بقلم كوليت بهنا/
أثار قرار وزارة الصناعة السورية مؤخرا بتعيين سيدة مديرة لإعادة تأهيل معمل البيرة في إحدى ضواحي دمشق المتوقف عن العمل منذ عام 2012، جدلا كبيرا وردود فعل متباينة في الشارع السوري. اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي إثر هذا القرار، إذ جاءت المفاجأة ليس لكون المديرة سيدة، إنما لأنها محجبة وهو ما يتعارض مع الشريعة الاسلامية بحسب العديد من الغاضبين المتدينين، فيما عبرت الأكثرية الساحقة عن سخريتها اللاذعة من القرار وصناعه ومن السيدة ذاتها، وقد فاتهم أن المنصب ذاته يمكن أن يستلمه رجل متدين أيضا.
القرار صادم وجريء. وتكمن جرأته تحديدا في قبول السيدة ذاتها لهذا المنصب وطموحها لإنجاح مهمتها التي كلفت بها، مما يؤكد شجاعتها في المقدرة على فصل تدينها عن عملها رغم معرفتها المسبقة للمصاعب والعراقيل التي ستواجهها مع مجتمع ما زالت أغلبيته المحافظة تعرقل أو تمنع أو تحرم عمل النساء؛ فكيف سيتقبل مجتمع كهذا أن تدير امرأة محجبة مكانا لصنع الخمرة المنكرة المحرمة إسلاميا؟
نزكي لكم من نفس الموضوع قرأة : شاهد محجبة تقبل بمنصب مديرة معمل بيرة وبنفس الوقت ترفض ان تصافحك؟
لن تنجح سورية المستقبل المشتهاة إلا بقبول الجميع بمبدأ العلمانية
إن قبول هذه السيدة لمنصبها الحساس هذا، إنما يشي بهواها العلماني المطلوب اليوم، ويعيد إلى الذاكرة الصورة العامة للإسلام
السوري التي كانت سائدة قبل بدء الأحداث عام 2011، وهو إسلام معتدل ولطيف لا غلو فيه. وقد تكون التجربة المريرة التي مر بها السوريون خلال السنوات الثماني الماضية، والتي لم تنته بعد، درسا مفيدا للجميع بأن بلادهم ليست بيئة صالحة لأي تطرف ديني من أي جهة كانت، بمعنى أن التطرف الديني لم يكن إسلاميا فحسب، إذ أبدت جميع المكونات السورية المختلفة خلال السنوات الثماني الفائتة تعصبها الذاتي وتطرفها الشديد، وهو أمر طبيعي وعادي يحدث كوباء في زمن الحروب، لكن استمراره هو المرفوض وغير الملائم للبيئة السورية الثرية والمتنوعة والتي لا حل يناسب جميع مكوناتها سوى العلمانية.
العلمانية المغضوب عليها، والتي لا تزال تفسر بشكل خاطئ من قبل أغلب المتدينين أو العامة، يمكن أن يقال إنها واحدة من أشد المعضلات ذات الحساسية العالية التي تتمحور حولها الجدالات في كل الاجتماعات والمؤتمرات الخاصة بالشأن السوري. واتضح أنها واحدة من أصعب العراقيل في مفاوضات السلام في جنيف، حيث خاض المبعوث الأممي الخاص بسورية ستيفان دي مستورا نقاشات شائكة وطويلة بشأنها وجرب في النقاط الاثنتي عشر التي قدمها للجانبين مؤخرا، أن يلطف من كلمة دولة علمانية باستبدالها بدولة لا دينية، في محاولة للتخفيف من التشنج الذي يبديه المتشددون اتجاهها، على الرغم من التناقض الصارخ الذي يعيشه هؤلاء اليوم؛ فأغلبية زعامات هؤلاء المتشددين تعيش في تركيا، وهي الدولة التي يقول دستورها إنها دولة علمانية، وتحت المظلة السياسية التركية، ولا يفوتون فرصة إلا ويظهرون احترامهم لبنية النظام التركي، لكن عند الحديث عن العلمانية المنشودة في سورية يستشيطون غضبا ويرفضونها جملة وتفصيلا.
العلمانية هي الحل العادل الذي أوجدته البشرية للفصل البناء بين الدين والدولة واحترام معتقدات الجميع
جربت الدولة السورية أن تكون علمانية خلال نصف قرن، لكنها في واقع الأمر بقيت علمانية نسبية ومحدودة، ولم تنجح في كبح جماح المد الديني المتشدد الذي تغلغل خلال السنوات في عمق المجتمع السوري ولا يزال يمارس سطوته بوسائل مختلفة لتمرير بعض القرارات ذات البعد الديني والاجتماعي، أو يلعب دور المراقب الدائم لعرقلة أو إيقاف ما يفسره على أنه مناهض للفكر الاسلامي، مثل البت أو التدخل في عالم الفنون والإبداع على سبيل المثال لا الحصر، ومحاولات منع عرض بعض الأعمال أو سحبها من التداول أو إثارة الرأي العام ضدها.
لن تنجح سورية المستقبل المشتهاة إلا بقبول الجميع بمبدأ العلمانية. وهذا القبول بمبدأ العلمانية يجب أن يترجم في الدستور السوري، على أن يليه، أو يتزامن معه، توعية الرأي العام بحملات إعلامية مكثفة لتوضيحه وشرحه. ففي النهاية، العلمانية هي الحل العادل الذي أوجدته البشرية للفصل البناء بين الدين والدولة واحترام معتقدات الجميع ومنحهم حرية ممارستها.
إن وجود عقلية شجاعة، كهذه السيدة المحجبة التي تبوأت منصب مديرة معمل البيرة، يبعث ببعض الأمل بالعثور على مثيلاتها من السوريات الشجاعات اللاتي يمكنهن أن يخترقن التابوهات بشهادة علمية ويثبتن كفاءاتهن دون الاهتمام بهويتهن الدينية أو الجندرية، حتى لو كن يدرن أعمالا تنتج أطباقا فضائية أو بيرة أو بسكويت محشي بالشوكولاتة.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال