هجرة المسيحيين العرب… محنة طارئة أم اختفاء قسري؟(1/ 8)

زهير هواري
 مرّ المسيحيون العرب طوال تاريخهم الممتد أكثر من ألفي عام بأزماتوجودية عدة، دفعت كثيراً منهم إلى الفرار باتجاه مناطق أخرى. هجرتهم تتجدد اليوم ويشهد عليها تناقص أعدادهم المستمر في المشرق

الأوصاف التي تتردد في الأبحاث والمؤتمرات والندوات التي تعقد في بعض العواصم العربية والعالمية بما فيها الفاتيكان وتتطرق إلى مسألة الوجود المسيحي في المنطقة العربية تتراوح بين: “الموت المعلن” و”التراجع” و”الرحيل” و”الهجرة الجماعية القسرية” وغيرها من عبارات تقود جميعاَ إلى المعنى نفسه، بما هي حالة من شبه الاضمحلال للوجود المسيحي على الصعيد المجتمعي في المنطقة. ما يدفع البعض إلى رفع الصوت في مطالبة قادة وحكام المنطقة للتنبه إلى هذه الظاهرة التي من شأن استمرارها أن تقود إلى وأد حرية المعتقدات وإلغاء التعددية والتنوع الديني والعقائدي والثقافي الذي طالما عاشته الدول العربية عموماً، والدول التي شهدت وتشهد اضطراباً سياسياً من الأنواع التي تشهدها فلسطين ولبنان والعراق وسورية ومصر، والأردن إلى حدٍ ما، خصوصاً.

الكثيرون يربطون هذا المآل مع بروز ظاهرة نشوء وانتشار التنظيمات الدينية والتكفيرية وممارستها الإرهاب نحو المغايرين عقائدياً لها من مسيحيين وصابئة وأيزيديين، ناهيك عن الصراع المذهبي السني الشيعي الذي يحتدم في العديد من الدول، والذي يغذي ويتغذى من المناخات التي تعيشها المنطقة منذ ما لا يقل عن عدة عقود، إن لم نقل أكثر، ربطاً بهزيمة المشروع القومي العربي في حرب العام 1967 على وجه التحديد، وانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية ومحاولات تصديرها، والحرب العراقية – الإيرانية وحرب الخليج الثانية وصولاً إلى مفصل الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 وما تلاه من مذهبيات باتت تهدد بتفكيك الكيانات القائمة.

مذاهب
قبل البدء برصد أوضاع كلّ دولة من الدول المذكورة كلّ على حدة لا بد من مقدمة تاريخية حول الوجود المسيحي في هذه المنطقة، فالمعروف أن هذا الوجود يعود إلى ما قبل ظهور الإسلام، أي أنه يرتبط بظهور المسيح والمسيحية وما عانته الكنيسة والمؤمنون بتعاليمه وتلامذته الآباء والرهبان المؤسسون من قمع ومطاردة قبل أن تتحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية في القرن الميلادي الرابع. بالطبع عرفت تلك المرحلة وما تبعها انشقاق في الكنيسة، وعقدت العديد من المجامع من أجل رأب الصدع بين مكوناتها، وهو ما لم يتحقق إلى الآن، وصولاً إلى قيام كنيستين شرقية وغربية، ولكلّ منهما قراءته للكتاب المقدس والعقائد الأساسية من نوع طبيعة السيد المسيح الإنسانية والألوهية والطقوس الكنسية وجملة اللاهوت وما يرتبط به من علوم كنسية.

إذاً، عرفت المرحلة السابقة على ظهور الإسلام هذا الانشطار الذي أطاح بوحدة الكنيسة والمؤمنين بها. لكن هذا لم يقد إلى زعزعة الثقل المسيحي السياسي والمجتمعي ووزن المسيحية الراجح التي ورثت العقائد الوثنية التي طالما بسطت أجنحتها على هذه الربوع. قد يفسر هذا الوضع سرعة انتصار الفاتحين العرب المسلمين على الإمبراطورية البيزنطية وخصمها التاريخي الإمبراطورية الفارسية. لكنّ الإسلام ظلّ في غضون المرحلة التي عرفت الدولتين الأموية والعباسية في أطوارها المختلفة دين الأقلية العربية الفاتحة والمهيمنة، بينما احتفظت قبائل كبرى في كلّ الأقطار التي طاولتها الفتوحات بدياناتها المسيحية وغيرها وحصلت على عهود ومواثيق الفاتحين ما أتاح للناس ممارسة عباداتهم وشعائرهم الدينية وإقامة الصلوات في كنائسهم وممارسة القضاء تبعاً للتعاليم المسيحية. لا شك أنّ الوجود المسيحي وبالنظر إلى العمق الحضاري الذي يتمتع به كان بمثابة حاجة ماسة للعرب المسلمين في شتى أنواع العلوم والمعارف والأنشطة، إذ كان العرب في تلك المراحل المبكرة وما زالوا متأثرين بالبداوة والبنية القبلية، بينما بُنية الدولة ومبدأ العمران أو الاجتماع البشري على حد وصف إبن خلدون يتطلب الكثير من العلوم والمهارات التي كان للوجود المسيحي باع طويل فيها.

