قراءة في سيكولوجيا الإنسان السلفي : ـ
من الخطأ ومضيعة الوقت محاولة الرد على دعاوى التيار السلفي أو الدخول في نقاش أو جدل معه أو حتى محاولة تفنيد اراءه وأطروحاته . إنّ الأجدى في هذا المجال النظر في هذا النوع من الخطاب على أنّه عرض لمرض ناتج عن الإصابة بفايروس الثقافة اللاعقلانية وترسبات الفشل إمّا على الصعيد التعليمي أو التربوي أو الإجتماعي أو الجنسي أوالفشل في خلق حالة التوازن النفسي المطلوبة لدى جميع البشر الأسوياء .
بمعنى آخر فإنّ السلفية حالة مَرَضيّة أو بالأحرى أوآلية دفاعية متوهَّمَة لحالة مرضيّة مستفحِلة ، ويبدوا ذلك واضحاً في الطبيعة النكوصية والإرتدادية للخطاب السلفي ، ففي إطار مسعى (السلفي / المريض) لإيجاد مخرج من مأزق الهزيمة على المستوى الحضاري والثقافي والعسكري ، أو أزماته الناتجة عن الكبت الجنسي أو القهر السيكولوجي والسياسي والإجتماعي ، يبحث المريض عن مخرج لحالة الإحباط الناجمة عن كلِّ ذلك ، فيبحث عن النبش في التراث وتلميع الماضي بغية إستحضاره وإستجلابه كترياق سحري لأزماته وإخفاقاته مادام عاجز عن تطوير و تغيير الحاضر، ناهيك عن صناعة المستقبل .
ومن هنا تشكّلت ما يُمكن أن نُسمِّيها بالايدولوجيا السلفية ، فالخطاب السلفي إذاً هو الواجهة الخارجية لنمط فكري أو ايدولوجي لا يستقيم مع متطلبات العصر ومفاهيمه وأولوياته ، ولا يستطيع الإستجابة لحاجيات الناس اليوم ، ولا يُقدِّم لهم منهجاً صالحاً للتقيِّيم أو التقدُّم ، وبالتالي هو خطاب أو ايدولوجيا غير موضوعية لأنّها مجرد رد فعل ذاتي يتعدى الأفراد إلى العقل الجمعي للمجتمعات التي تُعاني من الإحباطات الناتجة كما قلنا عن الفشل على عدد من الأصعدة الإجتماعية والنفسية وفقدان الأمل بالمستقبل .
إنّ السلوك الذكوري الإستعلائي القاهر للمرأة ـ على سبيل المثال ـ أحد مميزات المنتسبين للتيارات السلفية ، طبعاً هو حالة شبه عامة بمجتمعاتنا ، ولكن تظهر بشدّة وبإفراط واضح للعيان لدى السلفي ، وفي إعتقادي أنّ هذا الإفراط في السلوك الذكوري يأتي في سياق النفي ( المريب ) لعجز بالقدرة على السيطرة ـ وربّما تكون السيطرة القضيبية ـ في مجتمع قائم على الإستبداد والعلاقات التراتبية الهرمية كالمجتمعات الإسلامية / العربية . أي أنّ الأمر لايعدوا عن كونه تنفيساً لعقد نفسية ناتجة عن درجات متفاوتة من الشعور بالخصاء ، الذي قد لا يكون في جميع الأحوال خصاءً قضيبياً ، أي يُمكن أن يكون خصاء حضاري أو خصاء ذهني أو خصاء وجداني نابع عن النشوء في بيئة قاهرة أو التعرض للهدر الإنساني والإحساس بالعجز ( عدم السيطرة ) ..الأمر إذاً هو أنّ (الذكر / السلفي/ المريض ) مقهور من قاهر أكثر ذكوريةً منه ، ربّما مديره بالعمل أو إمام الطائفة التي ينتسب لها أو حتى السياق السياسي القاهر أمنياً وإقتصادياً وبالطبع سياسياً… إلخ ، وبالتالي هو يبحث عن من له ذكورية أقل من ذكوريته ليمارِس عليها مايُمَارَس عليه من القهر .
إذاً السلفية تحتاج لدراسات نفسية مُعمّقة من أجل القدرة على التعاطي السليم معها وعلاج مجتمعاتنا من دائها العُضال ، وأُشيد هنا ـ مادمنا تحدثنا عن الهدر الإنساني والقهر السيكولوجي ـ بالمجهود العظيم الذي قام به مصطفى حجازي في سفرية الخالدين ” سيكلوجيا الإنسان المقهور ” و ” الإنسان المهدور ” الذي تطرّق فيهما إلى ظاهرة السلفية والأُصولية مصنفاً إياهما كأحد أعراض القهر الناجم عن البيئة البطريركية الوصائية الأبوية المدعومة من قوى الإستبداد والطغيان الحاكمة منذ عقود ، والتي عملت على هدر القيمة الإنسانية للمواطن من خلال ما تسببت به من أوضاع إقتصادية مُزرية إنعكست سلباً على السلوك الإجتماعي .
بالإضافة إلى تشويش الوعي وسياسة التعتيم العقلي التي تُمارسها هذه الأنظمة المتواطئة مع التيار السلفي عبر عقد أو تحالف غير مكتوب بينهما ، أهم بنوده : العمل على تعطيل العقل وتبديد الطاقات الذهنية والمحافظة على الأوضاع التي يستفيد منها كلا الطرفين ، فبالنسبة للحاكم المستبد فإنّه يُفضِّل مواطن مشغول بقضايا الجن والسحر والشياطين وتعظيم وتمجيد الماضي والأسلاف وعدم الخروج على الحاكم الظالم مخافة الفتنة وكافة المسائل والقضايا الفرعية والهامشية التي تُغرِق المواطن في مسائل وقضايا بعيدة عن الواقع المأزوم والتفكير في إيجاد مخرج حقيقي منه ، فمثل تلك العقلية يُمكن أن تتسبب بزعزعة مراكز السلطة المستبدة ، أي إنّ القضايا التي يشتغل عليها الخطاب السلفي ويعالجها هي نموذج مثالي لما يريد المستبد لشعبه أن ينشغل به عنه .
اما بالنسبة للسلفي ( الطرف الآخر في التحالف ) فإنّه يُفضِّل بيئة إجتماعية مقهورة ومناخ علمي موبوء و أرضية قاحلة معرفياً تُمثل مرتعاً خصبًا لأُطروحاته السقيمة ، كتلك الأرضية التي يُوفِّرها لهُ السياق السياسي ذو الطابع القمعي والوصائي والذي يُسهم في تكوين وتشكيل بنية عقلية قابلة لإستساغة وهضم أفكار وأطروحات التيار السلفي اللاعقلانية والجانحة في أُسطوريتها وخرافيتها . السلفي يحتاج بيئة تعج بالنفايات كتلك التي يُوفِّرها له المستبد بيئة تنأى بالمجتمع عن حقل التداول العلمي والعقلاني والموضوعي والمنهجي للأفكار والأُطروحات ، لأنّ الخطاب السلفي لا قدرة له على إختراق الأدمغة والعقول العلمية والعقلانية .
لذلك لن يجد السلفي أفضل من الحاكم المستبد حافظاً وحاضناً لتياره .ولأضرب مثلاً على ذلك فيمكنني أن أذكر النظام السوداني والذي رغم أنّه نظام أُصوليّاً وليس سلفيّاً ، إلاّ أنّه ومنذ إنفراده بالسلطة كتيار أُصولي عمد إلى إحتضان التيار السلفي سواء التابع للجماعات الوهابية أو التابع ( للصوفية السلفية ) التي تُعتِّم وتتجاهل التجربة الحلّاجية ( نسبةً للإمام الحلّاج ) المصادمة للسلطة ، وتُغلِّب التجربة الغزالية القائمة على فقه الطاعة للسلطان الجائر والزهد في النضال ضده ( نموذج الإمام الغزالي ) ، لإدراك الأُصوليون بالسودان أنّ السلفية يُمكن أن تضمن لهم الشرعية التزكوية إن جاز التعبير ، أي تلك الشرعية التي تُستمَد من إنفراد الدكتاتور بالسلطة وإيثار الشعب الصمت والسكوت عن ممارسة حقِّه في إختيار الشرعية الملائمة له ، فالخطاب السلفي يدعو الناس من منطلق منطق ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) إلى عدم الخروج على الحاكم مظنة الفتنة.
عند الحديث عن السلفية فلا بُدّ من التعريج على أهم مظاهرها أو أعراضها ، وأعني العنف ، فالمستبد يُحرِّك طاقات السلفيين ورغاباتهم الجهادية نحو الخارج بدلاً من تصويبها ضد إستبداده بالداخل ، أو يقوم الامستبد بتحويل العنف نحو جماعات مذهبية مُخالفة للتيار السلفي بالداخل ، ليستفيد المستبد عبر تصوير نفسه صماماً لوحدة البلاد وحامياً لها من الفتنة الطائفية أو المذهبية على نحو ما فعل نظام البعث بسورية ، حيث أصبح بشار الأسد لكثيرين ملاكاً على دمويته مقارنةً بعصابات النصرة الإسلامية ، فالعنف الذي تُعاني منه مجتمعات المنطقة بالسودان أونيجيريا أو العراق أو سورية أو الجزائر ومعظم دول وبلدان المنطقة هو أحد أعراض أو أطوار المرض السلفي الذي أصبح وباءً تُعاني منه قطاعات وشرائح واسعة من مجتمعات تلك الدول ، حيث نجد أفراد تلك المجتمعات المتسلفنة هم نتاج لتربية مجتمع مُصاب بعلل وعُقد نفسية عديدة أسهم الفقر والجهل والخرافة وعصابات تغبيش وعي الشعوب والمجتمعات في مُضاعفتها وزيادة حدتها .
ومجتمع مثل هذا لا نتوقع منه أن يقوم بإخراج أجيال سليمة ومُعافاة تنتهج الحوار لا الصراع والعنف آلية لتسوية النزاعات ، بل نتوقع منه إنتهاج العنف كخيار وحيد ومطروح أمامه لحلحلة أبسط المشاكل ولا اقول النزاعات ، فتجد القتل من أجل أتفه الأمور والمواضيع أو لإختلاف العقيدة الدينية أو المذهب أو حتى الموقف السياسي .
إذاً العنف هو أحد تجليات وإنعكاسات وإسقاطات هذه الحالة المَرضيّة ـ أعني السلفية ـ التي أصابة مجتمعنا ، وهي حالة لا فكاك منها ولا دواء لها ولا قضاء عليها إلاّ من خلال القضاء على الفقر والجهل والنضال السياسي والمعرفي ضد عصابات تغبيش الوعي ومحاربة مصالحها الطبقية الطفيلية وخلق حالة من الوعي العقلاني كمُضاد حيوي وفعال لهذه العلل . وذلك لن يتم الشروع فيه قبل أن نعترف بأنّ مجتمعاتنا لاتحتاج للإصلاح ولا للتجديد بقدر ما تحتاج إلى إعادة البناء بديلاً للإصلاح ، وإلى التثوير بديلاً عن التجديد .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معاً ضد كلّ سلطة ظلامية تمنع العقل الإنساني من الوصول إلى نور الحرِّية حباً في الإستبداد وتعلقاً بالسيطرة !