قراءة في مانيفستو المسلم المعاصر لجمال البنا (تابع)

يقول السيد جمال البنا: “إن الصورة النمطية لشخصية المسلم التي تتسم عادة بالسلبية والماضوية والتركيز على الطقوس والشعائر ليست هي صورة المسلم أيام الرسول، ويعود هذا الاختلاف إلى أن قصر مدة الرسالة النبوية والخلافة الراشدة (30 سنة)، لم تكن كافية لتعميق جذور الشخصية الإسلامية، ثم جاء الملك العضوض، وتدهور الخلافة وسد باب الاجتهاد لأكثر من ألف عام، وغلبة الجهالة والاستبداد.. الخ، وتمخض هذا كله عن الصورة المعروفة اليوم والتي تتقبلها وتبقي عليها المؤسسات الدينية والنظم الحاكمة لأسباب بالقصور، أو الإبقاء على المصالح المكتسبة”.

فما هي، سيدي، صورة المسلم أيام الرسول التي لم تكن تتسم بالسلبية والماضوية؟ بل هل وجدت فعلا في تاريخنا وفي تاريخ الشعوب القديمة صورة إيجابية يمكن الاعتداد بها اليوم ومفاضلتها مع منجزات الحداثة وحقوق الإنسان؟ في الواقع هناك صورتان لذلك المسلم أيام الرسول. صورة يروجها رجال الدين وتستبد بعقول الناس البسطاء عن فردوس مفقود كله محبة وإيثار وتعاون وعدل ومساواة ظلت القصص الخرافية عن ذلك العهد تنسجها وتجمّلها. وهناك صورة أخرى لذلك المسلم الإيجابي في نظر الكاتب الذي كان مستعدا لتلبية نداء الرسول فيمتشق سيفه ويمتطي صهوة فرسه ويسير نحو غاية رسمها له النبي هي غالبا من أجل القيام بغزوة دافعها الأول الاحتلال والاغتصاب والسبي قبل دافع محاربة الكفر وتوحيد الله.

وأنا كمسلم بالوراثة عايشت الشخصيتين: شخصية المجتمع الجزائري عندما كان الناس يمارسون دينا طقوسيا فيه الكثير من السذاجة الممزوجة بالطيبة والمكر والإيمان بإسلام كله إيجابيات ثم عايشت مجتمعا جزائريا تمت أسلمته من جديد فصار أكثر تطرفا وتشددا تجاه بعضه حتى تسببت في حرب أهلية دامية بين الإخوة والجيران وأبناء الوطن الواحد وسالت الدماء غزيرة.

أحب هنا أن أدعو القارئ إلى قراءة الفقرة السابقة للكاتب على ضوء قول القرضاوي التالي:

قال القرضاوي: ((والشهيد سيد قطب (رحمه الله) رغم شدته على التاريخ الإسلامي، بعد عصر الراشدين، وحملته القاسية على بني أمية في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” لم يسعه إلا أن يعترف بأن الإسلام ظل راسخ البناء، مرفوع اللواء، منفردا بالفتوى والقضاء والتشريع للأمة الإسلامية، في كل شئونها، اثنى عشر قرنا من الزمان)).

ثم أكد القرضاوي رأي سيد قطب قائلا: ((من الظلم البيّن لحقائق التاريخ أن نطلق الحكم على جميع خلفاء بني أمية، وبني العباس، وآل عثمان، وسلاطين المماليك في مصر والشام، وملوك المرابطين، والموحدين، وغيرهم في المغرب، وسلاطين المغول في الهند، وغيرهم: بأنهم كانوا ـ جميعا ـ ظلمة وفجرة، ومنحرفين عن عدل الإسلام، ونهج الإسلام. فالواقع أن هذا ليس من الإنصاف في شيء، فقد كان من هؤلاء كثيرون، اتصفوا بكثير من العدل والفضل وحسن السيرة، ولا سيما إذا قورنوا بغيرهم من حكام العالم في زمنهم)).

