نادين البدير: أبي… أريد وقتاً إضافياً

الراي

 أريد أن أعود طفلة تختبئ داخل عباءته. كانت هذه عادته، أن يرتدي عباءته ويخفيني داخلها ثم يسير في المنزل قبل الإفطار يسأل عني كأنه أضاعني. وأضحك للخدعة عالياً لدرجة أن صوت ضحكاتي باق يرن بأذني إلى اليوم.

أريد وقتاً إضافياً. أريد أن أعيد الكرة، أن أعود من يوم مدرسي فأخبره بدرجاتي العالية لأراه يبتسم قائلاً (هذه الوحيدة اللي طلعتلي) وأتنهد لحظتها بارتياح كبير كأني أنجزت كل فروض العلم.

أريد وقتاً… أعبر به عن أشياء لم أتمكن من التعبير عنها في حينها. لما يعجز القدر عن منحنا أوقاتاً إضافية؟

ماذا سيحدث لو يزيد الوقت قليلاً أو يعود قليلاً؟ ما الانهيار الكوني الفظيع الذي سينجم عن ذلك؟ هل ستسقط النجوم أو تغير الشمس مسارها؟ لِمَ نحن محرومون من استرجاع الماضي؟

كنت أعرف كل تفاصيله اليومية. لم يغمض جفني يوماً قبل أن يرجع إلى البيت وأتأكد من نومه. جدوله لا يتغير ونظامه صارم لا يتحرك. أعرفه أكثر مما عرفته كل زوجاته. وهو لم يدرك ذلك أبداً.

رمضان يذكرني به كثيراً وبجمال زمان. بالنسبة لي الذكريات التعيسة أكثر رحمة من الذكريات الجميلة. الأخيرة قاسية.

بالنسبة لي. هناك جو يستحيل أن يتكرر، أو هكذا أظن. بعد الإفطار. الشاي بالنعناع، أعداد كبيرة من العائلة، فوازير رمضان، أحاديث لا تنتهي وأمان بلا حدود. وأنا كنت صغيرة، ربما لم يشعروا بي كثيراً لكني كنت أشعر بهم جيداً وأرقبهم بدقة وأحفظهم جميعاً. لم أكن أهوى الجلوس مع الأطفال، كان مجلس الكبار أكثر إقناعاً، يكفي أنه كان يتصدره. وظننت لسنوات أن كل شيء سيدوم قبل أن يقسو الزمن ليقنعني بأني كنت أمر بوقت اسمه الطفولة. نعم. أريد مزيدا من تلك المرحلة. لا تقولوا ان مرحلة الطفولة ساذجة. فالطفل أحياناً يكون أكثر رشداً، كنت طفلة قوية متماسكة لا تشعر بالضعف.

أرادني أن أكون أقوى النساء. لم أعرف حتى اليوم من تكون المرأة القوية بنظره. لم يقتنع لحظة بحياة السيدة المحلية السطحية. اعتبره جرماً الا تكمل الفتاة تعليمها وجرما ألا تشارك في العمل والتنمية. لذا أدين له بأكثر طموحي، إذ دون أن يشعر تركني أحلم بلا حدود.

وحين قررت أن أبوح وأشرك العالم بوحي. كان أكثر قارئ جمع مقالاتي. كلها دون استثناء. يبحث عن اسمي بين الصحف، يجمعها في ملفات ويضعها في خزانة بمكتبه. ويراجعها كل حين ليتأكد من اكتمال عددها.

لطالما قارنته بالأوطان العربية. يذكرني كثيراً بوطني. تعطيه حباً فيبادلك شعوراً مجهولاً لا تعرف ماهيته أو متى بلغته الإنسانية. تنظر له بحنان فيرمقك بنظرة لا تفهم منها أهو راض عنك أم غضبان. وقد يحدث أن يبتسم لك فتنحني الدنيا كلها أمام جلال سعادتك. ومثل رائحة وطني التي أميزها ولو كنت على بعد آلاف الأميال، هناك رائحة له أشتمها ليل نهار. يحاصرني القدر بها ليل نهار… رائحة عطره مخلوط برائحة سيارته مخلوط برائحة مستودعات بضائعه حيث كان يصطحبني وحيث كنت أرافقه بفضول وسعادة.

تمضي في الحياة متوهماً أنك على خلاف مع الوطن ثم تكتشف أن اقترابك منه ونقدك الحازم له ما هو إلا حب عظيم ينمو بداخلك وتحاول المستحيل لتحجيمه فلا تتمكن. لم أتوصل إلى تناقض هذه المشاعر سوى حديث. أتظنون أن الوقت قد تأخر؟

كان لي مقعد إلى جانبه على طاولة الطعام (تذكره بابا؟ ) لم يجرؤ فرد من العائلة على الجلوس مكاني منذ طفولتي حتى كبرت. ولي صور كثيرة معه في المطاعم والمقاهي وبأسفارنا كلها تظهر مقعدي إلى جانبه، أجملها وأنا في الثالثة وهو يعلمني كيفية الإمساك بالشوكة والسكين. ترى ما سيكون مصير كل تلك الصور؟

كتبت هذا المقال لأني لم أعد أستطع تحمل ذكرى اختبائي داخل عباءته. وأريد من يحملها عني حين أبوح بها هنا.نادين البدير – مفكر حر؟‎

About نادين البدير

كاتبة صحفية سعودية , قناة الحرة
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.