هل اخترع تشارلز ديكنز عيد الميلاد؟

بقلم رياض عصمت/
لعل شهرة الأديب البريطاني تشارلز ديكنز تلي في الأهمية مباشرة شهرة وليم شكسبير، لكن كثيرين لا يعرفون أن حياة هذا الأديب الذي صور بإتقان مذهل عالم اليتامى والمحرومين حفلت بالرغم من الازدهار والنجاح الظاهريين بكبوات مادية وعاطفية مريعة. هناك أديبات وأدباء في العالم تفوقوا برواية واحدة مشهورة وحسب، أما تشارلز ديكنز فكان غزير الإنتاج بحيث اشتهر بعدة روايات خالدة ترجمت إلى مختلف لغات العالم، وظلت خالدة في القرن الحادي والعشرين بين الكتب الأكثر مبيعا وتداولا وقراءة. بذلك، يعتبر ديكنز عن جدارة تامة قرين فكتور هوغو عند الفرنسيين، وفيودور دوستويفسكي عند الروس. نذكر من أعمال ديكنز التي جلبت له شهرة فائقة على طرفي المحيط الأطلسي خاصة: “أوليفر تويست”، “قصة مدينتين”، “الإرث العظيم”، “ديفيد كوبرفيلد”، “أوراق بيكويك”، “نيكولاس نيكلبي” و”ترنيمة عيد الميلاد”.
سبق أن عرفت صديقا أميركيا دأب طوال سنوات عديدة على جمع أفراد أسرته وبعض أصدقائه المقربين في فترة عيد الميلاد ليقرأ عليهم رواية ديكنز “ترنيمة عيد الميلاد” عن الثري البخيل المدعو سكروج، والذي يحوم حوله شبح شريكه الراحل مارلي ويقوده إلى فعل الخير قبل أن يداهمه الموت، فينقذ حياة ابن موظف يعمل عنده. لا شك أن هذه الرواية الأخلاقية/ الإنسانية تركت أثرا عميقا في الوجدان الاجتماعي. الجدير بالذكر، لا يمضي عيد الميلاد إلا وتعرض “ترنيمة عيد الميلاد” على بعض مسارح الولايات المتحدة الأميركية. يحتفي مسرح “غودمان” في شيكاغو بإحيائها، لكن فرقا عديدة أخرى في مختلف أرجاء الولايات المتحدة وبريطانيا تقدم المسرحية المقتبسة عنها بأشكال عديدة. ليست جاذبية هذه الرواية للمسرحة استثنائية بين أعمال ديكنز، فروايته “أوليفر تويست” اشتهرت بتحويلها إلى ميوزيكال “أوليفر” ذائع الصيت، وروايته “نيكولاس نيكلبي” اقتبستها مسرحياً “فرقة شكسبير الملكية” في القرن العشرين، وكذلك رواية “الإرث العظيم” (التي نشرت باللغة العربية تحت اسم “الآمال الكبيرة”) قدمت بأكثر من إعداد مسرحي. أما سينمائياً، فتعتبر روايات تشارلز ديكنز من أكثر الأعمال الأدبية إلهاماً لكتاب السيناريو والمخرجين، بحيث أنتجت من رواياته الشهيرة عدة أفلام، حصد عديد منها نجاحاً فائقاً، من إبداعات ديفيد لين إلى روبرت زيميكس.
أنتجت “ترنيمة عيد الميلاد” سينمائيا خمس مرات من قبل، إلى أن ظهر فيلم “الرجل الذي اخترع عيد الميلاد” (2017)، وذلك نقلا عن كتاب ألفه كاتب يدعى لِس ستانديفورد، حولته إلى سيناريو الكاتبة سوزان كويين، وأخرجه المخرج الهندي بهارات نالوري. يتناول هذا الفيلم الإيحاءات الحياتية التي ألهمت ديكنز حبكة روايته الأقصر قاطبة. أما أشهر فيلمين سابقين عن رواية ديكنز هذه، فأولهما أنتج في عام 1984، ولعب بطولته جورج سكوت وفرانك فينلي، والآخر أنتج في عام 2009 ولعب بطولته جيم كاري، غاري أولدمان وكولن فارث. أما فيلم “الرجل الذي اخترع عيد الميلاد” (2017) ففيلم مبتكر يضفي أبعادا جديدة إلى الحكاية الأصلية، ولربما صح أن نسميه “ما وراء الحكاية الأصلية”. يقدم الفيلم الفن البريطاني بمستواه الراقي، خاصة وأن معظم أبطاله ممثلون مخضرمون جاؤوا من المسرح الشكسبيري، وفي طليعتهم كريستوفر بلومر (87 عاما) وهو النجم الذي عرفه العالم شابا في فيلم “صوت الموسيقى” (يلعب دور سكروج)، جوناثان برايس (يلعب دور والد ديكنز،) سايمون كالو (يلعب دور الرسام)، وأخيرا وليس آخرا الممثل دان ستيفنز (الذي أدى بحيوية وإتقان شخصية تشارلز ديكنز). نضيف إلى هؤلاء ممثلين سينمائيين وتلفزيونيين، وليسوا مسرحيين، مثل جوستين إدواردز (لعب دور فوستر، صديق ديكنز المقرب)، والممثلة مورفيد كلارك (لعبت دور زوجة ديكنز). تميز الفيلم أيضا بتصويره البديع من قبل بن سميثهارد، وموسيقا ميكيل دانا.