فما الموقف الإسلامي الصحيح؟ وهل طبق المسلمون طوال تاريخهم الطويل هذه الشريعة فلم تزدهم إلا انحرافا واستبدادا وتخلفا وانحطاطا أم لم يطبقوها حسب السيد البنا فسادهم “الملك العضوض، وتدهور الخلافة وسد باب الاجتهاد لأكثر من ألف عام، وغلبة الجهالة والاستبداد”؟

القرضاوي يستنجد بمفكر آخر، غير إسلامي، هو محمد عابد الجابري حين يقول: “أنا لست من رجال القانون، ولكن اهتمامي بالتراث يجعلني أشعر بالقلق والانزعاج، عندما أسمع من يقول: إن الإسلام أو الشريعة الإسلامية ـ بالتحديد ـ لم تطبق منذ عصر الخلفاء الراشدين، يقلقني هذا القول بأن شريعة “لم تطبق” طوال أربعة عشر قرنا الماضية، ويدفعني إلى التساؤل: وهل يمكن تطبيقها في المستقبل؟ وكيف؟ إن هذا القول يؤدي إلى عدمية مخيفة. فأين سنضع آلاف وعشرات الآلاف من الفقهاء، الذين عرفهم تاريخ الإسلام؟! أين سنضع كتب الفقه والاجتهادات والفتاوى؟! على كل حال فأنا مسلم، ويقلقني القول أن الإسلام أو الشريعة الإسلامية لم تطبق منذ عهد الراشدين، لأنني في هذه الحالة أجدني أتساءل عن حقيقة إسلام أجدادي وأسلافي: ألم يكونوا مسلمين؟! ألم يطبقوا الشريعة في عباداتهم وعقود زواجهم وكثير من معاملاتهم؟! أعتقد أنه يجب الحرص على النظر إلى التراث، إلى الشريعة، والفقه وغيرهما، نظرة تاريخية، وإلا سقطنا في العدمية، نحن نقول: الإسلام دين ودولة، نعم، وقد كان ذلك بالفعل، أما إذا قلنا: إن الشريعة لم تطبق منذ الرسول، أو منذ الخلفاء الراشدين، فمعنى ذلك أن الإسلام لم يكن دينا مطبقا، ولا كان دولة طوال أربعة عشر قرنا، وهذا غير صحيح تاريخيا، وغير مقبول منطقيا، إنه قول يجر إلى عدمية مخيفة، تتركنا بدون هوية، بدون تاريخ، وبالتالي بدون حاضر، وبدون مستقبل، فهل نقبل بهذا؟!”

http://www.qaradawi.net/site/topics/article.asp?cu_no=2&item_no=804&version=1&template_id=90&parent_id=1

السيد جمال البنا يقول: لا لم يعملوا بها إلا مدة قصيرة (عهد النبوة والخلافة (الراشدة)، بينما سيد قطب ويوسف القرضاوي والجابري يقولون: نعم عملوا بها، وأنا أؤيدهم فأقول، أيضا، نعم طبقوها فغزوا واحتلوا وتوسعوا وحكموا الأرض ومن عليها بالإسلام وشريعته وبنوا حضارة لها ما لها وعليها ما عليها ولكنها حضارة بشرية استندت إلى نصوص بشرية وعرفت انحرافات بشرية مهما ادعت لها من العصمة والقداسة. ثم دارت على بلاد الإسلام الدوائر وابتليت بالتفسخ الداخلي شأن غيرها ثم الغزو الخارجي والتردي في انحطاط طويل مازال رابضا على صدرونا حتى اليوم لسبب بسيط وهو أننا مازلنا نشرب نفس الدواء الذي تعاطاه أسلافنا طوال قرون بلا جدوى وحان الوقت لمصارحة بعضنا حول فشل هذا الدواء أي فشل الحلول التي ابتكرها الأسلاف استجابة لعصرهم وبناء على مستوى المعرفة عندهم وهي عاجزة عن هدايتنا اليوم.

الإسلام طبق وبلغ حدوده وأي زعم آخر لن يساهم إلا في نشر الأوهام بين الناس وتعطيل فهم الناس للحداثة ومنجزاتها والسير على هداها.

ثم يكتب السيد جمال البنا: “لما كان القرآن قد جعل مبرر سجود الملائكة لآدم هو تملكه لمفاتيح المعرفة التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات، والتي تنقذه من الخرافة، فيفترض أن تكون المعرفة هدفا رئيسيا للمسلمين وما يتبع هذا من استخدام العقـــــل، وما يثمره من علم وحكمة ويجب على كل نظام إسلامي أن يشيع الثقافة والمعرفة، ويفتح النوافذ عليها، ويهيئ كل السبل التي تيسر للجماهير معارف ومهارات العصر.”

هل بيئتنا الحاضرة جاهزة مثلا لتسمع رأيا آخر حول كون المعرفة التي بين أيدينا الآن قد راكمها الإنسان على مدى عشرات الآلاف من السنين بجهده وكده لا غير، فكيف يعقل أن يتملك آدم مفاتيح المعرفة ثم ينساها أبناؤه بينما يقول لنا تاريخ البشرية بأن المعرفة ظلت تتراكم كما ونوعا وليس العكس. لنأخذ اللغة كمثال. في العالم الآن تقدر بعض الإحصاءات عدد اللغات المتكلَّم بها بأكثر من 6500 لغة. بعضها متقاربة تعود إلى جذر واحد وبعضها متباعدة جدا لا يمكن أن نتصور أن بينها أية قرابة. فما كانت لغة آدم إذن؟ كذلك فإن علماء اللسانيات يتفقون على أن اللغات تطورت عبر العصور من مجرد أصوات تحاكي أصوات الحيوانات والطبيعة إلى ما نعرفه اليوم من تنوع شديد وثراء مدهش. ولا يصدق عالم لغة واحد أن الإنسان الأول ظهر فجأة بلغة واحدة كاملة مكتملة ثم نسيها وبدأ من الصفر.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، بوسعنا أن نسأل الكاتب: ما منع المسلمين طوال قرون من تطوير معارفهم حتى صاروا اليوم في مؤخرة الركب؟ ألا يتحمل الإسلام مسؤولية ما، في هذا، كونه كان ومازال المصدر المهيمن للثقافة وللحقيقة وكونه قد رسخ في أتباعه عقلية اكتفائية لم تعد ترى بعدها أنها في حاجة إلى التعلم والابتكار والتفتح على الغير. فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، كما ظل يردد رجال الدين لمواجهة كل نزعة تجديدية، حتى صارت البدعة ترادف الإبداع؟ كيف لا وقد ترك النبي لنا أمرين، كما يزعمون، لن نضل ما تمسكنا بهما: كتاب الله وسنة نبيه؟

وعندما يقول الكاتب: “نؤمن بحرية الفكر، وأنها أساس كل تقدم، وأنه لا يجوز أن يقف في سبيلها شيء، ويكون الرد على ما يخالف ثوابت العقيدة بالكلمة لا بالمصادرة أو الإرهاب أو التكفير وليس هناك تعارض بين حرية الفكر المطلقة والدين لأن الدين يقوم على إيمان، ولا إيمان بدون اقتناع وإرادة ولا إرادة أو اقتناع إلا في بيئة تسمح بالدراسة الحرة، والإرادة الطوعية والنظر الدقيق، وفي القرآن الكريم قرابة مائة آية تقرر حرية العقيدة بصفة مطلقة وأن مردها إلى الفرد نفسه ولا دخل للنظام العام فيها مثل “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”، “فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ”، “وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ”، و”وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ”، و”أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”.

فإذا كان إيمان الكاتب “بحرية الفكر، وأنها أساس كل تقدم، وأنه لا يجوز أن يقف في سبيلها شيء، ويكون الرد على ما يخالف ثوابت العقيدة بالكلمة لا بالمصادرة أو الإرهاب أو التكفير وليس هناك تعارض بين حرية الفكر المطلقة والدين… الخ.” هو إيمان اكتسبه من قناعة شخصية مستمدة من تأثره بالفكر الإنساني الحديث وما أفرزه من فلسفات ومذاهب ومواثيق دولية مجدت الحرية، فبها ونعمت، ويستحق كل الاعتراف. أما إذا كان يعتقد ويريد أن نعتقد معه أن هذا الإيمان هو من صميم الإسلام فهذا في رأيي مغالطة مرفوضة. ولا يكفيه سرد بعض الآيات لنوافقه على ذلك. ذلك أنه بوسعنا أن نجد عددا آخر من الآيات تنسخها، يوازي عددها أو يتجاوز عدد آياته، وتثبت لنا العكس: أي عداء الإسلام لحرية الفكر وأنها ليست من ثوابت العقيدة وأن هناك تعارض بين حرية الفكر المطلقة والدين: ” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا”.

فها هي هذه الآية تكفر وترهب وتصادر حق وحرية كل من يخالف ثوابت العقيدة. أليس ما قضى الله ورسوله من ثوابت العقيدة؟

وعندما يقول الكاتب “ولا توجد الحرية إلا بتقرير حرية إصدار الصحف والمطبوعات وتكوين الأحزاب والهيئات والنقابات وبقية مؤسسات المجتمع، وحرية هذه الهيئات في العمل لتطبيق أهدافها ما دام ذلك يتم بطرق سلمية. ونحن نرفض تماما دعاوى التكفير والردة، ونكلها إلى الله تعالى يفصل فيها يوم القيامة، كما قرر القرآن ذلك وطبقته ممارسات الرسول”.

فهل قرر القرآن ذلك وهل طبقته ممارسات الرسول؟ لماذا إذن لم يكن المسلمون هم المبادرون إلى هذه الممارسات تنفيذا لقرار الله واهتداء بسنة نبيه؟ بل لماذا مازالوا يعارضونها حتى الآن؟ رأيي أن العكس هو الصحيح. فيد الله مع الجماعة والخروج عليها كفر بواح، والإجماع هو أحد مصادر التشريع الإسلامي والخروج عنه ممقوت كان يؤدي دائما إلى الإقصاء، ثم كيف نفهم آية ((وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ))، وآية (إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ(.

ومع ذلك فـ “تقرير حرية إصدار الصحف والمطبوعات وتكوين الأحزاب والهيئات والنقابات وبقية مؤسسات المجتمع، وحرية هذه الهيئات في العمل لتطبيق أهدافها ما دام ذلك يتم بطرق سليمة”. (لعل الكاتب يريد أن يقول “سلمية” وهو الأقرب في رأيي) هو من صميم حكمة الغرب. ومن حكمة هذا الغرب المبدع أيضا ما يقوله الكاتب: ” يجب أن يكون العدل أساس التعامل بين الحكام والمحكومين، الرؤساء والمرؤوسين، الرأسماليين والعمال، الرجال والنساء..الخ، لأن كل ما يمت إلى عالم العمل والعلاقات لا يمكن أن يستقر إلى على أساس العدل ولا يجوز إعطاء فئات.. سلطات تمكنها من أن تحيف على حقوق فئات أخرى، إن هذا نوع من الظلم الذي يماثل الكفر، ويجب أن لا يسمح به”.

لكن الكاتب يأنف من الاعتراف لهم بهذا الفضل فيقول: “إن الإيمان وحده هو الذي يولد الطاقة المجانية اللازمة ويوظفها لدفع التنمية وتجاوز المعوقات دون حاجة للاستثمارات التي تفسح المجال للتبعية والسير في مسار وإسار الدول الكبرى. وأي محاولة لتنمية تستسلم لادعاءات البنك الدولي أو تقلد النماذج الأوربية والأمريكية لن تسفر إلا عن مزيد من التخلف والفاقة والتخبط”.

وهو موقف فيه الكثير من المكابرة التي أضاعتنا وجعلتنا لا نريد أن نجلس مهذبين لنتعلم ممن عنده العلم كما فعلت شعوب آسيا في بلاد الليفانت. هل يجوز هذا الخلط بين منجزات الحداثة في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وبين حرصنا على إقامة علاقات متكافئة مع الغرب تحفظ مصالح الجميع المتبادلة. هل يعقل أن نتصرف وكأننا نسير في طريق مجهول غير مطروق وغير مجرب، فنضرب عرض الحائط كل المنجزات الحديثة بحجة أن لنا في تراثنا ما يغنينا، وبما أننا لا نملك في تراثنا ما يغنينا، نلجأ إلى السطو على منجزات الغير ونسبتها إلينا وتحميل التراث ما لا يحتمل مثلما نفهمه من قول الكاتب: “إن كل ما جاءت به الشريعة من أحكام كانت تحقق المصلحة والعدالة، فإذا جاوز التطور النص أو جعله لا يحقق المصلحة والعدل، فيجب تغييره بما يحقق المقصد الذي أنزل من أجله، واجتهادات عمر بن الخطاب معروفة، وقامت على هذا الأساس”.

هل فعلا أن “ما جاءت به الشريعة من أحكام كانت تحقق المصلحة والعدالة” ولو في فترة ضيقة من تاريخ المسلمين المبكر؟ التاريخ لا يؤكد هذا الزعم بل ويؤكد عكسه خاصة عندما نقارنه بما تحقق اليوم في مجتمعات العالم المتمدن من فتوحات عظيمة في مجال الحقوق والواجبات وإدارة السلطة والصراعات الاجتماعية بطرق سلمية. لماذا يجب أن نستمر في المكابرة إرضاء لعزة نفس زائفة وعدم التحلي بالتواضع المطلوب؟ لماذا علينا أن نواصل إلى الأبد تطويع ما لا يقبل التطويع، ولا نستنتج بكل شجاعة أن لجوء عمر بن الخطاب مثلا إلى تجاوز بعض النصوص هو حجة على الإسلام وليس له كون شريعته (الربانية) لم تقو على الصمود أمام المتغيرات بعد عشرين أو ثلاثين سنة من (نزولها) فقط؟

لهذا يجب أن نرفض نصيحة الكاتب وهو يقول: “إن التحدي العملي الذي يجابه الدول الإسلامية اليوم هو التخلف اقتصاديا وعسكريا وسياسيا واجتماعيا، ولا يمكن وقف هذا التخلف إلا بجعل “التنمية” معركة حضارية تتم تحت لواء الإسلام باعتبارها النمط المطلوب من “الجهاد”… إن الإيمان وحده هو الذي يولد الطاقة المجانية اللازمة ويوظفها لدفع التنمية وتجاوز المعوقات دون حاجة للاستثمارات التي تفسح المجال للتبعية والسير في مسار وإسار الدول الكبرى. وأي محاولة لتنمية تستسلم لادعاءات البنك الدولي أو تقلد النماذج الأوربية والأمريكية لن تسفر إلا عن مزيد من التخلف والفاقة والتخبط”.

نرفض هذا لأننا نرفض أن يضعنا الإسلاميون بين خيارين لا ثالث لهما: إما السير تحت لواء الإسلام أو قبول تهمة التبعية للغرب عند تبني مشروع حضاري ديمقراطي علماني حداثي ندافع عنه.

بعد هذا الخلط يقول الكاتب: “هناك حقيقة تصل إلى مستوى البدائه، وإن أخفتها الغشاوات الكثيفة، تلك هي أن على كل جيل أن يعيش عصره دون الإخــلال بالقيم العظمى للإسلام، لأن هذا علامة صحة وتطبيق لعالمية الإسلام وموضوعيته وصلاحيته لكل زمان ومكان..”.

فكيف يعيش جيلنا عصره إذا كان يكابر ويستنكف من التعامل مع الحضارة العالمية الحديثة ولا يقبل منجزاتها إلا إذا أخضعها ومررها على غربال الدين وشريعته و(دون الإخــلال بالقيم العظمى للإسلام) عبر مواصلة الاعتقاد بعالميته وموضوعيته وصلاحيته لكل زمان ومكان وغير ذلك من الأوهام.

ولا يكفي أن يقول الكاتب: “إن الإسلام لا يحتكر ـ وحده ـ الحكمة، ولكنه ينشدها أنا وجدها، وهو يتقبل كل الخبرات ـ كما أنه يقدم خبراته “فإما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” من هنا فإن النزعة الماضوية الانعزالية واتخاذ نمط المجتمع الذي كان موجودا من قبل باعتباره النمط الأمثل، والضيق بكل مستجدات العصر من فنون وآداب، والنظرة المتخلفة للمرأة وحبسها وراء الأسوار، كل هذا يخالف جوهر الإسلام، وعالميته وصلاحيته لكل زمان”.

لا يكفي هذا الكلام لأنه غير صحيح مطلقا مادام الكاتب يضع شرط عدم (الإخــلال بالقيم العظمى للإسلام) التي لا يكاد يتفق عليها الإسلاميون كما رأينا من أقوال سيد قطب والقرضاوي وجمال البنا. فما يصفه بالنظرة (المتخلفة للمرأة وحبسها وراء الأسوار)، هو من صميم الإسلام ولا يخالف جوهره، كما يزعم. وهذا فيض من غيض من تعاليم الإسلام يجب تجاوزها بل وإحداث القطيعة معها لأنها لم تكن أبدا إنسانية ولا هي اليوم صالحة. هذه القطيعة لا أمل في تحقيقها ما لم نقتنع بجدوى العلمانية وبضرورة جعل الدين مسألة فردية خاصة لا شأن لها بالدولة وبالسياسة وبحريات الناس.عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.