سيلان الكلام وعقم المرام!

ropiraqueعلي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

الجنون حالة من الإنحراف الفكري يصاحبها سلوك غير سوي يجعل المرء يقدم على أفعال تحالف طبيعة العقل الفطري السليم وما هو متعارف عليه بين البشر. والجنون نوعان وقتي حيث يولد الإنسان عاقلا ثم يجن بسبب حالة أو موقف ما، وقد ينتاب الإنسان في حالات معينة وما لا يلبث ان يعود المرء الى صوابه ويتصرف بشكل سليم. والثاني هو الجنون الدائم الذي لا يفارق سلوك المرء لغاية وفاته، والجنون في الحالتين يعتبر نوعا من الإضطراب في وظائف الدماغ. هناك من أعتبر بعض الصفات البشرية مرادفة للجنون وسميت بالجنون الخفيف كالحمق والغباء والخرق والمس والخبل والتسفيه، مثلا عندما سفه الرسول(ص) أصنام قريش وصفوه بالمجنون كما جاء في سورة القلم/51 ((ويقولون إنه لمجنون)) وكذلك في سورة التكوير/22 (( وما صاحبكم بمجنون)) وغيرها. وقد قال العلماء عن المجنون” رُفع القلم عن ثلاثة، النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل”. (مسند أحمد/24242). أما الجنون من الناحية الفقهية فقد إستمد من قول الرسول(ص) عندما صادف رجلا وصفه أتباعه بالجنون! فقال” هذا رجل مصاب، إنما المجنون المقيم على معصية الله”. هناك حالات من الجنون لازمت العباقرة وهي خارج نطاق كلامنا لأن من يدخل رئيس الوزراء السابق جودي المالكي في خانة العباقرة أشبه من يدخل إبليس في الجنة.
عندما يتذكر العراقي مقولات المالكي السابقة سيجد نفسه أمام رجل طائفي مقزز من إعلى رأسه إلى اخمص قدميه، وهذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها العراقي العاقل الشريف ذو الضمير الحي. حتى نظام الملالي الحاكم في إيران ربيب المالكي إعترف بهذه الحقيقة، فقد ذكر محمد علي سبحاني مستشار وزارة الخارجية الايرانية” أن السيد نوري المالكي عمل اثناء فترة رئاسته للحكومة على اتباع سياسات مذهبية طائفية ادت الى تشكيل حاضنة لتنظيم الدولة الاسلامية، ولو لولا سياسة حكومة المالكي الاقصائية ضد المجموعات السنية في العراق لما وجد تنظيم الدولة حاضنة شعبية له من اهل السنة”. وعبر جودي المالكي بنفسه عن طائفيته في حديثه مع صحيفة الغارديان البريطانية بقوله” انا شيعي أولاً وعراقي ثانياً”. جاعلا من المذهبية فوق الوطنية! وهذا ما جسدته سياسته الطائشة في العراق وحدث ما حدث. كما إن من نصبوه حاكما على العراق أي حلفائه الأمريكان إعترفوا بطائفيته في عدة تصريحات. فقد جاء في التايمز” المالكي طائفي حتى النخاع وفشل كقائد”. وفي نيويورك تايمز” المالكى ينتقم من السنة ويفتعل مأزقًا سياسيًا قبل رحيل القوات الأمريكية من العراق”. وغيرها من التصريحات التي تصب في نفس الإتجاه.
ذكرت منظمة العفو الدولية في بيان لها” إن ميليشيات شيعية إلى جانب القوات الحكومية ترتكب جرائم حرب ضد المدنيين السنه، كما اتهمت الحكومة العراقية بـدعم وتسليح مقاتلين شيعة يخطفون ويقتلون مدنيين من أهل السنه. وأعلنت المنظمة أنها تملك أدلة تتعلق بـميليشيات شيعية ارتكبت العشرات من عمليات القتل بحق سنة في العراق وإعدامات عشوائية، وأن مجموعات شيعية مسلحة تقوم أيضا بـعمليات خطف أهب السنه وتفرض على عائلاتهم دفع عشرات آلاف الدولارات لإطلاق سراحهم”.
