من الحركة البروتستانتية إلى العلمانية السياسية

صلاح سالم
إذا كانت حركة الإصلاح الديني، التي دشنها مارتن لوثر في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 1517، ويحتفل العالم بمرور خمسة قرون عليها، أحد أكثر الأحداث تأثيراً في تاريخ العالم الحديث لا المسيحية فقط، فبروز الدولة القومية السائرة على درب العلمانية والديموقراطية أحد أبرز نتائج تلك الحركة الكبرى.
لقد أراد لوثر تقويض سلطان البابا، ولكنه قطعاً لم يهدف إلى هدم الكنيسة الكاثوليكية، ولا تقويض الإيمان المسيحي كما ادعى البابا، بل كان يعتقد، مثل جون كالفن، أن الكنيسة ذات أصل مقدس، واستشهد كثيراً بتراثها ولاهوتها في دفاعه عن مواقفه التي اعتبرها تصحيحية. كان لوثر كأي معارض فكري أو سياسي ينشد تعديلاً في قضايا جدلية، غير أن مسارات الأحداث سرعان ما تذهب بالمصلح إلى نقطة أبعد كثيراً عما كان يخطط له. لقد وجه مطالبه أولاً إلى الطبقة الأعلى من الأكليروس، أملاً بكسب مواقفها لمصلحة رؤيته، بما يضطر البابا إلى قبولها، فيجري الأمر وكأنه إصلاح داخلي، وعندما فشل في إقناعهم سمح بإنشاء مؤسسات كنسية منفصلة عن سلطة البابا، على أساس أن المسيحية الأولى عبرت عن نفسها بإخلاص من دون سلطة بطريركية لم يكن لها وجود أصلاً، ومن ثم وقع الانفجار وصارت البروتستانتية حركة انشقاقية، ولدت من رحم الكنيسة الكاثوليكية التي جسدت المسيحية مراراً حتى صارت كأنها هي، فلم يكن غريباً أن تعتبر البروتستانتية محض هرطقة.
والواقع أن لوثر لم يكن مهرطقاً ولا مارقاً، كما لم يكن كذلك نتاجاً مباشراً لحركة النهضة الأوروبية التي نمت قبيل اندلاع حركته، وعلى هذا لم يكن رسولاً للعقلانية، ولا داعية للحرية الإنسانية بل إنه، حين قوي مركزه وتوطد نفوذه، طالب الدولة بأن تفرض ما يبدو لها رأياً سليماً، وأوجب على الناس أن يطيعوا أميرهم في أمور دينهم، وليس فقط في أمور دنياهم، وصرح بأن غاية الدولة حماية الدين من المارقين، وجاهر بإعدام طائفة «الأناباتيست» بعد انسلاخها عنه. ولما تبين له أثناء ثورة الفلاحين أن الرجال الأحرار كانوا يريدون المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والنعيم على هذه الأرض، رفض ذلك وأخضعهم لنوع من الوساطة مع الله عبر كنيسته هو «اللوثرية» التي صار لها قوانينها الخاصة ومعتقداتها وأساقفتها.
المفارقة الكبرى أن حركته أفضت إلى توسيع وتعميق الطريق الذي أفضى إلى تلك المسارات جميعها، ولعل هذا هو دهاء التاريخ، الذي يسير إلى مقصده الأسمى عبر كوى صغيرة ونوافذ ضيقة يتم فتحها في لحظة مناسبة، فإذا بضوء نافذ فريد يعم الأركان ليبدد ظلام الكهوف، حيث أفضت جهود لوثر وكالفن وزونغلي، رواد حركة الإصلاح الكبار، إلى تفكيك السلطة البابوية، وبذر حبوب الدولة القومية وصولاً إلى العلمانية السياسية، وذلك بتمزيقها الوحدة الشكلية التي أبقت عليها المسيحية الكاثوليكية نحو ألف عام، بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديين، وعاشت خلالها أوروبا ما اصطلح على تسميته بالعصور الوسطى المظلمة، في حالة من التجانس الثقافي العام كحضارة مسيحية تحت إمرة الإمبراطورية الرومانية، على أرضية بنية إقطاعية.
نعم، استمر الله رب الأوروبيين أجمعين، بعد حركة الإصلاح كما قبلها، ولكن الممارسة العملية في الحياة اليومية دفعت الكنائس القـــومية الجديدة، التي تخضع لسلطان حاكم إقليمي، إلى التوقف عن الإسهام في الحياة الدينية كما كانت الكنيسة الكاثوليكية قد رسختها. فالبـــروتستانتية، خصــــوصاً في صورتها اللوثرية، عملت كدعامة لتعزيز المشاعـــر الوطنية لأبناء الدول الإقليمية الجديدة. ففي كل المناطق التي انتصــرت فيها، صار الأمير رئيساً للكنيسة، واعتُبر رجال الدين مجرد مساعـــدين له، وتحولت الممتلكات الكنسية جزئياً إلى ملكية الدولة، ولم تعد تنهض بمهمة جمع الضرائب لمصلحة البابوية في روما.
وأفضى غياب الرئاسة العالمية- البابوية عن المذهب البروتستانتي، إلى تطابقه مع الشعور القومي الوليد آنذاك. ففي بريطانيا، مثلاً، كان الملك هو رأس الكنيسة الأنغليكانية (نشأت في أعقاب انعقاد مجمع لاترانت، على سبيل التوفيق بين العقائد الكاثوليكية الأساسية والكنائس البروتستانتية القومية). كما كان المذهب البروتستانتي أكثر تواؤماً مع حركة الفكر العقلاني، حيث كان رجال الدين البروتستانتي يقبلون على التعليم في الجامعات المدنية ومن ثم كانوا أكثر تأثراً بالتفكير العقلاني الجديد، وأكثر من الكاثوليك استيعاباً للثورة العلمية البازغة.
وقد عمّق التفكير العقلاني هذا نزعة التحرر لديهم، كما زاد عدد الطـــوائف التي شكلوها تعبيراً عن تصوراتهم العقدية، وإن لم يصل الحــــال إلى الحرية التامـــة للعقيدة، حيث كان الملحدون يعانون الاضطهاد على نـــحو يضطرهـــم إلى عدم إعلان إلحادهم، وهو أمر استمر حتى شيوع فلسفة التنوير بعد ذلك بقرنين على الأقل، كما استمر الكاثوليك يعانون الاضطهــــاد فـــي مناطق الغالبية البروتستانتية، مثلما كان البروتستانت يعانون الاضطهاد ذاته في مناطق الغالبية الكاثوليكية.
ومع أن الحروب الدينية وآخرها حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) التي اختتمت بمعاهدة وستفاليا، مثلت نتيجة سلبية لحركة الإصلاح البروتستانتي أُريق في سياقها كثير من الدماء، خصوصاً لطوائف مثل الأناباتيست والهوغونت والجزويت، فإنها فتحت الطريق واسعاً لبناء الدولة القومية، بعدما باتت فكرة الوحدة السياسية والفكرية للعالم المسيحي مجرد ظل لماض مظلم، خصوصا أن المعاهدة الناجمة عنها هي التي وضعت الأساس القانوني لهذه الدولة، عندما اعترفت بأن كل دولة «صاحبة سيادة» علي أراضيها، وأي تدخل في شؤونها الداخلية خرق للقانون الدولي. ومن ثم حدثت النقلة الكبيرة على صعيد علاقة الإنسان الأوروبي بالأرض، والأرض بالسلطة، والسلطة بالدولة، ما سوف يفضي بعد قليل إلى ميلاد نظريات العقد الاجتماعي التي سعت إلى إعادة تأسيس السلطة السياسية على قواعد أرضية لا تنبت من حق إلهي مقدس، بل من إرادة عامة لجماعة إنسانية.
وعلى رغم أن الدول القومية كانت مستبدة ومطلقة، أي بمثابة تنين بحسب وصف توماس هوبز، وهو ما جسده لويس الرابع عشر، لكن استبدادها صار أرضياً، علمانياً، دنيوياً، ومن أفق بشري، سرعان ما استجاب إلى حس التاريخ ومطلب العدل بين حقوق الحاكم والمحكومين، خصوصاً لدى جون لوك، الذي منح البشرية عقداً اجتماعياً تحررياً، وألهمها نموذج الديموقراطية التمثيلية.
نقلا عن “الحياة”

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.