بقلم د. عماد بوظو/
قامت في أوروبا الدول الحديثة التي نقلت السلطة للشعب وفصلت الدين عن الدولة وصاغت مجموعة من القوانين التي نظمت الحياة بكل جوانبها ورسخت مفهوم حرية الفكر والعقيدة للإنسان. وصلت هذه الأفكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى منطقة الشرق الأوسط وتمظهرت ببروز جمعيات سياسية وعلمية وشخصيات واتجاهات علمانية وقومية، وكثرت المدارس والمطابع والصحف. وانتشر التعليم نسبيا وتوجهت بعثات إلى أوروبا وعادت حاملة الرغبة بالعمل على الاستفادة من التجربة الأوروبية في تحديث مجتمعاتها وبلدانها. حتى الحرب العالمية الثانية، كانت إيران الشاه وتركيا الأتاتوركية والدول العربية المحكومة من سلطات انتداب أوروبية، تقوم ببناء مؤسسات دولة حديثة على أسس مدنية، وفي هذا الوقت كان هناك شكل معتدل من التدين الشعبي في كل دول الشرق الأوسط. هناك نساء محجبات وغير محجبات بنسب متفاوتة حسب البلد والمنطقة، وحتى الحجاب كان شكليا في الكثير من الحالات ولم تكن أغلبية دول الشرق الأوسط قد تعرفت على النقاب بعد. في أغلب المدن والبلدات كان هناك المساجد وهناك الملاهي والحانات وكانت العلاقة حسنة بين من يرتادهما فقد كان التدين سموحا وودودا وكانت الموعظة الحسنة هي الوسيلة الوحيدة للعائلة والمجتمع لتوجيه الشباب، وترافق ذلك مع حيوية سياسية وثقافية، لقد كان الشرق الأوسط في ذلك الوقت مشابها لبقية العالم.
في القرن العشرين ظهرت شخصيات وحركات ذات توجهات إسلامية ترفض ما تسميه موجة التغريب هذه وتريد العودة إلى أمجاد الماضي وعصر الخلافة والفتوحات، وتوسعت هذه الحركات بعد استيلاء ديكتاتوريات عسكرية فاسدة على السلطة في أغلب دول الشرق الأوسط. طرحت هذه الحركات شعارات عامة وقدمت وعودا لجمهورها بحل كل المشاكل التي تعاني منها البلاد دون توضيح كيفية تحقيق ذلك. في الربع الأخير من القرن العشرين تحولت هذه الحركات إلى قوة كبيرة، في ما اصطلح على تسميته بالصحوة الإسلامية. كان من أوائل مظاهرها الثورة الإيرانية عام 1979. كما رافق هذه الفترة الفورة في أسعار النفط وفائض للثروة عند الدول النفطية التي تم توظيف قسم منها في افتتاح مدارس وجمعيات دينية بأهداف دعوية عبر العالم. لم يكن لهذه المراكز برامج سياسية ظاهرة ولكنها أدت في الواقع إلى وجود مئات الآلاف من خريجي المدارس الدينية والذي تحول قسم منهم إلى النشاط السياسي بأشكاله المتدرجة من الأحزاب الإسلامية حتى التنظيمات المتطرفة. ثم أصبحت الأحزاب الإسلامية في الشرق الأوسط هي الأقوى والأكثر تنظيما وساعدها على ذلك تمويلها الجيد ونشاطها خصوصا في إنشاء مدارس وجمعيات خيرية في بيئات فقيرة سكانها بحاجة ماسة لأي مساعدة، وحافظت هذه التنظيمات على قوتها حتى تمكن بعضها من الوصول للسلطة.
في تونس فازت حركة النهضة في انتخابات عام 2011 بـ 89 نائب من أصل 217 وحلت بالمرتبة الأولى وشاركت مع حزبين آخرين في السلطة. في انتخابات عام 2014 خسرت عشرين مقعدا وحلت بالمرتبة الثانية، وفي مؤتمر حزب النهضة عام 2016 أعلن راشد الغنوشي رئيسها أنه لم يعد هناك مبرر لمصطلح الإسلام السياسي في تونس اليوم، وأن الحركة تعبر عن مسلمين ديموقراطيين وهدفه جمع الإسلام مع الحداثة. بهذا المعنى، تخلت الحركة عن الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وكان من تبعات ذلك تبني تونس في 2017 لقوانين ثورية مثل السماح بزواج المسلمة من غير المسلم والمساواة بالإرث بين الجنسين ومناهضة العنف ضد المرأة.
التجربة المصرية كانت مختلفة تماما. فقد فاز مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي بالرئاسة بفارق ضئيل على منافسه، ولكن سرعان ما أدت مجموعة من الإجراءات التي اتخذها إلى الاصطدام مع القضاء والصحافة. ورافق ذلك، اعتبار بعض الإسلاميين لأنفسهم كأوصياء على سلوك المصريين ولباسهم. وجرى افتتاح عشرات المحطات التلفزيونية الجديدة التي تقدم مجموعة من البرامج الدينية والدعوية يقوم بعضها بتفسير الأحاديث أو الأحلام بشكل متخلف لم تعرفه مصر سابقا. وعبر ممثلو التيارات الإسلامية عن رغبتهم في منع إصدار تراخيص لبيع الخمور أو إقامة حفلات راقصة وكان من أساليبهم شراء أمثال هذه المحلات وتحويلها إلى محال تجارية وقد نجحوا في بعض الحالات. وطالبت بعض قواعد الإخوان قياداتها بسرعة تطبيق الشريعة. كما عانى القطاع السياحي بشكل خاص من الركود وهو أهم مصادر العملة الصعبة بسبب ميول حركة الإخوان المسلمين لتقييد حركة وسلوك السياح وارتباك سياساتها. وارتفعت ديون مصر الخارجية خلال عام واحد من 34.4 مليار إلى 43 مليار دولار وارتفع الدين الداخلي من 180 مليار إلى 232 مليار دولار. نتيجة لكل هذا، تصاعدت المخاوف الشعبية من التوجه لتقييد الحريات تحت شعارات المجتمع الإسلامي مما أدى لظهور عدة فعاليات معارضة كان أبرزها حركة “تمرد” التي جمعت ملايين التواقيع للمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما رفضته جماعة الإخوان المسلمين لمعرفتها بخسارة السلطة في حال إجرائها. أدى ذلك، إلى نزول عشرين مليون مصري للتظاهر ضد حكم الإخوان المسلمين وتبعه من اضطرار الجيش المصري للتدخل وإنهاء حكم الإخوان المسلمين.