حملات صليبية
في عصر الدويلات التي رافقت انحلال الدولة العباسية تعرض الكثير من المسيحيين للقمع المتقطع، وتقلصت الرحابة الدينية التي تعامل بها الفاتحون الأوائل على يد قادة وأمراء وملوك كان همهم تكديس الأموال لبذخهم ولتوزيعها على المحسوبين عليهم والمتحلقين حول عروشهم وسلطانهم، ونال المسيحيون الكثير من صنوف التمييز ومصادرة الأموال والثروات، وهو ما لم ينج منه الأثرياء والتجار المسلمون على أي حال. المهم أنّ ذلك حدث في فترات عارضة كانت بعدها تعود الأمور إلى سيرتها الأولى بعد رحيل الحكام المستبدين هؤلاء.

لكنّ الحدث المحوري الأخطر الذي شهدته العصور الوسطى يبقى دون منازع في ما خص الوجود المسيحي هي الحروب الصليبية، أو حملات الفرنجة كما أطلق عليها بدقة المؤرخون العرب، رافعين عنها سمة الصليب الذي يعرفونه من خلال الجماعات التي عاشت في كنف الدول الإسلامية وكانت جزءاً من نسيج المدن والقرى والأصناف أو المهن وحركة الأسواق. الحروب الصليبية التي رفعت الصليب شعارها لم تكتف فقط بتعريض هذا الوجود لمذابح انتقامية وحملات إبادة على أيدي هؤلاء الغزاة، بل زعزعت من التماسك الاجتماعي العربي في الدول التي استهدفتها الحملات، وهي ممتدة بالمناسبة من تونس غرباً حتى القسطنطينية شرقاً وما بينهما من مدن وعمران.

السلطنة
الدولة العثمانية التي ورثت الممالك الصغيرة والدول الضعيفة وكدولة إمبراطورية ضمت الكثير من الأقليات الإثنية والدينية على حد سواء. وقد استوعبت الكثيرين بفعل التأثر بالتجربة التاريخية الإسلامية التقليدية. وعليه ظل المسيحيون يخضعون لما سبق وخضعوا له من تمييز نسبي يعبر عن نفسه في النظام الملي لاحقاً، وفلسفة السلطة ورسومها على نحو الإجمال باعتبارها سلطة إسلامية. ومن المعلوم أنّ مثل هذا الوضع استمر على حاله طوال القرون الأولى من عهد هذه الإمبراطورية. وبفعل شيخوختها تحولت تلك الدولة إلى ثمرة دانية للقطاف من جانب العالم الغربي الذي أوغل في ثورته الصناعية، وبات في حاجة قصوى إلى أسواق لتصريف منتجاته وأيدٍ عاملة ومواد أولية ومواقع استراتيجية. وبالنظر إلى تخلفها في مجالات المؤسسات الدستورية والتعليم والجيش ومختلف العلوم والتصنيع والزراعة وإدارة البلاد، باتت الدولة العثمانية تختصر بالمسألة الشرقية بما هي رجل أوروبا المريض، الذي لم يعد لديه القدرة على رفض قائمة المطالب -الشروط التي كانت تُملى عليه من دول الاستعمار الأوروبي التقليدية ممثلة بفرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وصولاً إلى روسيا القيصرية.

كان هناك عنوانان للاختراق الأوروبي للدولة العثمانية أولهما هو حرية التجارة، والثاني حماية الأقليات المسيحية بعدما أدى ضعف السلطة إلى الفساد المستشري ومضاعفة الضرائب والإتاوات وعمليات البلص (ضرائب تفرض لمناسبات مختلفة) وتزعزع الأمن وبروز التعديات التي طاولت المسيحيين كما طاولت غيرهم من مكونات الإمبراطورية بمن فيهم السُنّة أبناء عقيدة الباب العالي.

الدولة العثمانية وبعدما بات نظام الملل المعتمد فيها خارج العصر، اضطرت في منتصف القرن التاسع عشر إلى الشروع في إقرار الخطوات الإصلاحية تحت وطأة ثلاثة عوامل مجتمعة: أولها الضغوط التي مارستها عليها الدول الأوروبية بعدما باتت تعيش على تناقضات المواقف الدولية، وتقلصت رقعة هيمنة الدولة العثمانية وتداعت هيبتها بفعل الهزائم التي لحقت بجيوشها على أكثر من جبهة وميدان. الثاني يتمثل في التحدي الذي أطلقته تجربة محمد علي باشا في مصر والشام ومشاريعها التحديثية على أنقاض السلطنة العثمانية المترهلة وبلغ حدود تهديدها كيانها نفسه في عقر داره. أما الثالث فكان بروز التوجهات الإصلاحية لدى العديد من متنوري السلطنة أنفسهم الذين باتوا حاسمين تقريباً في أنّ الإصلاح لا مفر منه إذا شاءت هذه الدولة البقاء على حيز الوجود.

انهيار وانتداب
وهكذا تكرست في الخطوط الهمايونية مبادئ التمثيل السياسي والمساواة بين رعايا السلطنة بصرف النظر عن مللهم وأعراقهم، ما يعني فتح أبواب المؤسسات السياسية والإدارية والعسكرية أمام مختلف الفئات التي يتكون منها المجتمع العثماني بمن فيهم المسيحيون، وهي أصلاً لم تكن مقفلة كما يظن كثيرون.

لكنّ هذا التطور الإيجابي مزقته عملياً التدخلات الدولية السياسية والاقتصادية التي باتت جوّانية في كلّ أجزاء السلطنة ما أدى إلى بروز الفتن والثورات، بينما كانت القوى الرجعية من داخل السلطة تدير الدسائس لتدمير هذا المنجز، وتحميل مسؤولية مآل الإمبراطورية إلى الأقليات، باعتبارها مجرد أدوات في ماكينة التدخلات الغربية. وهكذا لعبت التدخلات الغربية والإدارة العثمانية والتأزم الاقتصادي والاجتماعي أدوارها في قيام المجازر في أجزاء عدة من الإمبراطورية، لا سيما في جبل لبنان وامتدت إلى دمشق في العامين 1840 و1860. بالطبع لم تعمر الصيغ التي تم ابتداعها لإدارة هذه المناطق (القائمقاميتان والمتصرفية) طويلاً فقد أعلنت مدافع الحرب العالمية الأولى هزيمة عمليات الترقيع العثمانية وسقطت المنطقة ضحية اتفاقية سايكس – بيكو ثم الانتدابين الفرنسي والبريطاني. ومعها وبعدها برزت مشاريع الكيانات في منطقة الشام خصوصاً: دولة لبنان الكبير، وعد بلفور بدولة يهودية على أرض فلسطين ودولة شرق الأردن ومشاريع كيانات سنية، درزية، علوية في سورية. ضمن هذه التطورات المدوية كان وضع أفراد الأقليات المسيحية ممتازاً على الصعد القانونية والاقتصادية والاجتماعية، إذ إنّ احتكاكهم المبكر من خلال المدارس التبشيرية مع دول الغرب مكّنهم من الحصول على وكالات تجارية للمصانع الأوروبية، كما أن علومهم جعلتهم يشغلون مراكز بارزة في العهود العثمانية والفرنسية والإنكليزية وفي المجتمعات المحلية على حد سواء.

إسرائيل
لم تطل مرحلة الانتداب الأوروبي إذ لم تصل إلى ربع القرن من الزمن، وبرزت العديد من الكيانات الوطنية إلى الوجود من خلال الاستقلالات التي لعب المسيحيون كما المسلمون دوراً رائداً في انتزاعها من خلال نُخبهم السياسية والثقافية، ما اضطر الدولتين المنتدبتين فرنسا وبريطانيا إلى إجلاء جيوشهما عن المنطقة العربية. الحدث المحوري الثاني والأبرز تمثل في قيام دولة إسرائيل بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو حدث سيشحن المنطقة بالصراعات منذ العام 1917 مروراً بمحطات بناء ركائز المشروع الصهيوني، ثم تأسيس الدولة العبرية وصولاً إلى حدث النكبة، وما نجم عنها من أحداث انقلابية في العديد من الدول العربية، أدت إلى القضاء على الحياة الدستورية والبرلمانية، والتأثير الفادح على منظومة الحياة الديمقراطية بمنوعاتها من صحافة وأحزاب ونقابات، لصالح تمركز السلطة في المؤسسة العسكرية بفعل المقولة الرائجة في حينه أولاً القائلة بتحرير فلسطين المنكوبة، وثانياً المنادية بعد العام 1967 بإزالة آثار العدوان عن سورية ومصر والأردن، وبناءً عليه دوّى شعار: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

في صخب المشروع القومي حافظ المسيحيون على حضورهم في مختلف القطاعات ولا سيما الاقتصادية والتربوية والتعليمية والثقافية والاجتماعية. صحيح أنّهم لم يكونوا في بعض الدول ذوي حضور وازن في السلطة، إلاّ أنّهم كانوا ممثلين في مختلف مراتبها، من المجالس النيابية الباقية إلى الحكومات، فضلاً عن الإدارات العامة بمواقع غير رئيسية. ومن دون إطالة شرح يمكن القول إنّ القوى العسكرية التي وعدت بالتحرير والتنمية والتقدم وقيام الدولة الحديثة تهاوت تحت مطرقة الضربات الإسرائيلية والنزاع على السلطة، الأمر الذي أدى إلى انتعاش الديكتاتورية ونمو التيارات الظلامية على حساب التيارات الليبرالية والعلمانية اليسارية على حد سواء، ومعه بدأت رحلة التراجع المسيحي الجلي، في سياق التراجع العربي العام.

كلّ هذه مجرد مقدمات لما نعيشه الآن من ضمور لوزن ودور وأعداد المسيحيين في المنطقة العربية، فكيف ارتسمت الصورة بعد تدقيق هذه اللوحة البانورامية؟

*باحث وأستاذ جامعي

(المصدر: العربي الجديد)

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.