في بداية الأزمة وجه جودي المالكي تهديدا للمعتصمين السلميين في الفلوجة بقوله” لقد صبرنا عليكم كثيراً لكن لا تتوقعوا أن المسألة مفتوحة ولا تتوقعوا التمرد على الدولة”. (لقاء مع القناة العراقية في 1/1/2023). ونقل التلفزيون الحكومي اليوم عن المالكي ما وصفه بتهديده بحرق خيم المعتصمين في الرمادي إن لم تقم العشائر العراقية برفعها في القريب العاجل، مؤكدا أن صلاة الجمعة الموحدة أمس هي الأخيرة على حد قوله. وأضاف المالكي “أن الصلاة الموحدة مكانها المساجد ولا تكون بقطع الطرق”، واصفا ساحة الاعتصام التي يطلق عليها أهالي الأنبار”ساحة العزة والكرامة” بساحة الفتنة”. وما لبث أن وصف إعتصامهم بالفقاعة، ثم أعقبها بقوله ” إذا لم يَنهوا الإعتصمامات فسوف يُنهوا”. وقد حذره الشيخ سعد فياض أحد زعماء الإعتصام بأنه إذا نفذ وعده بحرق الخيم فإنه بذلك” يدفع البلاد إلى المجهول” وهذا ما حصل فعلا، لكن الحمق إن غلب لا ينفع عنذاك النصح.
ثم تلاها المالكي بتصريح تلفازي مشبها أهل السنة باليهود بقوله”تهجير أهل السنة في الجنوب(عشائر السعدون) أشبه بقضية تهجير اليهود من العراق في الخمسينات، عندما أرادوا تهجير اليهود إلى فلسطين، كانوا يفجرون في مناطق اليهود وتجمعاتهم ويقتلون واحد هنا وواحد هناك، وأحدثوا موجة إعلامية بأنه يا يهود العراق إنتم مستهدفون، ففروا من العراق وراحوا إلى فلسطين”. لكنه نسي قوله في مؤتمر صحفي صحفي خلال انعقاد المؤتمر الوطني للسلم الاجتماعي” إن ما حصل لعشائر السعدون لم يكن تهجيرا، بل يمثل عمليات ارهابية، وان الاجهزة الامنية تبحث عن القتلة المسؤولين عن هذه الجريمة”! مضيفا” ان احد اهداف ما حصل لعشائر السعدون هو عودة الصراع الطائفي، لافتا الى ان من نفذ ذلك، اما من الجهلة او من المأجورين”. وكان الامين العام لـحركة العدل والاصلاح في العراق عبدالله حميدي الياور قد حمل فيلق القدس الايراني والميليشيات التابعة له بالوقوف وراء تهجير أبناء عشائر السعدون من الجنوب في حينها.
في تصريح آخر بعد يوم واحد فقط من توقيع جودي المالكي على ميثاق الشرف لحفظ دماء العراقيين، هدد أهل السنة بقوله ” بيننا وبينهم بحر من الدم”. وفي تصريح آخر وصف معركته ضد أهل السنة في الأنبار بقوله” المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين و أنصار يزيد”. وهناك أحاديث أخرى لا تقل عنها تقززا وقيحا طائفيا منها على سبيل المثال قوله” أن كربلاء هي قبلة المسلمين التي يجب أن يتوجهوا اليها بالصلاة خمس مرات في اليوم”. وسمى نفسه مختار العصر لينتقم من قتلة الحسين (أهل السنة حسب معتقده).
من ثم دار الفلك! لنستمع إلى أقوال جودي المالكي بمناسبة المولد النبوي الشريف في كلمة له أمام مجلس النواب الذي لم يحترمه يوما واحدا خلال الثماني سنوات السوداء من حكمه، وبعد فشله في الحصول على الوزارة للمرة الثالثة، إسمع ماذا يقول عن أهل السنة، ومن سبب التفرقة الطائفية التي كان أبرز روادها هو نفسه، وما الغرض منها؟
” إن الصهيونية والسياسيين يتحملون مسؤولية تفرقة المجتمعات باسم السنة والشيعة، والمخططات الصليبية والصهيونية تقف وراء تفتيت وحدة الأمة الإسلامية والعربية، لأنهم يدركون أنها أمة ستشيع السلام في عموم دول العالم”.
وأضاف ” لا توجد فرقة بين المجتمعات السنية والشيعية، كما أننا نحن السياسيون نجرها إلى هذه المهلكة والقتل على الطائفية والهوية”.
وخلط السم بالعسل بقوله ” ماذا جنينا من دعوات الفرقة بين الشيعة والسنة؟ ونرى اليوم حال دولنا العراق ومصر وليبيا وغيرها من الدول العربية والإسلامية التي لم تجن منه إلا الحنظل والشوك وبلداننا تغلي بالدماء وستستمر فلا أفق للحل ولا التحالف الدولي ولا مجلس الأمن قادر على إيقافها، ولا يمكن أن يوقفها إلا الوسطية والمراجعة”.