يفتتح الفيلم بديكنز وهو في أوج انطلاقته يظهر على خشبة مسرح في الولايات المتحدة عام 1842، ليستقبله جمهور حاشد بحماسة منقطعة النظير، وخلفه يبدأ استعراض باذخ مستوحى من روايته ذات الشهرة الكاسحة “أوليفر تويست”. لكن ذلك المشهد يتضمن سخرية لاذعة من تحويل الأدب إلى تجارة.سرعان ما يلي ذلك رؤيتنا لتشارلز ديكنز في لندن وهو يواجه مع زوجته وأطفاله الصغار خطر الإفلاس، ويعاني من استغلال وتقتير الناشرين، ويضطر للاستدانة من صديق مخلص ومقرب لأن النجاح يجانب بضعة أعمال أدبية له آنذاك، ثم يصاب ديكنز بتلك اللعنة التي تصيب كثيرا من مشاهير الكتاب وهي لعنة “جمود منابع الإلهام” بحيث يعجز عن كتابة عمل جديد. هنا، ونتيجة الحاجة المادية، يحاول ديكنز أن ينال عقدا مسبقا مع ناشر عن رواية حول عيد الميلاد، رغم أن فكرتها ما تزال غامضة في ذهنه. كان عيد الميلاد آنذاك – كما يذكر الفيلم – عيدا مغمورا في بريطانيا، لكن خيال ديكنز يجسد له عدة شخصيات توحي له بتفاصيل روايته الرائعة “ترنيمة عيد الميلاد”، التي أنجزها في العام 1843. أول تلك الشخصيات نادل في مطعم فاخر يوحي له بشخصية البخيل سكروج، ويظهر له كطيف ليتجادل الاثنان بشكل يودي بديكنز لإعادة صياغة ختام روايته. ثاني شخصية تظهر في واقع ديكنز هو محام بخيل منفر المظهر والسلوك يوحي له بشخصية شريك البخيل المتوفى الذي يتراءى شبحه لسكروج ويقض مضجعه. أما ثالث إلهام فيأتي من شخصية حقيقية تعيش ضمن واقع ديكنز الحياتي، وهي مراهقة آيرلندية تسلي أطفاله الصغار بحكاياتها، وهي تصر على ديكنز بعفوية وبراءة حين يستشيرها في أن يحوِّل سكروج في نهاية روايته إلى إنسان رحيم ينقذ حياة طفل مريض. هناك شخصيات ثانوية عديدة أخرى يستلهمها ديكنز ممن يقابلهم في حياة لندن العامة من شخصيات، ومما يشاهد بأم عينيه في شوارعها من بؤس وفاقة وحرمان، وأيضا من تكبر وصلف. لكن حياة لندن ليست أرستقراطية بالكامل، فهناك مسرح العرائس، وهناك البارات الشعبية. هناك شخصيات عديدة تظهر لديكنز خلال الفيلم كأطياف أو كأشباح، وهي في الحقيقة من نسخ خياله. في الواقع، يمزج مخرج الفيلم بمهارة بين الواقع والخيال، فيمتعنا ويشوقنا في آن معا. هكذا، نرى ديكنز في أحد المشاهد يذهب مناشدا أحد مشاهير الرسامين أن يرسم صورا كي ترافق طبعة كتابه الأولى، لكنه لا يتوانى في مشهد آخر أن يجادله معترضا على شكل الشبح، ويطلب منه إعادة رسمه ليكون شبحا طيبا وسمح الملامح بحيث يعبر عن روح عيد الميلاد. كما نرى مشهدا خياليا برمته حين ينزل ديكنز شخصية سكروج داخل قبر محفور تضغط جدرانه عليه لتسحقه وتدفنه حيا، لكنه سكروج يناشده كي يمنحه فرصة أخرى، فيفعل. هكذا، يقوم سكروج بفعل يتناقض مع كل سلوكه الأناني السابق، ونرى روح الرحمة الإنسانية تغير حتى أسوأ البشر طباعا، وتحوله إلى فاعل خير نبيل. بقي أن ننوه ببراعة الحوار الرشيق والأنيق للفيلم، والذي تتميز به السينما البريطانية. لا شك أن تشارلز ديكنز بإبداعه رواية الأشباح “ترنيمة عيد الميلاد” أعطى عيد الميلاد زخما هائلا في المجتمعات الأنغلوساكسونية، بحيث أطلق على الفيلم بحق عنوان “الرجل الذي اخترع عيد الميلاد”.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال

This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.