، وتقدم فيه عروض رقص دينية، وتمثل فيه مسرحيات فن مسرح “النوهه” القديم، وذلك لمنع غضب الالهة، فغضبهم يؤدي للزلازل والفيضانات والرياح الشديدة والامواج القوية والجفاف بقوة حرارة الشمس.

وتستمر قصة كوجوكي بوصف قيام ازناجي بقطع رأس طفلة آلهة النار، لينتج من الدم الذي لوث سيفه ووسخ كتل الصخور المجاورة، مجموعة من الآلهة المفلقة للصخور، كما ولد من الدم الذي لوث الجزء العلوي من السيف آلهة القبح، وولد من الرأس المقطوع الآلهة المالكة لمعابر الجبال الحقيقي، ومن الصدر الآلهة المالكة لمنحدر الجبال، ومن البطن الآلهة المالكة للجزء الداخلي من الجبال، ومن اجزاءه التناسلية الآلهة المالكة للجبال القاتمة، ومن اليد اليسرى آلهة الجبال، ومن اليد اليمنى آلهة المالكة للجبال، ومن القدم اليسرى الآلهة المالكة للجزء الخارجي من الجبال. وتستمر القصة بوصف أسطورة عالم الموتى، فبعد أن زار ازناجي ازنامي المتوفية، تخرج من القصر وتستنكر مجيئه، فيرد عليها بأنه أشتاق لها، ويريد أن يأخدها معه إلى عالم الأحياء، ولكن يرجع خائبا وحيدا. وتستمر الأسطورة بوصف ولادة بقية الهة اليابان والتي تقدر بحوالي خمسة إلى ستة مليون. وتعتبر إلهة الشمس من أهم أحفاد أزنامي وازناجي، كما يعتبر ألامبراطور الأول لليابان، جيمو، أحد أحفادها، الذي عاش قبل الفين وستمائة وسبعة وستين سنة، ويستمر الكتاب في وصف باقي العائلة الامبراطورية اليابانية حتى القرن الخامس.

تلاحظ عزيزي القارئ بأن مفهوم الجنس مقدس في عقيدة الشنتو لعلاقته بالخصوبة، كما أن هناك تشبيهات مقدسة لموضوع الجنس والإنجاب، فمثلا تعتبر الأرض أنثى، وزرع الأرض عملية جنسية يبذر فيها نطفة البذور في طين الأرض. وكان الفلاح الياباني يحتفل في مواعيد زرع الأرض باحتفالية يقدم فيه الطعام والشراب، ثم يكمله بتواصله الجنسي مع زوجته، بعد أن يغتسل في نقطة صب نطفة أمواج النهر في رحم مياه البحر. ويعلق البروفيسور هاورو ساكوراي، أستاذ العلوم الدينية بجامعة كوجاكان اليابانية، بالقول: “الشنتو هو أحساس عاطفي لا تفكير مادي يسمو بالإنسان ويدعم أخلاقياته ويهذب سلوكه، فهو نوع من الأيمان، والإيمان مرتبط بالشعور، والشعور مرتبط بالإحساس، ولو دخل التفكير الذهني العقلي في الوسط لتلف هذا الإحساس الايماني الجميل.” فباختصار شديد يفصل الشعب الياباني الواقع المادي الحياتي، ومنطقه التفكير الذهني، عن الدين، والإحساس بالإيمان، والسمو من خلاله. حيث يمكن أن يسمو الفرد بهذا الإحساس لمرتبة كبيرة، تقربه من مرتبة الإله، وخاصة من خلال اخلاصه بخدمة الوطن. ومع أن عقيدة الشنتو لا تحدد رسول لرسالتها ولا كتاب مقدس، لكنها مستمرة عبر مئات السنين العقيدة الموحدة لليابان، ويرجع تاريخها المكتوب لعام إلفين وستمائة وسبعة وستين قبل الميلاد. وقد أخذ الشعب الياباني من الحضارة الصينية والديانة البوذية الكثير وطور بها معتقداته، بل دمج الديانتين معا اليوم في الممارسة الدينية وعقائدها، فالشعب الياباني مرتبط بالشنتو في كل ما له علاقة بالحياة والنمو والتطور والإزدهار، ومرتبط بالبوذية في كل ما له علاقة بالموت وما بعد الحياة. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين باليابان 

 المصدر ايلاف

Posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر | Leave a comment

الازدهار الياباني والملائكة السبعة 1

د خليل حسن

من مفكرة سفير عربي باليابان

 في زيارة استطلاعية إلى مدينة كيوتو التاريخية والثقافية لفت نظري تحفة للملائكة السبعة اليابانية، وحاولت من خلال هذه التحفة أن أتفهم علاقة التطور والازدهار الياباني بالمفاهيم الأسطورية والروحية اليابانية. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن الازدهار في أي بلد ما مرتبط بكفاءة موارده البشرية، وغزارة موارده الطبيعية. وتنعكس كفاءة الموارد البشرية في دقة الوقت، ومهارة الأداء، مع مستوى علاقات التناغم في العمل وأخلاقياته، وجميعها صدى لثقافة المجتمع التاريخية والأسطورية مع مفاهيمه الروحية. وبينما تعتبر اليابان متميزة في مواردها البشرية، فهي تجابهه تحديات كبيرة في مواردها الطبيعية. فمع أن عدد سكان اليابان لا يزيد عن 127 مليون نسمة، ولكن مجموع مساحة جزرها الكثيرة لا تتجاوز 350 ألف كيلومتر مربع، وحوالي 80% من أرضها جبال وغابات، والتي يقدسها الشعب الياباني، ولا يحاول المساس بطبيعتها وجمالها. كما تعاني اليابان من كثرة الزلازل والطوفانات، بالإضافة لشح الموارد الطبيعية، كالمعادن، والنفط، والغاز. والسؤال المحير: كيف استطاع الإنسان الياباني أن يتعامل مع التحديات الطبيعية والتاريخية ليحول بلاده دولة التعليم والتصنيع في القرن السابع عشر، ودولة التكنولوجية المتطورة في القرن التاسع عشر؟ وكيف استطاع هذا الشعب أن يتجاوز مأساة دمار الحرب العالمية الثانية، لتتحول بلاده خلال عقود قليلة إلى ثاني أعظم اقتصاد عالمي؟ وما علاقة كل ذلك بالروحانيات اليابانية وأساطيرها؟

لنستطيع عزيزي القارئ الإجابة على الأسئلة السابقة سأحاول أن أقسم الحوار في هذا المقال إلى ثلاثة أجزاء، وسنناقش في الجزء الأول مفهوم العام للأسطورة وتطورها مع تطور الجنس البشري، بينما سنتدارس في الجزء الثاني خصوصيات الأسطورة في التاريخ الياباني، وبعدها سنخصص الجزء الثالث لدراسة تأثير ثقافة الأسطورة والدين على تطور الإنسان الياباني ومجتمعه. 

لنتفهم تاريخ بدأ الأسطورة وتطورها في المجتمعات البشرية، شدني مؤخرا مراجعة كتاب يبحث علاقة الأساطير بالأديان وضرورة خلق توازن فهمهما، لتطوير التجربة الديمقراطية لتلعب دورا في استقرار المجتمع وازدهاره، مع المحافظة على القيم الإنسانية الروحية الدينية، والوقاية من استغلال الدين للعب السياسية الطائفية المقيتة. وقد كتبته المؤرخة والكاتبة البريطانية كارن أرمسترونج، التي عاشت كراهبة بالكنيسة البريطانية، وقررت بعدها أن تترك الكنيسة، وتتفرغ لدراسة الأديان، والبحث في أعماق مفاهيمها وفلسفتها. وقد كتبت الكثير عن الإنسان والآلهة والأديان، وتتحدث في كتابها، الأسطورة، عن أسباب نشأة الأساطير في التاريخ البشري، ومدى تأثيرها في سلوك الشعوب وارتباطها بالأديان، ومدى أهمية تفهم هذا الارتباط لتحقيق أحلام الإنسان المستقبلية في الرقي والإزدهار.

وتوضح الكاتبة بشكل جميل بأن الإنسان ملهما منذ بدأ نشأته بخلق الأسطورة، فمن خلالها يرضي غرائزه، ويحقق أحلامه، وينقل خبراته وحكمه للأجيال القادمة. وتعتقد الكاتبة بأن تصنيف التاريخ البشري واكب ثلاث مراحل من خلق الأسطورة، وتمثلت المرحلة الأولى بتداول الأساطير لأسرار الكون وأحلام الإنسان، بينما انتقلت في مرحلة التقدم الحضاري والعمراني إلى تفهم العقائد الدينية، وأما المرحلة الثالثة، فكانت مرحلة تطور المجتمع المدني وبداء الاكتشافات العلمية، أي مرحلة بدأ الإنسان البحث في العلوم المادية مع تخيلاتها العلمية. وقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة بأن حياة الدنيا ليست إلا بداية لحياة أخرى، وقد أكد رجال الآثار هذه الحقيقة، بكشف ما تحوي قبور الأقدمين من كنوز جمعوها في قبورهم لأخذها لحياة الآخرة. ويعتقد الذهن البشري بأن هناك الكثير من الأشياء التي لا يستطيع المخ المادي أن يفسرها ويقتنع ماديا بوجودها، لذلك تطور التخيل في العقل البشري، وبرزت الأساطير، والتخيلات العلمية، وتطورت معها فلسفة ومفاهيم الأديان المختلفة.

و تعتبر الأساطير في عالمنا المادي اليوم خرافات غير معقولة، مع أن مخيلة الأساطير هي التي مكنت الإنسان أن يحلم في المستقبل، ويكتشف علوم جديدة، ويبدع باختراعات حديثة. فمخيلة العلماء هي التي حملتنا إلى عالم الفضاء الخارجي فمشينا على القمر، وزرعنا المريخ، وسحبنا الطاقة الكهربائية من على سطح الشمس. فالأسطورة، والتخيلات العلمية، مع العلوم المادية، توسع مدارك ذهن الإنسان، وتحلقه على سحابة أحلام مستقبلية عجيبة، كما تساعد الإنسان لان يعيش ويتفهم الواقع الحياتي باعماقة، ويحلم بتغيره، وتطويره. وقد مزجت الأساطير قديما بين الإنسان والحيوان والطبيعة بتناغم جميل، كما تعرضت للقوانين الأرضية، والقيم الإلهية بشكل متوازن، ولم يوجد في بداية التاريخ البشري شرخا بين عالم الآلهة والعالم البشري، كما لم يفصل الإنسان وجود الآلهة عن قوة الرياح، وحيوية الأنهار والبحار، ولا عن العواطف الإنسانية في الحب، والكراهية، والانتقام. وقد خلق الإنسان الأساطير لتساعده للتعامل مع معضلات الحياة والطبيعة بشكل حالم سلس، كما ساعد البشر أن يعرفوا موقعهم في هذه الحياة، ويتساءلون من أين أتو، وكيف بدأت الحياة، وماهي سرها، وإلى أين هم ذاهبون.

وتعتقد كيرين أرمسترونغ بأن الأسطورة هي فن ينظر الإنسان من خلاله لما وراء حوادث التاريخ ودراسته، فقد كانت خبرة السمو لما وراء الواقع المادي رغبة ونشوة إنسانية دائمة، كما أن الإيمان الديني يرفع الإنسان لهذا السمو النفسي، المترافق بنشوة روحانية، تطير بالإنسان لما وراء واقعه الحياتي. وحينما فقد بعض البشر نشوة الإيمان في واقعه المادي، توجهو للإحساس به من خلال الأدب والشعر والموسيقى والرياضة. فالأسطورة هي كالقصة والأوبرا والباليه، وهي تصور يمجد عالمنا المنقسم والمأساوي، وتساعدنا أن نتأمل احتمالات وتساؤلات جديدة، وقد تؤدي لاكتشافات علمية وتكنولوجية مهمة. فالأسطورة هي حقيقة، ليس لان وقائعها حقيقية، بل لأنها مؤثرة في أعطائنا العمق للنظر للواقع المادي، والاستلهام للإبداع لخلق مستقبل أفضل. كما ان الأسطورة هي دليل يوجهنا للتعامل مع الحياة بتناغم وغناء روحي جميل، ويساعدنا على اكتشاف خبايا العقل الإنساني، الذي قد لا يمكن إدراكه، وكبداية لعلم النفس. فقصص الإبطال والإلهة الموجدة ما وراء عالمنا، والتي تحارب الجن والأشباح، أبرزت خفايا سيكولوجية الإنسان، وعلمتنا كيف نتعامل مع أزمات الإنسان النفسية الداخلية.

وقد بدأت حياة الإنسان بعصر الصيد منذ أكثر من عشرين ألف عام، واعتقد الإنسان بآلهة السموات المراقبة، والمحاسبة لاخطاءه بالكوارث الطبيعة، كما تمثل السمو الروحي بالسماء والجبال المقدسة. وانتقلت البشرية لعهد الزراعة في الألفية الثامنة قبل الميلاد، فعرف الإنسان فائدة الأرض والري، وبرزت مع العصور الزراعية آلهة السماء، فعرفت في سوريا إلهة الاشيرة، وفي بلاد ما بين النهرين إلهة اينان، وفي مصر إلهة البايسس، وفي اليونان آلهة هيرا وديميتر وافرودايت. ومع بداية عصور الحضارة العمرانية في بلاد ما بين النهرين ومصر والصين والهند وجزيرة كريت، بداء العمل على بناء المدن وتشكيل الولايات. كما أستمتع الإنسان بنشوة السيطرة والقوة، فبدأت الخلافات بين الولايات، ونزلت لعنة الطمع والعنف والحروب.

وقد اعتبر أهالي الهلال الخصيب بأن مدنهم هي المكان المناسب لملاقاة الآلهة فحولوها لجنان الأرض. فبداءت تقطن الآلهة المعابد في داخل المدن، بجانب البشر فتقرب الإنسان من آلهته. وقد عانت حضارة ما بين النهرين وحضارة مصر من فيضانات الأنهار، واعتبر المواطنين غضب الآلهة، فقدمت القرابين لتهدئتها. كما برزت الآلهة في المادة المقدسة الغير محددة، فامتزج الملح مع الماء المر، ولم تكن السموات والأرض والبحار مفصولة عن بعضها، كما كانت الآلهة بدون شكل أو اسم أو مستقبل. وقد كانت أوائل آلهة التي برزت من هذا المزج غير منفصلة من المادة المبهمة، فإبسو كان إلهه الماء النهري، وتيمت إلهه البحر المالح، والمومو إلهه السحب الضبابية. وقد تشكلت من هذه الآلهة المبهمة آلهة جديدة، توضحت معالمها، وبداءت تنفصل أجزاء الكون عن بعضها البعض، فانفصلت السماء عن الأرض، وبدأت تنفصل اليابسة عن البحار والأنهار، كما بدأت الآلهة من مزيج من الماء والطين، وسميت لاهمو والاهامو، وبعدها انشير وكيشار، أي أفق السماء والبحار، ومن ثم آلهة السموات انو، والهة الأرض إياه. وقد كانوا الآلهة الجدد أكثر نشاطا، فابسو غطس في قاع الأرض، واينو وإياه بنو قصورهم بين المعابد وقاعات المدن. وقد تحولت آلهة التيمت إلى آلهة خطرة، وخلقت وحش ممسوخ، للانتقام من إيبسو، كما برزت آلهة مختلفة في بلاد الهند والصين، واليابان. ومع التطور العلمي والصناعي والتكنولوجي بدأت الآلهة تبدو بعيدة عن البشر، وبداء الإنسان في العمل للتعامل مع التحديات الطبيعة، بدل تركها فقط لآلهة السماء. كما أخذ الإنسان في التعبير عن عواطفه وأفكاره المختلفة من خلال القصص والقصائد والأشعار، ومن أشهر القصائد في التاريخ البشري هي ملحمة جلجامش، والتي يعتقد بأن تاريخها يرجع لعام ألفين وستمائة قبل الميلاد.

ومع تطور التاريخ البشري استمر تطور مفهوم الآلهة والدين عند الإنسان، فبرزت الهندوسية، فالبوذية، فالأديان السماوية، اليهودية فالمسيحية فالإسلام، كما بداءت تنتشر المؤسسات الدينية وتزداد قوتها المادية والمعنوية. وبدأ التطور السياسي في المجتمعات البشرية، وحاولت القوى السياسية الاستفادة من الدين كقوة سياسية جديدة. فالتفتت القوى الحاكمة لخطورة اللعبة الجديدة من خلط السياسة بالدين، مع بداء سيطرة المؤسسات الدينية المسيسة على عقول الإفراد، فبدأت بالعمل لفرض سيطرتها على هذه المؤسسات، والاستفادة منها لتقوية مواقعها المجتمعية. فتداخل الدين بالسياسة، واستغلت المؤسسات السياسية والحاكمة المؤسسات الدينية لمصالحها، وأخذت تصدر قرارات سياسية في صياغة دينية. كما بدأت قيادات الدول بالتوسع بغزو أراضي بلدان مجاورة وبعيدة باسم الدين، فتطور مفهوم الاستعمار، لتبدأ مرحلة معاناة بشرية جديدة، من حروب، وغزو، وعبودية، وتفرقة عنصرية ودينية ومذهبية.

وعاش التاريخ البشري مرحلة جديدة مع بداء الثورة الفرنسية عام 1789، لتبدأ حركة التغير في المجتمعات الأوروبية، وتترافق بتغير الأنظمة الحاكمة، والسياسات، والإيديولوجيات المرافقة لها. فإنتهى حكم الإقطاع، كما صودرت أموال الكنيسة، وألغيت جميع المميزات السياسية التي كان يستمتع بها رجل الدين، ليتحول رجل الدين لفرد عادي، ضمن المجتمع الغربي المدني الجديد. وبداءت تبرز الإيديولوجيات الدنيوية، وبهتت المؤسسات الدينية وقياداتها، وترافقت هذه التغيرات الدينية السياسية مع التطور العلمي والصناعي، ليكتشف الإنسان بان التطور المادي العلمي سيسخر القوى الطبيعية لخدمته، فضعفت المفاهيم، والقيم، والأخلاقيات الدينية، وبرزت الأفكار المادية والقومية والماركسية. ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين باليابان 

 المصدر ايلاف

Posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر | Leave a comment

بيضحكوا على إيه ؟

Posted in ربيع سوريا, كاريكاتور | Leave a comment

نادين البدير: القابض على دينه

الراي

قبل أيام كتبت أسطراً عنونتها بالتالي « اللهم إني ليبرالية صائمة» تألمت ضمنه لزمن القطيع الذي نعيشه عربياً. لكن الوصف لم يعجب البعض الذي توقف عند كلمة (قطيع ) بغضب. ولم يكمل المقال، كان واضحا من ردوده أنه لم يكمل المقال. والبعض الآخر لم يقرأ المقال كعادته، بل اكتفى بقراءة الغير له، متبعاً بذلك تقليدا عربيا شهيرا في الحصول على المعرفة بالاعتماد على النقل وحدثني فلان ونبأني فلان. أما البعض فلم يجد إلا نقد أدوات الربط بالمقال، فوقف يدافع عن الفاصلة والنقطة. ليس مسموحاً له الخوض بأكثر من حديث عن الفاصلة والنقطة.

لا أشرح نفسي مرتين. ولا أريد إهدار الوقت بتفسير قصدي كل مرة. لكني سألخص رأيي سريعاً.

أراه عضوا في القطيع ذلك الذي يفكر بعقل الجمهور (وهل للجمهور عقل واحد؟). يقف أمام الأحداث والأشخاص مصدوماً بلا موقف، يهرع لتقليب المحطات وأرقام الهواتف بحثا عن رأي يرشده أو ينقذه. يجده أخيراً بيد الداعية الشهير، ثم يسير يردده وقد يدافع عنه حد الموت، أما في داخله فيعلم تماماً أنه تابع غير مستقل أوكل مهمة التمييز والتفكير لأناس آخرين.

كيف صار للجمهور عقل واحد؟

لا تصدقوا أن في توحد الرأي دلالات لوحدة عربية فليس مثلنا أعداء لبعضنا. وقدموا كل شرح، لكني لن أصدق أن ذلك التوحد يتم عن وعي أو ينم عن وعي.

أراه أيضا عضواً في القطيع ذلك الذي لا يقرأ أو يخشى القراءة خوفاً على عقيدته من أن يصيبها الضعف. وتصنفه الطبيعة عضواً في القطيع ذلك المعلق بين السماء والأرض، الذي يصدق أي شيء. إنسان نسي أن في داخل رأسه مكانا للنقد أو الشك وقدرة على التمييز.

الذي لا يشك جزء مهم من القطيع.

رفضوا استشهادي بآيات التدبر والتفكير. ألم أقل لكم أني ليبرالية صائمة؟ لكنهم لا يمنحوا الحرية الحق في الصوم. لا يصدقوا أن ليبرالياً له علاقة مع الروح. الإيمان بتفكيرهم الأوحد مناقض للحرية. الإيمان لديهم منحصر في عبودية الوعاظ وأوراق المفسرين.

وأنا لا أزعم أن الكون أوكلني مهمة تصنيف البشر لكني أزعم أن اتصالي أقوى من اتصالهم مع الكون والسماء. لأني اتصل مع الله مباشرة من خلال القرآن فيما يتصلون به من خلال فلان وفلان وبن فلان.

ولا أزعم أني أتكبر على المجتمع، لكن ولائي له يجبرني على ممارسة الصدمات معه حتى يستفيق. لأن الثائرين مع الأسف لم يوقظوه، فقد قلبوا كراسي الحكم دون أن يقلبوا الفكر المجتمعي الذي أنتج أنظمة الحكم (ابنة المكان).

ما الفارق بيننا وبين الكائنات الحية الأخرى؟ الوعي هو الفارق. فإذا انعدم الوعي أو تنازل الإنسان عنه طوعاً يكون القطيع هو الوصف الأدق للحالة. فاغضبوا أو اصرخوا لكن آمل أن يكون تفكيركم بكلمة وعي أكثر من غضبكم وانشغالكم بكلمة قطيع. وكونوا كالقابض على دينه في زمن الارتداد والفوضى والتحولات.

Posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا | Leave a comment

رد جمال البنا على شاكر النابلسي

الأستاذ شاكر النابلسي يعرف شيئًا عن جمال البنا، ولكن ما يجهله عن جمال البنا أضعاف ذلك، وقد أوضحت كلماته الأخيرة إنه لا يعرف جمال البنا .

فمما يجهله أنني لم أقرأ ما كتبه عني، بل ــ وأرجو ألا يجد غضاضة في ذلك ــ لم أقرأ له هو شخصيًا شيئًا، ولا كلمة واحدة، ومما يجهله أنني لا أتابع ما يكتب عني، بل ولا أتابع أعمالي نفسها، فلا أعيد رؤية لقاء تليفزيوني، ولا مقال منشور، وكثيرًا ما يأتيني مندوبون عن صحف ويجلسون جلسات طويلة ويسجلون أحاديث عديدة ثم يمضوا، ولا أحاول بعد هذا أن أتعقبهم، إلا إذا اتصل بي أحدهم ليخبرني أن المقال نشر في العدد الفلاني .

ومما يجهله أنني لا أتابع الصحافة، ولا التليفزيون، ولا النت، لأنه ليس لدي وقت، وإذا تابعتها فلن أجد وقتًا للتأليف، وهو رسالتي الحقيقية، وفي كل عام هناك “كوتا” من الكتب يجب أن تصدر .

ومما يجهله أنني لا أرد على ما يقولـه الآخرون عني، أولاً لما ذكرت من أنني أصلاً لا أقرأها وفي الحالات القليلة التي أعلمها لا أرد أيضًا لأن النقد قد يعود إلى اختلاف المناهج، أو للارتباط بمصالح أو لمجرد التشويه، وكلها مما لا يتسع له، أو بما لا يستحق الرد، فلو قــال أحد الشانئين إن جمال البنــا لا يفهم شيئًا، أو أنه مدفوع من دولة ما، أو أنه غاوي شهرة، فهل أشرف مثل هذا الإسفاف برد ؟

لم أعلم بما كتبه الأستاذ النابلسي، أولاً ولا آخرًا إلا من صديقي الأستاذ سامح سامي وهو مراسل موقع شفاف الشرق الأوسط في القاهرة، فطلبت منه إرسال صورة لهذه المقالات، فأرسل لي آخر أيام رمضان 23/10 بالبريد الإليكتروني مقاله ” لا تعتـذر ” . 

بادئ ذي بدء أخذ الأستاذ شاكر النابلسي مفتاح حديثه عن جمال البنا من علم النفس، ومن “عقدة” الأب والشقيق، علم النفس علم ضال، متخبط ليس له معايير موضوعية، ولكن لـه تجارب عديدة ورغم أن بعض نتائجه لـه طابع “الظاهرة” التي قد تصل إلى شاطئ المعرفة العلمية، ولكنه بكل تأكيد يصدر أحكامًا اعتباطية، ومن منطلق نظرية افتراضية لا تنطبق على كل الناس، فضلاً عن أن

الاعتماد على منهج واحد لابد وأن يصم صاحبه بنظرة أحادية . 

لو أنه أخذ مفتاحه من واقعة عملية لا شك فيها، هي أن بعض أفراد هذه الأسرة يتسمون بعلو الهمة وقوة الإرادة والطموح و “الرسالية”، وهي ملكات نفسية ينعم الله بها على من يشاء وهذه كلها وقائع ثابتة، لكان هذا مفتاحًا سليما وواقعيًا .

الشيخ الوالد رحمه الله الذي فر من القرية، وتنازل عن قراريط من الأرض له لكي يتعلم وينذر حياته للمعرفة، والذي ما أن ألم بمفاتيح المعرفة الإسلامية في جامع القائد إبراهيم في الإسكندرية حتى بدأ مشروعًا لم يقم به أحد الأئمة الأعلام من المسلمين لمدة ألف عام !

ولكي يكون سيد نفسه، ولا يربطها بوظيفة تعلم تصليح الساعات، وهي حرفة لا تشغله ويمكن أن لا يمنحها من الوقت إلا ما يحقق له شيئًا من التغيير من القراءة والكتابة .

العمل الذي قام به هو تصنيف مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني الذي يضم قرابة عشرين ألف حديث رتبت على أساس الراوي وليس على أساس الموضوع، وكان هذا سببًا في عدم الاستفادة من هذه الموسوعة في استخراج أحكام فقهية .

حاول ابن كثير أن يرتبه ولكنه عجز وقال : “لا زلت أقرأ فيه والسراج ينونص حتى كف بصري” .

لم يقنع الشيخ الوالد بهذا العمل، ولكنه أضاف شرحًا لكل حديث يتناول السند، وغريب اللغة، والتخريج ثم الإحكام، وهذا الشرح يماثل المتن، ويزيد عليه .

استغرق هذا العمل من الشيخ الوالد خمسة وثلاثين سنة قضاها في مكتبه في عطفة الرسام المتفرعة من الغورية، بلا أضواء ولا شهرة، معتكفًا عن العالم بأسره .

الأغرب والأعجب أن هذا الرجل ــ المأذون الشرعي ــ الساعاتي ــ قام بطبع الكتاب على حسابه ! وأتم طبع 22 جزء، علمًا بأنه كان رجلاً فقيرًا يعول أسرة كبيرة .

هذا هو علو الهمة، أو هو الإيمان بدور يضحي في سبيله بكل ما يسعى الناس العاديين إليه، الشهرة، الثراء، المنصب .. الخ .

يماثل الشيخ الوالد في علو همته، وإيمانه بدور رسالي ابنه البكر الإمام الشهيد حسن البنا .

حسن البنا خريج دار العلوم، معلم الخط كما نبذه شانئوه، كان يمكن أن يكون معلمًا عاديًا، فما أكثر المعلمين في المدارس الابتدائية .

ولكنه كان الرجل الذي أقام “الإخوان المسلمين” وفرض بصمته على الدعوة الإسلامية في العالم أجمع، وأعاد الإسلام إلى صدارة المجتمع بعد أن وضع في ركن قصي، هنا أيضًا نجد علو الهمة والإيمان برسالة يُضحي في سبيلها بكل شيء .

جمال البنا أيضًا سار على الخط، ورزق الموهبة نفسها، وأراد لنفسه من البداية أن يكون كاتبًا، واطرح المجتمع البورجوازي بمثله المعبودة ( الوظيفة ، المنصب، المال، الاستماع،الأسرة، والأبناء .. الخ ) .

من طفولته وهو يقرأ، لأن صحته لم تكن تساعده على أن يلعب أو يكون له هواية، وكانت الهواية المناسبة والمفضلة هي القراءة، ويمكن القول أنه يقرأ من العاشرة حتى الآن، وأنه لو خيِّر بين كتاب ممتع، وعرض لملكات الجمال لفضل الكتاب، ولهذا استطاع أن يصدر أكثر من مائـة كتاب وهي وحدها شهادة لـه .

كان على الأستاذ النابلسي أن يأخذ نقطة انطلاقه عن جمال :

أولاً : الثقافة الموسوعية التي مكنته من أن يصدر كتبًا لها أصالتها في مجالات متعددة كالعمال والعمل النقابي، الدراسات السياسية، المواضيع الدينية الحركات الشعبية، عمالية أو نسائية أو جماهيرية لتحقيق العدالة والمشاركة في السلطة .. الخ، وكتبه شاهدة بذلك .

ثانياً : صفة الاستقلال، والاستقلال لا تعني بالضرورة المخالفة، ولكنها تعني بالدرجة الأولى عدم التبعية، وكان هذا في أصل عدم انتمائه إلى أي حزب أو هيئة، أو عدم ارتباطه بوظيفة، وقد تحمل صعوبات عديدة وأخذ نفسه بتقشف حتى لا يضطر ليمد يده، وأغناه الله من فضله في سنواته الأخيرة عندما تبرعت الشقيقة فوزية ــ رحمها الله ــ بثروتها التي آلت إليها نتيجة عمل أربعين عاماً هي وزوجها في السعودية، وكانت قرابة خمسمائة ألف جنيه أودعت البنك كوديعة يصرف من عائدها، وأنشأت مؤسسة فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي، وبهذا أمكننا أن نطبع وننشر كتبنا دون حاجة إلى معونة خارجية .

هذه يا أستاذ نابلسي نقط عملية كان يمكن أن ترتكز عليها في تحليل شخصية جمال البنا وهي كلها حقائق، لا أن تعود إلى فرض تخميني خاطئ علميًا ومرفوض أدبيًا .

لم يأخذ النابلسي منطلقه من هذه الحقائق الواقعية، ولكن آثر أن يلوذ بعلم النفس ويستخدم نظرياته الجدلية التي لا يمكن أن تثبت علميًا لأنها حكم على النفوس والسرائر طبقًا لقواعد وضعها فرويد نتيجة لتجاربه على المصابين باضطرابات عضوية ونفسية، وليس على الأصحاء، وبالتالي فإن كل أحكامها مشكوك فيها .

ولكن يبدو أن النابلسي آثره لأنه يمكنه من تشويه صورة جمال البنا بعد أن “فجع” فيه وظهر له أنه ليس من نـَـقـَـدة الإسلام، ولكنه من حماة الإسلام، وأن ثوريته إنما هي على حكم الفقهاء وليس على الإسلام نفسه الذي يؤمن به ويدافع عنه، وأنه ليس من الذين يصفقون لأمريكا، ولكن يحكم عليها بعملها، فادعى أن جمال البنا لم يجد سبيلاً للشهرة إلا بنقض أعمال أبيه وأخيه !!

في أي شرع يكون الاختلاف في الفكر وسيلة رخيصة للشهرة، وهل كان أرسطو عندما اختلف عن أستاذه أفلاطون يسعى للشهرة ؟، وهل أساء هذا إلى أرسطو أو أفلاطون ؟، وهل كل الفلاسفة والمصلحين الذين يعلنون آراء جديدة مخالفة لما يسير عليه الناس يبتغون الشهرة؟

الأستاذ النابلسي لا يعرف شيئًا عن العلاقة الخاصة جدًا بين الابن البكر وآخر العنقود ! كانت العلاقة بين حسن البنا وجمال البنا مشحونة بعاطفة حميمة تقوم على التقدير المتبادل، فأنا أرى في حسن البنا أحد المنظمين القلائل للجماهير، وهو في هذا يفوق لينين ــ المنظم الأكبر في العصر الحديث ـ 

وقد تحدثت عن حسن البنا في كتاب “ما بعد الإخوان” بما يفي بحقه من التقدير والإعجاب، كما تحدثت عنه في كتاب “خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه”، وكتبت ترجمة في قرابة ثلاثين صفحة إنصافًا للشيخ الوالد وتقديرًا لعمله العظيم وهمته العالية، وبالطبع لم يقرأ النابلسي هذين الكتابين .

فهذه كانت علاقتي بالوالد والشقيق، ولم يؤثر عليها تحفظاتي على الإخوان التي كنت أدلي بها في جلسات عديدة له، فكان يسمع ويبتسم دون أن يناقش أو يقبل أو يرفض ؛ لأنه يعرف أنه هكذا جمال البنا، له رؤيته الخاصة ولا أبالغ أنه كان يقدر هذه لرؤية، وروي لي الشيخ عبد العزيز الخياط الذي كان وزير الأوقاف الأسبق في الأردن أنه عندما كان يدرس العلم في الأزهر سنة 1946م دخل هو ومجموعة من زملائه على المرشد فوجدوه يقرأ في رسالة صغيرة كنت قد أصدرتها للتو بعنوان “على هامش المفاوضات”، أي المفاوضات التي كانت تدور بين صدقي باشا رئيس وزراء مصر ومستر بيفين رئيس وزراء بريطانيا، فقال لهم “تعلموا السياسة من هذا الشاب”، فقد كتب جمال رسالة حسنة عن المفاوضات .. الخ !!

كانت هذه هي العلاقة ما بين جمال البنا وحسن البنا علاقة لا يفهمها الذين لا يعلمون إلا علم النفس الفرويدي ويصدروا أحكامًا اعتباطية تحقق مآربهم، لأن نظرية “عقدة أوديب” و “عقدة اليكترا” وغيرها من العقد لا يحكم بها إلا معقدون! ولا يقوم لها قائمة إلا في سوق العقد، أما في مجال الحياة، ولدى الأسوياء، فهناك اعتبارات، وقوى أخرى .

وعندما يقول شاكر النابلسي “وجد جمال البنا أن أسهل الطرق إلى الشهرة والنجومية هي معارضة ونقض معظم ما قاله شقيقه حسن البنا”، فإنه يقول إفكًا ويثبت أنه ليس فحسب جاهلاً بالحقيقة، ولكنه أيضًا مغرض .

* * *

ما الذي جعل النابلسي ينقلب من المعجب بجمال البنا إلى معارض له ؟

لأن جمال البنا كتب مقالة بعنوان “لا راحة لأمريكا بعد اليوم” في أعقاب ذكرى أحدث 11 سبتمبر 2001م، لم يسر فيها مع القطيع، ولا مع مستر بوش وهجومه على الفاشـية الإسلامية، ولكنه صعد الموضوع إلى ما سبق 11 سبتمبر، إلى السياسة الأمريكية التي أغرت صدام حسين بإعلان الحرب على إيران وزودته بأسلحة الدمار الشامل، وقام صدام كأي ديكتاتور غبي بالمهمة التي استنزفت ثروة العراق وأجهضت الثورة الإيرانية الصاعدة، ثم أغرت مرة ثانية صدام بغزو الكويت عندما لوحت لـه السفيرة الأمريكية بعدم وجود معاهدة مع الكويت فانطلق هذا الثور الهائج ليجتاح الكويت، وعندئذ أخذت أمريكا تحصد ثمرة مؤامرتها على المنطقة فأسرعت لنجدة الكويت والسعودية وأرسلت جنودها لتحتل قواعد في هاتين الدولتين، تقوم الدولتان بدفع تكلفتها، ولم يكن من المناظر السارة أن يشهد أي واحد عربدة الجنود والمجندات الأمريكيين، في اقدس الأماكن، ثم عمدت إلى تصفية المكاسب الهزيلة التي كانت القضية الفلسطينية قد حصلت 

عليها في أوسلو وأيدت السفاح شارون وقال عنه بوش أنه رجل سلام، وساندت إسرائيل في سياساتها الوحشية وتحدت العالم كله في

ذلك .

كانت مجموعة من الشباب المسلم ترقب هذه السلسلة من المؤامرات الأمريكية التي انتهت بالهيمنة الأمريكية الكاملة على المنطقة العربية، وأرادت أن تعطي أمريكا درسًا فأحكمت هذه الخطة “المريعة الرائعة” كما ذكرت، وقلت أنها مريعة لأنها أدت إلى قتل ثلاثة آلاف مدني، وأنها رائعة لأن إخراجها ما كان يمكن لأي مخرج سينمائي أن يصل إليه .

لم يذكر النابلسي كلمة ” المريعة ” التي سبقت الرائعة، ولكنه ذكر الرائعة فحسب وفسرها كما يشاء، لا كما يوحي به السياق .

قلت بعد هذا أن حوادث 11 سبتمبر فتحت مجالاً جديدًا للمقاومات الشعبية لم يكن معروفًا ولم يطبق إلا في حالة فلسطين التي لها ظروفها الخاصة جدًا، وقدمت (أي أحداث 11 سبتمبر) مثالاً يمكن أن يتبع عندما تضيق الشعوب باستبداد حكامها، فلا تجد إلا هذه الطريقة، وبهذا فلن يكون لأمريكا ــ ولكل الدول المستبدة ــ راحة بعد اليوم .

إن أمريكا ذات التاريخ الأسود من استئصال أهل أمريكا الأصليين واغتصاب أرضهم، مرورًا باسترقاق شباب أفريقيا وتسخيرهم في زراعتها حتى إلقاء قنبلتين نوويتين افتراءً وعتوًا واستعلاءً عندما كانت اليابان على استعداد للتسليم ، إن أمريكا هذه عليها أن تراجع تاريخها قبل أن تندد بالإرهاب المزعوم .

افهم أن هذا لا يعجب النابلسي المستظل بالحماية الأمريكية، ولكنها رؤية لا يستطيع أحد أن يقول أنها زائفة أو مختلقة أو لم تقم على أسس .

لقد تقبلنا أن تتدخل أمريكا في العــراق التي كان يحكمها طاغية شرير أرعن، ولم يكن هذا ممكنًا بعد أن فشلت كل الجهود العربية، فجاء بوش ــ وهو أكثر رعونة من صدام ــ وخلص العراق منه .

كانت أمريكا يمكن أن تدخل كمحررة، ويمكن أن يلقاها الشعب العراقي بالورود، ولكنها طبقت سياسة “الكاوبوي” الفجة، الفظة، فخسرت تأيد الشعب العراقي وقبلت أن تكون “محتلة” ومزقت الشعب ونهبت موارده، فأين هذه السياسة من سياسة بريطانيا في عشرينات القرن الماضي عندما أرسلت “جرترود بل ” للعراق لإعداده ليكون الملك فيصل ملكًا تحت الانتداب البريطاني، فقامت بهذه المهمة خير قيام ووحدت العشائر، وحمت التراث والآثار العراقية التي كانت راعية له، وهي الآثار التي نهبت “عيني عينك” في الأيام الأولى للاحتلال .

* * *

نحن لم نتغير يا سيد نابلسي إن روح جمال البنا واحدة في كل كتاباته ضد السياسات الاستعمارية قديمًا وحديثًا، ضد الغطرسة، وضد سياسة تريد أن تفرض سيادتها وهيمنتها على العالم بقوة الســـلاح، وأنها تستطيع أن تدمر وتقتل .

نحن لم نتغير يا سيد نابلسي وإنما الذي تغير هو أنت وبنسبة 180 درجة من مؤيد لجمال البنا إلى شانئ له لمجرد كتابه مقال ندد فيه بسياسة مستر بوش وصقوره .

وندع للقراء أن يفهموا دلالة هذا الانقلاب .جمال البنا – مفكر حر

Posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا | Leave a comment

الوشم

الآن

في الساعة الثالثة من القرن العشرين

حيث لا شيء

يفصل جثثَ الموتى عن أحذيةِ الماره

سوى الاسفلت

سأتكئ في عرضِ الشارع كشيوخ البدو

ولن أنهض

حتى تجمع كل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين

في العالم

وتوضع أمامي

لألوكها كالجمل على قارعة الطريق..

حتى تفرَّ كلُّ هراواتِ الشرطة والمتظاهرين

من قبضات أصحابها

وتعود أغصاناً مزهرة مرةً أخرى

في غاباتها

أضحك في الظلام

أبكي في الظلام

أكتبُ في الظلام

حتى لم أعدْ أميّز قلمي من أصابعي

كلما قُرعَ بابٌ أو تحرَّكتْ ستاره

سترتُ أوراقي بيدي

كبغيٍّ ساعةَ المداهمه

من أورثني هذا الهلع

هذا الدم المذعور كالفهد الجبليّ

ما ان أرى ورقةً رسميةً على عتبه

أو قبعةً من فرجة باب

حتى تصطكّ عظامي ودموعي ببعضها

ويفرّ دمي مذعوراً في كل اتجاه

كأن مفرزةً أبديةً من شرطة السلالات

تطارده من شريان إلى شريان

آه يا حبيبتي

عبثاً أستردُّ شجاعتي وبأسي

المأساة ليست هنا

في السوط أو المكتب أو صفارات الإنذار

إنها هناك

في المهد.. في الرَّحم

فأنا قطعاً

ما كنت مربوطاً إلى رحمي بحبل سرّه

بل بحبل مشنقة

‎محمد الماغوط (مفكر حر )؟

Posted in الأدب والفن | Leave a comment

قصة و حكمة من زياد الصوفي.. 88

القصة:

اللي بيعتقد أنو بيقدر يحدد سلوك الشبيحة بيكون كتير غلطان..

كل المصابين بجنون العظمة أو اللي باللادقاني ما شايفين حدا قدامهون، ما ممكن انسان يقدر يتوقع ردات فعلهون..

بالوقت اللي بتكون منتظر موتك منهون، بتكون ردة فعلهون أفل بكتير من المتوقع، و بالوقت اللي بيكون الموضوع ما بيستاهل بتلاقيهون سحبو سلاحهون و جاهزين لقتلك..

حكاية اليوم بتشرح ردات فعل الشبيحة و خصوصي بيت الأسد منهون..

مؤسسة الاسكان العسكري فرع اللادقية، من يوم اللي تأسست هية وكر لأكبر لصوص الدولة و شبيحة المال..

و المليارات اللي مفترض عم تدخل على خزائنهون نتيجة المناقصات اللي بيدخلوها، كانت ممكن تعمل هالشركة أكبر مقاول و مطور عقاري بالعالم..

و مع ذلك كل المال اللي بيدخل بيروح لجيوب المستفيدين من المدراء المتعاقبين على إدراة هالمؤسسة و الحاشية الموجودة..

لما بتتطلع على سيارات مهندسين هالشركة، ما بتصدق كيف ممكن مهندس قضى كل عمرو بالدرس، ينتهي فيه الحال بسيارة بيك أب بهالشكل..

أبو رامز واحد من هالمهندسين غير المحظوظين و اللي بعد علة قلب بالجامعة اتخرج و صار مهندس بمؤسسة الاسكان فرع اللادقية..

بوحدة من مهامو الموكلة ألو، سايق هالبيك اب القرقوعة و نازل عند دوار اليمن ( محطة القطار) ..

بلحظة عبور سيارتو، بتوقف بأرضها و بيتكربج و لا حياة لمن تنادي..

من قلة حظو لأبو رامز، فواز الأسد ماشي وراه بأحد جولاتو التفقدية على ولاية اللادقية..

بلحظة موت البيك اب، بيسمع أبو رامز بضربة قوية من ورا، لما بيتطلع بالمراية مين ضربو، بيشوف أبو جميل بال BMW البيضا الجديدة و الدهشة على عيونو..

من خوفو المسكين، كان رح يلحق موت سيارتو، و ما بقا يعرف شو رح يعمل و شو اللي ناطرو..

بينزل من السيارة و بوجهو لعند أبو جميل، و الموت برصاصة طائشة هوة اللي متوقعو..

ما تواخزنا استاذ فواز، بس و الله السيارة شوفة عينك ماتت لحالها و من قلة حظي أنو سيارتكون كانت ورايي.. أنا جاهز يا معلم لأي شي بتقررو..

ولك شبك شبك خايف؟؟؟ حديد بحديد، روح الحمدالله عالسلامة و دير بالك و هنت ما اتسوق مرة تانية..

أبو رامز و كل الناس الواقفين و شرطي المرور اللي ركض على مكان الحادث، ما صدقو اللي سمعوه و اللي شافوه بعيونهون..

أبو جميل وقع على صك غفران لأبو رامز بعد ما كسرلو سيارتو الجديدة و هوة بنفس الوقت ممكن يعمل جريمة قتل منشان أبسط الأشياء..

بتخلص الحكاية على خير و ما بيترك أبو رامز حدا من صحابو و من أهلو و من زملاءو إلا حكالو قصة هالابضاي فواز و كيف نحنا كنا ظالمينو لهالانسان الكبير..

تاني نهار و بطريق أبو رامز عالورشة، اضطر يمر بدوار اليمن مرة تانية..

بيوقفو الشرطي: استاذ ما انت اللي ضربتو مبارح للأستاذ فواز؟؟؟ و الله يا استاذ بعد ساعة من الحادثة أجو مرافقينو لأبو جميل و نكشو الدنيا بدهون ياك..

بعد ما وصل أبو جميل على بيتو و اكتشف أضرار سيارتو، جن جنونو و بعت المرافقين لحتى يدورو عليه للباش مهندس و يجيبوه موجودا..

يا شحارك يا أبو رامز على هالعلقة..

بيتصل مديرو بالورشة، و بيطلب يجي فورا على الادارة.. هون عرف أنو النهاية اللي كان متوقعها مبارح اتأجلت بس يوم واحد..

بيوصل على كراج الشركة، بيشوف كل بيك أبات الشركة سابقينو، و فواز الأسد و كلابو واقفين بالكراج عم يفتشو عن السيارة القليلة الحظ..

ايه الحمدالله عالسلامة يا استاذ.. و ليش ما قلتلي مبارح أنو الضربة كبيرة و سيارتي صارت للكب…

والله يا استاذ فواز أنا حاولت خبرك بس كرمك مبارح ما خلاني كفي حكايتي معك..

عكل حال بلا كتر حكي.. سيارتي جديدة و صارت للكب و أبقا بسوقها اتشاءمت منها..بدي سيارة جديدة متلها..

سيارة أبو الفوز BMW 750 بيضا موديل سنتها، و بهداك الوقت بنهاية التسعينات كان سعرها مع جمركها 10 مليون ليرة..

من عيوني يا استاذ، و الله لبيع كلشي بملك و اشتريلك ياها..

و لك له له.. هنت مهندس عقد حالك، و من وين رح تشتري هيك سيارة و هنت يا دوبك راتبك أبيكفي تاكول خبز، أنا رح خبر مدير الاسكان و هوة بيعوضني عحساب المؤسسة و يشتريلي متلها..

هادي القصة بتوضح لكل أهل اللادقية يوم اللي كانو يتساءلو: ليش فواز عندو سيارتين نفس النوع و نفس اللون و بيمشي فيهون سوا كل يوم..

و بتوضح ردات فعل الشبيحة كيف بتكون..

و بتوضح أكتر، وين مصاري مؤسسة الاسكان عم تروح..

الحكمة:

إذا خسر أبو جميل ورقة اليانصيب و ربحها فلان..

عادي و ما بيتاكل همها، بتعوضو مؤسسة الاسكان…زياد الصوفي – مفكر حر؟

Posted in الأدب والفن, ربيع سوريا | Leave a comment

كنتور نعيمة

 لو كان صورة الدولاب “الكنتور” الذي تسكن فيه نعيمة محسن مع ثلاثة بنات من احفادها منشورة في الصومال او ارتيريا او حتى في قرية شمالابور الهندية لما استغرب القوم فشعوب هذه البلدان وغيرها اعتادوا العيش في كراتين وياكلون من المزابل حتى انهم لايقبلون الان اي تغيير في حياتهم من قبل حكوماتهم المشبعة بالانانية.

ولكن هذه الصورة ياناس منشورة في صحف العوراق.. هذاالعوراق الذي اتخم حد اللعنة بالدولارات ومازالت نعيمة وغيرها يعشن في الكراتين.

لنحتكم الى ضمير المالكي ونساله كيف ترضى وانت راعي هذه الامة لامراة تعيش هي وثلاثة من احفادها في دولاب؟.

نعيمة طاعنة في السن،اضطرت بعد سقوط الامطار في كربلاء ان تلجا الى الاستعانة بدولاب كارتوني لتسكن فيه مع احفادها بعد ان جرفت الامطار بيتها المتواضع.

نعيمة من تلكم العراقيات اللواتي ابتلين بالنكد الذي يظهر بين حين واخر خصوصا وان حكومتنا الموقرة لاتعرف اصلا بان هناك امراة تدعى نعيمة بل ان بعضهم يعرف جيدا مادلين مطر وهيفاء وهبي و… استغفر الله العظيم.

توفي زوج نعيمة بعد صراع طويل مع المرض ثم توفيت ابنتها لتترك لها 3 بنات لاتعرف كيف تهيؤ لهن سبل العيش،ثم جاءت الامطار لتكمل على ماتبقى ولم يكن امامها سوى السكن في داخل دولاب هي والبنات الثلاثة بعد ان تبرع اهل الخير بتنظيمه.

دولاب او كنتور نعيمة الان يقبع في مكان منفرد مابين حي شهداء سيف سعد وحي النصر في كربلاء.

هل نتجاوز بالقول اذا صببنا جام غضبنا على اصحاب العمائم؟ هل نعذر هؤلاء الذين ياتون اسبوعيا الى المراقد المقدسة ليجمعوا اطنان الدنانير في شوالات (كواني) كبيرة الحجم؟ الا يستحي هؤلاء حين تقول نعيمة انها ومنذ ان سكنت في هذا الكنتور لم يزرها احد من المسؤولين.

اما يستحي هؤلاء؟ لماذا يستحون يانعيمة فالوقت عندهم

من الذهب بل هو الذهب نفسه.

اسالك، بالله عليك يانعيمة، ايهما افضل ان يزوروك ويبحثون احتياجاتك انت والقوارير اللواتي يسكن معك ام يبداون صباحهم بالتدقيق في المشاريع غير المكتملة والمشاريع المقبلة وكم حصتهم فيها؟.

كلنا، وانت واحدة منا، نعرف الاجابة.. فهم يعرفون الله اذا فتحت لهم ابواب النهب والسلب ولايعرفون نعيمة بعد ذلك الا اللهم حين يزورهم احد كبار المسؤولين بعد ان يعرف القصة ماسكا العصا ليضربهم على مؤخراتهم الواحد تلو الاخر.

حينها ستعيشين يانعيمة في بيت مجاور لبيت السيد المحافظ ومابين الساعة والساعة ياتيك” عضو” من مجلس المحافظة ومن وراءه سائقان يحملان لك مالذ وطاب وحين ترفضين يحلف بالطلاق اذا لم تقبلي هذه الهدية.

وتضحكين يانعيمة في سرك فانت تعرفين جيدا ان هذا”العضو”غير متزوج وبعدها ياتيك مدير البلدية بعد ان ادى صلاة الجمعة ليريك خرائط السكن ويطلب منك بل ويتوسل ان تختاري اي قطعة سكنية والتي سيبنيها باقل من لمح البصر.

وليس غريبا ان ياتي اليك احد النواب عن كربلاء حاملا لك المشروبات الباردة من سفن اب وكوكا كولا وميرندا وعصير العنب الجاف ولا تستغربي حين يعود الى بغداد ويصرح في مؤتمر صحفي بانه تولى بنفسه حل مشكلتك.

فاصل : يرحون فدوى كل ساكني المنطقة الخضراء وكل المرجعيات التي تدعي النبل والطهارة وكل مسؤول متنفذ في مجلس محافظة كربلاء لدمعة من دمعات نعيمة.تواصل مع محمد الرديني فيسبوك

Posted in الأدب والفن, فكر حر | Leave a comment