وإختتم كلامه بالقول” لا بد أن نستعيد بهذه الذاكرة العطرة مراجعة أنفسنا! لقد أسأنا للرسالة الإسلامية السمحاء وللرسول الكريم والقرآن كثيرا، لأننا نتكلم باسمهم ولكن ممارستنا تختلف عما ينبغي، ونسأل أن يعيد الله وحدة شملنا ويعيد العقول إلى رشدها لأن ما يحصل من عنف وتحريض هو مهلكة في الدنيا والآخرة”.
هذا الكلام صادر من نفس الفم الذي هدد ببحار من الدم! وهنا لا يوجد سوى أربعة تفاسير لحديثه المثير للعجب:
أولهما: صحوة ضمير متأخرة ثمان سنوات عن موعدها، جرت خلالها بحار من الدم بين السنة والشيعة بسبب سياسته الطائفية المقيتة، وفساد حكومي أضاع كل الفرص لنهوض العراق من كبوته. الحقيقة لا يمكن إعتبارها صحوة ضمير، فالرجل ليس له أصلا ضمير لينام أويصحو. وهو ما يزال يحيك المكائد والدسائس لخلفه العبادي لغرض إفشاله، وكإنما العبادي قد نجح في مساعيه! ومازال نفسه الطائفي واضحا من خلال لقاءاته مع رؤساء العشائر الشيعية في الجنوب. كما إنه لم يعترف إعترافا واضحا بسياسته الطائفية وأخطائه التي قادت العراق إلى نفق مظلم لا يخرج بعد عشرات السنين.
ثانيا: التقية. وهي واحدة من العقائد التي يؤمن بها المالكي وقد إستخدمها مرارا وتكرارا خلال حكمه المظلم، ومنها على سبيل المثال إعترافه بحقوق أهل الأنبار التي أعلنوها خلال إعتصاماتهم، وإنه سيتفذ طلباتهم المشروعة، ويحيل الأخرى للبرلمان حسب الصلاحية، والنتيجة إستخدم ضدهم العنف وهاجمهم. إن الطموح بعودته للحكم لا يزال يدور في مخيلته ولم يبارحه قط، فقد أصبح هاجسه في النوم واليقظة، فأما أن يعود للحكم أو يموت دونه. كما إن الخناق يشتد عليه يوما بعد يوم بسبب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على ثلث مساحة العراق وتحميله المسؤولية من قبل القادة العسكريين وتلميحات هنا وهناك عن طلبه من قبل اللجنة التحقيقية في البرلمان للإستجواب. علاوة على إفراغ خزينة الدولة وفقدان المليارات، وتهريب مليارين من قبل إبنه أحمد إلى بيروت، وتوزيع الأراضي العامة على شلته المقربة، وإصدار تعيينات غير دستورية (حكومة تصريف أعمال) قيل يوم من إبعاده عن الحكم والمئات من الفايلات ضده. لكن العبادي لا يجرأ كما يبدو على فتحها بعد أن أخذ المالكي صك الغفران من الخامنئي في زيارته الأخيرة لطهران.
ثالثا: الجنون، ربما إستمده جودي المالكي من خلال الصحبة الطويلة لرفيق دربه ولقاءاته المستمرة مع فيلسوف الشفافية إبراهيم الجعفري وأحاديثة غير المترابطة التي أثرت في عقل المالكي، فتاه في متاهات طلاسمه كالقماقم والماضوية والمردة والثابت الرياضي والتجسيد، وعمق المعطي والمتلقي ونزوق الجدران، والمنحولة السياسة وغيرها من السفسطات.
رابعا: السخرية من عقول العراقيين، لأنه ليس من المعقول أن تصدر كل هذه التناقضات من فم واحد وقائد يحترم شعبه. الأقوال والأفعال في زمن العولمة موثقة جميعا، ومهما حاول التلاعب في أقواله وكلامة، فإن الوثائق حجة عليه ولا يمكنه الهروب منها. وإن كان حقا يستهزء بعقول العراقيين فلا نزيد عن قول المثل العراقي”علج المخبل ترس حلكه”.

علي الكاش

About علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي . لدي مؤلفات سابقة وتراجم ونشرت ما يقارب 500 مقال ودراسة. لدي شهادة جامعية في العلوم السياسية واخرى في العلاقات الدولية شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية لدي خبرة واسعة جدا في الكتب القديمة والمخطوطات
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.