وهناك النظام الإسلامي في إيران والمستمر في السلطة منذ 39 عاما وكل الدلائل تشير إلى فشل كبير سياسي واقتصادي ومعيشي أكدته المظاهرات الأخيرة والتي أظهرت للعلن حجم وعمق المشاكل التي يعاني منها هذا النظام. وفي تركيا، يحكم حزب العدالة والتنمية في تركيا، الذي سرعان ما تحول، بعد الإنجازات الكبيرة التي حققها في السنوات الأولى من عام 2002 حتى عام 2010، إلى شكل من الحكم الفردي يدور حول شخص واحد هو الرئيس أردوغان. ولم تكن السنوات الأخيرة ناجحة، وترافقت مع اعتقال لعشرات الآلاف، فقد أعلن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو في نيسان/أبريل 2017 عن توقيف 113260 شخصا في إطار التحقيقات بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وتم تسريح عدد أكبر من ذلك من العمل لأسباب سياسية، وفرضت قيود واسعة على الصحافة وحرية التعبير وحق التظاهر في تراجع واضح يشمل كل مؤشرات الديموقراطية. ما لبثت أن تحولت التجربة التركية، التي كانت مثالا يتيما يستخدمه الإسلاميون للتدليل على إمكانية نجاح حكم حزب إسلامي، إلى نظام شبه ديكتاتوري وكثرت المشاكل حول سياسات تركيا الداخلية والإقليمية والدولية لتصبح مثالا جديدا على فشل الإسلام السياسي.
فشل الإسلام السياسي أدى إلى تراجع التدين الشعبي، ففي إيران انخفضت نسبة التدين بين الشعب الإيراني بشكل كبير. وقال أستاذ العلوم الدينية والفيلسوف الإيراني محسن كاديفار: “إن الإسلام الذي تروج له الدولة دفعت معظم الإيرانيين للإعراض عن دينهم”. وتزعم المنظمة الإنجيلية “أبواب مفتوحة” على موقعها الإلكتروني أن عدد المسيحيين في إيران ارتفع من 300 ألف إلى 460 ألف شخص. ورغم عدم القدرة على إثبات هذه الأرقام، إلا أن الاتجاه لاعتناق دين آخر غير الإسلام لا يمكن إنكاره. ويقول علي صدر زاده “يدق حراس الفضيلة في إيران ناقوس الخطر فالمساجد في الجمهورية الإسلامية قد تفرغ من مرتاديها، والجيل الشاب على وجه الخصوص هو من يهرب من التدين إلى طوائف صوفية أو المسيحية”. ويحمل إقدام عدد من المتظاهرين خلال الاحتجاجات الأخيرة على إحراق حوزات ومقامات دينية في بعض مناطق إيران دلالة في الاتجاه نفسه، بالإضافة طبعا إلى نزع الحجاب للتعبير عن رفض للجمهورية الإسلامية.
ما يحدث في إيران من انخفاض في عدد المتدينين أو حتى كراهية الدين يتطابق مع ما حدث في العراق وسورية لمن خضعوا لحكم داعش وأشباهها التي تقول إنها تطبق الشريعة الإسلامية. فقد فتحت مشاهداتهم لعمليات قطع الرؤوس واليدين والممارسات الوحشية لهذه التنظيمات الباب للتساؤل حول الشريعة الإسلامية والحدود في الإسلام وكتب الحديث وزرعت عندهم شكوكا مشروعة حول كل ذلك، وبعد تحررهم من سلطة هذه التنظيمات سرعان ما خلعت النساء الثياب السوداء وأحيانا الحجاب تعبيرا عن رفضهن لكل ما شاهدوه تحت اسم تطبيق الشريعة، كما يمكن ملاحظة هذا التحول لدى موجات اللاجئين الذاهبين إلى أوروبا حيث يصبح سلوكهم وملابسهم أكثر انفتاحا وتحررا كلما ابتعدوا عن موطنهم.
كل ما نشاهده ونقرأه اليوم ومناخ الحيوية الثقافية والفكرية النسبي الذي يحدث في كل دول الشرق الأوسط وخاصة تلك التي تعرضت لتجربة حكم إسلامي مثل مصر، والبرامج والندوات التي تعقد للمطالبة بتجديد الخطاب الديني لم تكن لتحدث لولا فترة الحكم الفاشلة هذه، ولولا إخفاق حركات الإسلام السياسي بشكل عام في تقديم نموذج مقبول أو واقعي أو حلول لأي مشكلة يواجهها العالم الإسلامي. وبرزت إلى السطح الكثير من التساؤلات حول بعض القضايا التي كان يعتبر التطرق لها من المحرمات سابقا، لقد اتضح بعد هذه التجارب أن الحل للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة لا يمكن أن يكون بالعودة إلى الماضي وأن الإسلام ليس هو الحل.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال