تشريح مقولات جنت علينا 4:” كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار”.
هذا الحديث، برأيي، عبارة عن عيّنة تمثيلية لكل الموروث الديني الرافض للاختلاف والتجديد والإبداع وحرية الفكر في جميع المجالات، وليس المجالات الدينية فقط، خاصة عندما نعرف أن الإسلام أيديولوجيا شاملة جامعة مانعة، كما يزعم لها أصحابها (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ).
حول البدعة، أحيل القارئ إلى مقالة لمحمد راتب النابلسي باعتباره ( داعية إسلامي، معاصر، له دروس ومحاضرات في الإعجاز العلمي والتفسير، والمنهج العلمي والمعرفة، أشتهر بسلسلته عن أسماء الله الحسنى، وعن الشمائل النبوية. وهو رئيس هيئة الإعجاز القرآني، وله العديد من المؤلفات وشارك في العديد من المؤتمرات العالمية).
http://urlz.fr/2plJ
تمكن هذا الداعية السوري عبر التدليس الوقح والخلط بين الدين والعلم من اكتساب شهرة كبيرة في العالم العربي حتى صار يُسْتَدْعى لتنشيط ندوات ومحاضرات حول الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في الجامعات العربية. وأنا شخصيا حضرت إحدى محاضراته ولم أتحمل مواصلة الاستماع إليها حتى النهاية بسبب الكم الهائل من القرف الذي شعرت به.
قال هذا الداعية في مستهل مقالته حول (البدعة): “أخطر شيء يصيب الدين أن يُزاد فيه أو أن يُحْذَف منه”. وهذا هو معنى البدعة.
http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=6049&id=55&sid=605&ssid=606&sssid=607
هكذا هو ديننا (القويم)، حسب هذا الداعية صاحب (المنهج العلمي والمعرفة)، اكتمل منذ 14 قرنا، ومعه عرف تاريخ البشرية نهايته (أين أنت من هذا السبق يا فوكوياما؟!). مع الإسلام جاء الحل النهائي لمشاكل البشر. وكل من يحاول أن يزيد أو ينقص فهو مبتدع ومنتقص من جلالة (إله عظيم أوحى إلى نبي كريم وحياً مَتْلُوّاً هو القرآن، وغير متلوٍّ هو السنة، ونأتي نحن لنضيف عليها، أو لنأخذ منها، نضيف ما يعجبنا، وندع ما لا يعجبنا، فنحن إذاً من أهل الأهواء، ومن أهل البدع، هذا منهج قويم، ينبغي أن نأخذه بكامله، وليس لنا أن نأخذ منه ما يعجبنا).
بل حتى الاجتهاد الذي لا يملون من التبجح بفضائله لا يعدو أن يكون مجرد محاولات تشريعية هامشية بائسة تشترط ألا اجتهاد مع النص، بمعني واجب تعطيل العقول وضرب التجارب عرض الحائط كلما وجدنا نصا يحسم الأمر.
يقول النابلسي بهذا الصدد بأنه قد وجد (مما يثير الدهشة أن مئة وستةً وخمسين حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب الصحيحة والسنن والمسانيد تنهى عن الابتداع في الدين..).
156 حديثا ضد الإبداع!!! هذا ما يجب أن نفهمه، لأن البدعة يمكن بسهولة أن تتحول إلى طعنة في خاصرة الإبداع والتجديد والأخذ بمنجزات الحداثة. وهذا، في الواقع، ما ابتُلِيَت به مجتمعاتنا منذ قرون ولا تزال، بحجة أن (على المؤمن التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام) (.. عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). لأن الله قال: (﴿-;- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾-;-.
مع ذلك فالباحث في السنة يعثر على ممارسات سياسية واجتماعية للنبي وصحابته يصح وصفها بالهمجية التي من الصعب أن نتوقع ارتكابها من شخص يقول بأنه مرسل من رب مطلق الرحمة والعدل والإنصاف، وهي همجية صار رجال الدين اليوم يشعرون معها بالعار عندما تُثارُ أمامهم بعض الأحداث والمواقف المروية في كتب السيرة والحديث فلا يجدون لهم منها مخرجا سوى الفرار أو التشكيك في صحيحي البخاري ومسلم، مثل تشريع الرق الذي لم يسلم منه حتى المدنيين من غير المشاركين في الحروب كالأطفال والنساء والعجزة واستباحة أعراض مسبيات الحروب وتشريع غزو الناس وهم في ديارهم آمنين وذم الفتنة التي لا تعني شيئا سوى الاختلاف ومعارضة الحكام الظلمة.
شاهدوا كيف يعاني شيوخ الأزهر عندما تثار أمامهم همجية هذا الموروث، حتى تخونهم الفصاحة والبلاغة المشهود لهم بها:
كل هذا ويقول النابلسي: (النبي صلى الله عليه وسلم وأقول هذا مراراً: معصوم بمفرده، معصوم أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي أحواله، وفي إقراراته، فلذلك يجب أن يكون دأبُ المؤمن التمسكَ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم).
ولهذا اصطدمت كل محاولات الإصلاح والتجديد والتخفف من همجية الماضي بحاجز التبديع والتفسيق والتكفير.
ويقول: (ما دامت سنة النبي صلى الله عليه وسلم مطبقةً في حياة المسلمين فلن يُعَذَّبُوا، وما ترك قومٌ السنة إلا حلت محلها البدعة) بينما تاريخ الشعوب الإسلامية كله قلما حظي بفترات سكينة وسلام مقارنة بفترات العذاب.
بهذا تكون مواثيق حقوق الإنسان التي تبنتها الأمم المتحدة وصادقت عليها البلدان الإسلامية، ولو مع بعض التحفظ، بدعا مذمومة لأنها أصلا تتناقض مع ما قرره الإسلام من تشريعات اجتماعية واقتصادية وسياسية. ولهذا عارضها الإسلاميون وأفشلوا العمل بها في كل مكان. بل حاولت الأنظمة العربية والإسلامية، بضغط وابتزاز وإفساد الضمائر من السعودية وممثليها، الالتفاف عليها عبر تشريع مواثيق حول حقوق الإنسان العربي، وحقوق المسلم، وحقوق المرأة المسلمة والطفل المسلم، وهي كلها عبارة عن سرقات وانتقاءات وتحميل الماضي ما لا يحتمل.
هل للمرأة حقوق في شريعة الإسلام؟
قراءة في إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام
قراءة في الميثاق العربي لحقوق الإنسان
ثم يخاطبنا النابلسي: (… أنت حينما تبتدع تتهم الدين بالنقص، أنت حينما تبتدع تتوهم أنك تكمِّل الدين، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: “﴿-;- الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..).
لكن الإسلاميين يتعاملون مع دينهم مثلما يتعامل صبيان المدرسة مع عجينتهم. فمن السهل عليهم العثور على ما يرخص لهم الاستثناءات التي تخوِّل لهم الالتفاف على نصوصه الخاصة بتحريم البدع. يقول: (… لكن يجب أن ندرك جيداً أننا إذا أحدثنا في المسجد تكبيرَ صوتٍ، وتكييفًا، وتدفئة، و ماء بارداً، وماء ساخناً، فهذا ليس من البدعة، هذه بدعة لغوية، حُكْمُها متعلق بموافقتها لكتاب الله وسنة رسوله. عندما تقام حفلةٌ فيها نساء، ويجري تصويرُها ليشاهد كلّ الرجال في بيوتهم صورَ النساء بعد الحفلة، فهذه بدعة لم تكن من قبل، لكنها تخالف نصوص الشرع، إذاً فهي محرمة. عندما نُكبّر الصوت بالمسجد فهذه بدعة لم تكن من قبل، لكنها تزيد من وضوح الصوت، وتوضح البيان الذي يلقى بالمساجد، هذه بدعة مقبولة”.
هكذا إذن فـ(عندما تقام حفلة فيها نساء، ويجري تصويرُها ليشاهد كلّ الرجال في بيوتهم صورَ النساء بعد الحفلة، فهذه بدعة لم تكن من قبل، لكنها تخالف نصوص الشرع، إذاً فهي محرمة) لكن التشريع الإسلامي الذي نص على إباحة انتهاك حرمة مسبيات الغزوات، والتمييز بين الجواري والحرائر وفرض لباس تمييزي على الجواري (عورة الجارية ما بين السرة والركبة)، بل التسامح مع استغلالهن في البغاء فهذا جائز، لأنهن أدنى درجة ولا كرامة ولا قيمة لهن، أما عرض مجرد صورة للحرائر مهما كان لبساهن فهو بدعة محرمة.
وفي الحقيقة فإن رجال الدين في القرون الخوالي كانوا أكثر صدقا مع دينهم حد السذاجة، مقارنة بإسلاميي عصرنا الدجالين المحتالين، حتى أنهم حاصروا (العالم) الأزهري ووصفوه بشتى النعوت المحقِّرة أدنها السذاجة وقلة الحيلة بعد أن أثار حكمة رضاعة الكبير كوسيلة لتجاوز مشكلة الاختلاط. كان الأوائل يعارضون كل جديد على أنه بدعة إذا لم يجدوا شبيها له في سنة نبيهم. أما إسلاميو عصرنا فهم يمارسون دعارة دينية غاية في الخسة بعد أن يسطوا على بعض منجزات الحداثة ويؤسلمونها أي يشوِّهونها عبر إفراغها من محتواها الحديث ويشحنونها بموروثهم الديني كأن تتحول الديمقراطية إلى شورى، أو الترويج لخرافة فقه الواقع. يفعلون هذا بينما يأتينا النابلسي بحديث: (لا يَقْبَلُ اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ صَوْمًا وَلا صَلَاةً وَلا صَدَقَةً وَلا حَجًّا وَلا عُمْرَةً وَلا جِهَادًا وَلا صَرْفًا وَلا عَدْلا يَخْرُجُ مِنَ الإسْلامِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ).
عندما حاولت الدولة العثمانية في القرن السابع عشر إدخال المطبعة عارضها شيوخ الإسلام في تركيا، ثم قبلوا دخولها رضوخا لإرادة الباب العالي، ولكنهم اشترطوا عدم طباعة القرآن بها، لأن السنة تقتضي مواصلة نسخه باليد كما كان يفعل السلف الصالح. أما إسلاميو أيامنا فقد أسسوا أيديولوجيتهم على الكر والفر والخداع. عارضوا منجزات الحداثة بحجة أنها بدع تهدد الإسلام. عارضوا حرية الإعلام في الصحافة، الإذاعة، التلفزة، الفضائيات، أنترنت، عارضوا تعليم المرأة وخروجها للعمل، عارضوا الاختلاط، عارضوا الحريات، عارضوا الديمقراطية والتعددية الحزبية، وها هم اليوم يتهافتون عليها تهافت الذباب على العفن ويستغلونها بدعارة منقطعة النظير حتى تفوقوا على سواهم في استغلالهما أبشع استغلال، بل احتكروها كل الاحتكار. عارضوا حرية الصحافة بحجة أن هذا قد يؤدي إلى نشر معارف وفنون وعلوم تعارض الإسلام، كما عارضوا، وللسبب نفسه، إدخال التلفزة والفضائيات وإنترنت للبيوت، وها هم اليوم يتربعون على عروشها ويتفننون في استغلال أرقى التكنولوجيات وينشرون فيها كل مخزونهم العفن. عارضوا تعليم المرأة وخروجها للعمل والتعليم والاختلاط وها هم اليوم يجرجرون النساء في المظاهرات، ولا يدانيهم فيها حتى أهل البدع من العلمانيين، بل ويرشحونهن للبرلمانات خضوعا لقوانين وضعية (ما أنزل الله بها من سلطان).
يقول هذا المدلس: (الله العظيم لا يمكن أن يكون في دينه نقص لأن النقص من صفات البشر).
فهل تشريع الرق والغزو والاحتلال والإرهاب والاغتيالات والسبي والعمل بعقوبات همجية نقص أم كمال في هذا التشريع لا يجب إدانته؟ وهل إلغاء الرق، رغم تأخر هذا الإجراء في بلداننا، من البدع؟
ثم يقول هذا المدلس: (أضرب لكم بعض الأمثلة، ولكن على مستوى العالم، هناك بلد مثل الصين، ظهر فيها تشريع يلزم الأسرة بإنجاب ولد واحد، وهذا الموضوع قد تابعته كثيراً، كل شهر يصدر في الصحف خبر صغير عن الموضوع، أول شيء حصل أن كل أسرة في الصين إذا أنجبت بنتًا تخنقها، وإن أنجبت طفلاً ذكراً تسجله ملزمة بولد واحد، فالبنت تُقتَل، وتوأد، والذكر يبقى، فوجئوا أن هناك قرىً بأكملها ليس فيها إناث، كلها ذكور، التقدير الأخير أن هناك خمسين مليون فتى ليس لهم مَن يتزوجهم، وصار هناك نقص في الإناث، ونشأت عصابات تخطف الفتيات في سن الزواج، هذا إنسان شرَعَ من عنده، لكن الله سبحانه وتعالى حينما شرع كان تشريعه كاملاً).
النابلسي يخدعنا وهو يسكت على كون هذه الظاهرة قد حدثت في الصين التي حددت لكل أسرة طفلا واحدا، وحدثت في الهند وفي باكستان اللتين لم تسنا هذا القانون، وتعرض الناس في كل هذه البلدان لنفس المشاكل بعد أن استغلوا التقدم الطبي أبشع استغلال. لكن قرار الحكومة الصينية أصوب لأنها تحملت مسؤوليتها تجاه شعبها بعد أن أنهكته المجاعات، وها هي تتراجع تدريجيا بعد أن حققت المراد بهذا القرار، بينما لا يزال الناس يعيشون أوضاعا بشعة في الهند وباكستان وغيرهما من البلدان مثل بلداننا العربية، بسبب الخضوع لرجال الدين وانفلات التكاثر السكاني. فهل تحديد النسل بدعة نافعة أم مضرة؟
ثم يقول كذبا عن الغرب: (لقد علمتُ لديهم في الأمن الجنائي قاعدة، كلما رأوا جريمة يقولون: ابحث عن المرأة، أغلب الظن أنّ وراء هذه الجريمة امرأة، أو سببها امرأة، أو ضحيتها امرأة، (أما) القاعدة الذهبية في الدِّين: كلما رأيت مشكلةً فابحث عن المعصية..).
هل توجد مثل هذه القاعدة في التشريعات الغربية؟ وهل مشاكل المسلمين تعود أصلا إلى المعاصي بسبب عدم التقيد بالدين أم العكس؟
يقول: (الحقيقة أنّ أحد أسباب تخلف المسلمين كثرة الخرافات والاتجاهات، اذهب إلى أي مكان في العالم تواجهك فِرَقٌ، واتجاهات، وانتماءات، وولاءات، كل يدّعي أنه على حق، ويهاجم الطرف الآخر، هذا المنظر لا يحتمل، تمزق، طعن، خلاف، سوء ظن، هذا لا يمكن أن يكون، وهو سبب تخلُّف المسلمين).
فهل فعلا سبب تخلف المسلمين هو تعدد اتجاهاتهم وانتماءاتهم وولاءاتهم؟ وهل هذا التعدد يمكن وصفه بالتمزق والطعن والخلاف وسوء الظن، أم أن السبب يعود إلى عكس ذلك تماما، بعد أن أثبت التعدد في كل شيء نجاعته في البلدان المتقدمة التي اكتشفت بالتجربة أنه شرط كل تقدم؟ هل هيمنة الفكر الواحد الذي يدعو إليه الإسلام ورجاله بحيث تتحول المعارضة إلى فتنة وشقاق وخراب يعم البلاد قد أفاد المسلمين عبر تاريخهم الطويل الذي تغلب عليه الفتن والانشقاقات والحروب وتشظي الدين الواحد إلى عشرات المذاهب المتناحرة الإقصائية لبعضها البعض؟ إن هكذا موقفا لا يخدم سوى أنظمة همجية من طراز أنظمتنا.
فهل الاختلاف بدعة أم رحمة كما نقرأ في الحديث المنسوب إلى محمد؟ لكن الإسلاميين انتقائيون يجدون بسهولة في موروثهم كل ما يبرر مواقفهم مهما تناقضت.
قراءة مقالات ومداخلات النابلسي تقدم لنا فكرة واضحة عن الأسباب التي أدت إلى خنق كل إبداع في بلداننا، وهجرة المبدعين إلى بلاد الحرية. لكن أن يتخرج أمثال هذا المدلس من المؤسسات (التعليمية والعلمية) الرسمية فهو البرهان الساطع على سخافة كل الدعايات حول وجود مؤامرة كونية مزعومة تستهدف تدمير (أمتنا)، بينما ينطبق علينا قول القائل: يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه.