الخروج إلى النهار

تناولت زجاجة العطر القديمة من فوق التسريحة بأطراف أصابعها، يكسوها التراب ممتلئة حد المنتصف بسائل أصفر غامق شفاف زيتى القوام، نزعت غطاءها الذى تقشرت بعض أجزاء طلاءه، وقربتها من أنفها بحذر فبدى على وجهها إمتعاض وسرعان ما أبعدتها عن أنفها كأنها تحتوى مادة حارقة.. أعادت الغطاء وأرجعتها للتسريحة ثم مدت أصابعها تزيح خصلات شعرها الى خلف أذنها وبحركة تلقائية ألقت بنظرة سريعة على وجهها فى المرآة فظهرت صورتها متعرجة مشوهة، قربت وجهها أكثر وفى محاولة لتفادي المساحات المغبشة بالنقاط السوداء التى أصابت طلاء المرآة الأثرية المثبتة فى تسريحة غرفة نوم أمها، فتبينت وجهها بصعوبة وخاصة مع ضوء الغرفة الخافت وقد زحفت إلى ملامحه آثار الزمن والانتظار فزادها هذا المنظر شعورا بالاستياء، فضلا عن الاحساس بالهرم الذى بات يملؤها والذى زاد بسبب مرافقتها المستمرة لأمها المشلولة منذ سنتين فى نوبتجيات منتظمة ومتبادلة مع جارتهم أم صفوت، السيدة المسنة وصديقة أمها منذ سنوات طويلة، بالاضافة لهذا الحارس بلا أجر ” رجب زغاليل ” هذا المسكين معتوه الحى الذى لا يبرح باب العمارة منذ مرضت والدتها، وهو دائم السؤال عن أمها بحروفه المتساقطة مع لعابه المستمر، ونظرته المتضرعة للسماء رافعا أصبعه مشيرا الى أعلى بوجه تعبيراته باكية حزينة. بالطبع لم يكن ممكنا الاعتماد عليه فى موالاة أم سهام لكن وفاءه كان لافتا للنظر، وفاءً نادرا وعرفانا غير متوقع من معتوه.

مشت مبتعدة عن المرآة بملل من يحاول تبديد الوقت، دارت بنظرها فى الغرفة تتأمل ربما للمرة الألف الستائر المخملية نبيذية اللون ، والتى طبع الغبار والاهمال والقدم آثارهم على ثنياتها وبراقعها.. ، ورق حائط على شكل تقليمات عريضة لونها أخضر باهت مائل للاصفرار تمزقت بعض أجزاءها ، تصدر الأرضية الخشبية المتآكلة صريرا وقرقعة مع كل خطوة تخطوها سهام فكانت تتعمد أن تضع قدمها على السجادة المهترئة حتى لا يوقظ صوت قرقعة الخشب أمها المريضة بسبب وقع أقدامها، فكانت تقفز وكأنها تتلافى بالوعات مفتوحة فى الشارع.

وفى كل مرة تحدث نفسها : عندما تتحسن أمى قليلا سوف أنظف لها هذه الستائر.. سأقوم بطلاء هذه الحوائط بدلا من الورق الكالح..سأشترى لها سجادة جديدة بدلا من القديمة..ولم تفعل أبدا.

كثيرا ما تساءلت سهام، لماذا تتمسك أمها بهذه الكراكيب، ولماذا لم توافق أبدا على التفاهم مع صاحب العقار للحصول على مبلغ من المال والتنازل عن هذه الشقة الضخمة كبيرة المساحة والانتقال لحى راقى فى المدن الجديدة أو لشقة أكثر عصرية ولا سيما بعد أن خلت هذه الشقة عليها منذ وفاة والد سهام، ولم تعد تستخدم معظم حجراتها.

كانت أمها تردد دوما: بيتى مش حاسيبه ولا أفرط فيه إلا وأنا رايحة القبر.. يا بنتى ده كل ركن فيه شايل حتـَّة من ذكرياتى أنا والمرحوم أبوكى : هو حد طايل شقة زى بتاعتنا دى النهاردة ..!! ثم تلكظها أعلى ساقها بحركة فيها الكثير من التدليل وكأنها تقرصها فى محاولة لإغراء سهام وبابتسامة : ده حتى الشقة دى فيها كنز.

هذا كان إيمانها دوما ان لديها فى هذه الشقة كنز، هكذا أقنعها زوجها والد سهام مدرس التاريخ، شقتهم كانت تقع فى الطابق الثانى من عمارة قديمة ذات ثلاثة طوابق بنيت فى أوائل القرن الماضى بحي الظاهر، ويصل فيها ارتفاع الطابق الواحد إلى حوالى خمسة أو ستة أمتار بسلالم رخامية تجوفت درجاتها عند أوسطها بفعل الاستخدام ودرابزينات من الحديد المشغول على شكل أوراق نباتات يعلوها جزء خشبى، وبسطات بمساحات كبيرة أمام ابواب الشقق مكسوة بالرخام الملون، كثيرا ما شهدت لعبها وأخيها الأصغر مع أولاد الجيران.

تتذكر سهام مزاحها ردا على كلام أمها أثناء استعدادها للذهاب الى الجامعة فى صبح أحد أيام الدراسة منذ سنوات، تعقص شعرها أمام المرآة المثبتة فى البوفيه وتنحنى لترتدى حذائها سريعا ثم تفتح أدراج تخرج أدوات ثم تغلقها..تستدير وتنظر لقوامها فى المرآة : كنز ..!! يعنى لو البيت ده فيه كنز سايبانى ليه ألبس الجزمة المنيلة دى..!! والبنطلون اللى طلعان روحه ده ؟؟ ما تشوفينا بحاجة من الكنز بتاعك ينوبك ثواب.

تحذر أم سهام إبنتها بجدية واضعة سبابتها على شفتيها وتقطب جبينها وهى تنظر نحو شباك المنور المفتوح: ششششششششش. بس يا هب الريح انتى الجيران يسمعوكى، ياللا إنزلى على كليتك يمكن تنفعك وما تنسيش تعدى على أم صفوت قولى لها ماما معلــَّقة عالقهوة.

نظرت لأمها الممدة بالفراش وكأنها قطعة من الخبز المقدد، تفتح عينيها المرهقتين من حين لآخر تنظر للدولاب وتشير بأصبعها إليه أو ترفع عينيها للسقف فى تضرع ثم ينسدل الجفنان دون إرادة منها وتنسحب فى غياب غير معروف إن كان غيبوبة أو نوم.

تأملت سهام صورة والدها المعلقة على الحائط المقابل لفراش أمها، يرتدى سترة مقلمة وقميصا غالبا أبيض وربطة عنق بلون غامق قد يكون كحلى او بنى او أسودـ لا يمكن الجزم ـ شاربه الدقيق المرسوم كخط فوق فمه الواسع نسبيا مع ابتسامة خفيفة وعيون تشبه عيون الممثل كمال الشناوى، نصف رومانسية على نصف خبيثة، تليها صورة أخرى أبيض وأسود أيضا لجدها الشيخ الأزهرى يرتدى الجبة والقفطان والعمامة وتبدو كما لو كانت صورة مرسومة بالفحم تطغى على الصورة وملامح الجد ضبابية وإصفرار.. معلق على الحائط أيضا كف وبه خرزات زرقاء وأسفله عين حورس الفرعونية المصنوعة من النحاس بحدقة مصنوعة من فص أزرق.

تجاورهم صورة العرس لأمها وأبوها، تتأبط أم سهام ذراع الأب ويبدو وجه العروس مشدوها، صور أخرى فيها أشخاص من العائلة حفظت أشكالهم سهام وكانت تحب أن تعيد أسماءهم فى طفولتها مع أمها فى أيام الجمعة حيث تجلس أم سهام لترتق جوارب زوجها فى وقت غيابه للصلاة فى المسجد المجاور لبيتهم، والشمس تمد أشعتها على الفراش وتنبسط على أرض الغرفة بالكامل.

ده عمو سليمان ودى طنط كوثر ودول ولاد طنط عزيزة دى صورتنا فى المصيف عند عمو سعيد القاضى.

ابتسمت سهام حين تذكرت ونظرت للأرض وهى عاقدة ذراعيها، تضم كتفيها وتكشُّهم لأعلى وتشدّ الشال حولهما فى حركة كأنها قد شعرت بالبرد فجأة.

استندت برأسها على حائط فاصطدمت نظراتها المتجولة بدولاب أمها المتهالك الذى مالت الارض من تحته بفعل الرطوبة فمال للأمام كبرج بيزا يقاوم السقوط، ضُلـفـُهُ تساندت على بعضها البعض فى صمود، يعلوه تاج من الأويما الدقيقة على شكل وردتين معقودتين، كاد ينمحى لون دهانهما البنى الغامق، تبدوان كوردتين تقفان لتلقيا بنفسيهما من فوق القمة وتنتحران.

نظرت فى ساعتها.. تقدمت بخطوات مترددة ونادت :

ماما .. أنا مضطرة أمشى عاوزة حاجة ؟ حارجع تانى ، بس أحضر لهم حاجة ياكلوها وآجي على طول، حانادى على أم صفوت تقعد معاكى لغاية ما أرجع.

ظهر تعبير استسلام على وجه الأم، ثم فتحت عينيها بتثاقل وهمست وهى تنطق الكلمات بصعوبة : ما تنسيش تقفلى الدولاب قبل ما تروَّحِى.. وخدى معاكى أكل لرجب.

منذ مرضت أم سهام وهى لا تكف عن الحديث عن الدولاب وذكرت لسهام عدة مرات أن الكنز فى الدولاب بمكان سرى لم يعرفه أحد حتى الآن سوى والد سهام والاستاذ نجيب المرصفى زميله وصديقه.

الاستاذ نجيب الذى جمعته صداقة قوية بوالد سهام بدأت بزمالة بالمدرسة الثانوى، كان متخصصا فى العلوم والفيزياء.. ولم تعرف أبدا سهام ما سر صداقة والدها مدرس التاريخ هادئ الطباع ذو الخلق الدمث بهذا الاستاذ الفظ الغليظ الذى لا يتهاون أبدا مع الطالبات وكان دائم العبوس وصوته عالى سواء فى أثناء الحصص أو حتى فى غرفة الأساتذة. أمها كانت تهذى باسمه حين تذكر الكنز الموجود فى الدولاب.

كلما تحدثت سهام هاتفيا مع صديقة لها عبر الهاتف عن أحوالها أو عن مرض أمها، ترفع الأم أصبعها مشيرة الى الدولاب وتقول لسهام بصوت خافت مرتعش: أوعى تقولى لها على اللى فى الدولاب، ثم تستغرق بعدها فى نوم عميق.

مرت سهام على أم صفوت فى طريقها الى الشارع لتأتى وتجالس أمها الى أن ترجع فى المساء، وحين وصلت لباب العمارة وجدت رجب جالسا على الرصيف يرص طوب فوق بعضه ثم يضربه بيده فيسقط على الأرض، بحركة أتوماتيكية ودون أن تتوقف ناولته كيسا أخذه من يدها بتلقائية غلب عليها التعود وصاح : ألوح حاجّة .. أحب حاجّة .. حاجّة حوة .. أديها إس.. فلوس كتيييل .. ألوح حاجّة ؟

ردت سهام وهى متجهة لسيارتها : لا يا رجب هى نايمة دلوقتى بتستريح.. كل الاكل بتاعك الحاجة بعتتهولك.

كانت سهام تلمحه يوميا فى طريقها للكلية، بالقرب من موقف السيارات المجاور لبيتهم، يقف ملوحا بعلم مصر المثبت فى فرع شجرة، ملابسه رثة قذرة لدرجة غير محتملة، شعره منكوش مهوش، يرتدى سترة غير معروف إن كان لونها كاكي أم أن لونها أصبح هكذا من شدة الاتساخ .. مهترئة ممزقة وقياسها أكبر منه بكثير، مفكوكة الازرار يعلق على كتفه حبلا مربوطا به ثلاثة علب من الصفيح فارغة من تلك التى تستخدم للمياه الغازية، تظهر عظام قفصه الصدرى ناتئة كهياكل الموتى، آثار جروح قديمة وحديثة تملأ صدره العارى وآثار دماء جافة وأخرى حية. ” رجب زغاليل ” هذا هو إسمه الذى ناداه به سائس موقف الانتظار حين طلبت منه سهام أن يناديه كى تمنحه بضعة قروش وكيس به بعض الفطائر المحلاة دسَّـته أمها فى حقيبتها وأوصتها بأن تعطيه له، طمع فيها السائس معبرا عن ذلك بكلمات مثل : ده مجنون يا أبلة .. يضيع الفلوس .. ولا حياكل ولا يشرب .

زجرته سهام بلوم وقالت : مالكش دعوة ماما باعتاها له.

كان كلما إقترب منه أى شخص يزعق مناديا: زغاليل.. زغاليل ولم يكن وقتها يقول غير هذه الكلمة فلقبه الناس بهذا الاسم، وظهر لأول مرة بالشارع فى شهر رجب ولم يكن معروفا له اسم فأسموه رجب وبعد ذلك صار يلقب باسم رجب زغاليل .. كان يبكى حين يضربه أطفال الشارع بالطوب وينادوه .. زغاليل .. زغاليل.

تناول كيس الفطائر بلهفة دون حتى ان يلتفت لها، ووضعه فى جيب سترته الواسع والذى يتدلى منه خرق قماش بالية متسخة، ويظهر منه طرف من كراسة تثنت اوراقها الصفراء، ثم انصرف. لاحظت سهام حين اقترب منها يومها ندوبا وجروحا منها السطحي ومنها الغائر ففزعت لبشاعة الحال. سألت سهام السائس عن سبب الجروح فرد راسما ملامح التأثر : مش عارف يا أبلة إحنا بنشوفه ماسك حجر وبيخبط صدره بيه يا ولداه وبيقول ” أستاهل اكثر من كده”، لحد ما جتته تشرشب دم.. أقولك ايه يا أبلة والله بيصعب علينا ، انا ساعات أروح أجيب له أكل، أصله عدم المؤاخذة مالوش حد وبياكل من الزبالة.

أم سهام كانت تعتبره مسئولا منها، ترسل له الطعام يوميا أو ترسل فى طلبه فيأتيها فتدخله الى صالة البيت وتفرش له بساط على الأرض وتقدم له الطعام الساخن وتصنع له الشاى، وفى إحدى هذه المرات عاد والد سهام من العمل فوجد رجب جالسا على الأرض يأكل، فانزعج جدا وسأل أم سهام : ما هذه القاذورات التى تدخلينها المنزل وانت وحدك ألا تخشين أن ينقض عليكِ فيقتلك؟!

فترد بابتسامة وهى تنظر إلى رجب بعطف كطفل: رجب ؟ يقتلنى ! .. ده غلبان، معلش ياخد طرقته ويمشى.

نظر لها زغاليل وضحك متهللا وصاح : زغاليل زغاليل .. حاجّة حوة.

إعتادوا جميعا على هذا المنظر، وجود رجب جالسا إما على بسطة السلم أو فى مدخل الشقة، يأكل مما طبخته أم سهام أو فى الشارع يلعب مع الأطفال ويصيح بفرح زغاليل زغاليل.

فى هذه الليلة عادت سهام بعد أن أنهت مهمتها ببيتها، واتخذت طريقها لبيت والدتها لتمنح أم صفوت بعض الراحة وتتسلم دورها فى النوبتجية. كان الجو باردا الى حد كبير فى تلك الليلة، قابلته على باب العمارة متسمرا ينظر الى لا شئ، ويصدر صوتا كالنحيب لكنه لم يكن يبكى، أمها لم تكن فى حالتها المعتادة، اى انها كانت تفتح عيونها وتحدق بهما فى الدولاب وهى فى حالة من اليقظة والانتباه لم تحدثا لها منذ أصابها الشلل ورقدت حبيسة الفراش.

سألتها سهام : مالك يا ماما

ردت الأم بسؤال : فين هشام أخوكى ؟

أجابت سهام : ما انتى عارفة ياماما إنه فى السعودية.

ردت الام : لازم يرجع خلاص، مافيش وقت.

إنزعجت سهام من كلام أمها وردت بسرعة : بعيد الشر عنك يا ماما.

ردت أم سهام : لازم هشام ييجى علشان أسلمكم الكنز، الوديعة اللى سابها أبوكم أمانة فى رقبتى، بس لازم هشام يعرف ان الكنز ده مش حينقسم ثلث لك وثلثين له .. لأ .. الكنز ده لازم ينقسم بينكم بالنص، وكمان فى جزء أبوكم تركه لزغاليل.

ردت سهام بابتسامة يائسة : تانى يا ماما .. كنز تانى.. انتى مش حتنسى الكلام ده بقى ؟ الكنز الحقيقى إنك تشدى حيلك كده وتخفِّى وتبقى كويسة… ثم بدهشة : زغاليل ؟ هو حيورث معانا كمان !! والله عال!!.

ثم أكملت : إرتاحى يا ماما ماترهقيش نفسك بالكلام ده. وهمت بأن تحكم الغطاء عليها لكن أمها قاطعتها بعصبية غريبة ليست من طبعها: بقولك إسمعينى مافيش وقت.. بكرة كلمى أخوكى فى التليفون خلييه يرجع بلده بسرعة قولى له امك محتاجة لك.

ردت سهام بدهشة : إيه الحكاية يا ماما.! مالك الليلة دى؟

أشاحت ام سهام بنظرها بعيدا وكأنها مترددة فى أن تبوح بشئ ولكن استدارت برأسها نحو سهام وقالت لها : عمك الاستاذ نجيب المرصفى صاحب المرحوم أبوكى جه زارنا النهاردة. ثم بجدية غريبة على أمها السيدة البسيطة التى عرفتها طوال عمرها : فتح الدولاب وكمان الضلفة السحرية وحط الشنطة اللى معاه وقال خلاص دى آخر حاجة.

ردت سهام باستنكار: سحرية ايه !! وشنطة ايه ؟ ماما إنتى كويسة ؟

صمتت أم سهام وظهر على وجهها يأس بسبب عدم فهم إبنتها لكلامها وإرهاق بسبب إنفعالها أثناء الحديث، فأدارت وجهها وأغمضت عينيها وانتظمت أنفاسها وراحت فى نوم كالاغماء.

ظلت سهام تنظر لأمها الراقدة على الفراش بشفقة ويأس، قامت فأحكمت الغطاء على أمها وذهبت لتعد كوبا من الشاى، رمقت الدولاب فى طريقها للمطبخ وابتسامة سخرية مرتسمة على وجهها الذى حمل تعبير عدم التصديق من لحظة انتهاء الحوار الذى دار للتو مع أمها.

ضحكت سهام من نفسها أثناء إعدادها للشاى ورددت : وانا مدوخَّة نفسي ليه، أفتح الدولاب وأشوف إيه الحكاية، بس يمكن يكون فى الضلفة المقفولة بالمفتاح ..!! المفتاح مع ماما رابطاه فى رقبتها من زمان .. عمرى ما فكرت أسأل نفسى إشمعنى الضلفة دى هى الوحيدة المقفولة بمفتاح .. كل دواليب البيت مفتوحة ما عدا الضلفة الوسطى فى دولاب ماما ..!! عجيبة.

عادت حاملة كوب الشاى ورمقت الدولاب مرة أخرى فى طريق عودتها، إتخذت الكرسى المجاور لفراش أمها التى لا تزال مستغرقة فى النوم مقعدا إذ كان فى مواجهة الدولاب، وظلت تتأمل الدولاب بعيون فاحصة وكأنها تراه للمرة الأولى.

نهضت ومشت نحوه وفتحت الناحية الخاصة بوالدها، فصدمتها رائحة الصوف المخزون المختلطة بالغبار والكولونيا الرجالى العتيقة المنبعثة من سترات أبيها المعلقة والمغطاة بملاءة بيضاء، أدخلت يدها تتحسس جوانب الدولاب الخشبية وتطرق عليها بحثا عن الضلفة السحرية التى ذكرتها أمها دون جدوى، تململت أمها فى الفراش فأغلقت الضلفة ورجعت تجلس بجوارها. ضحكت سهام من نفسها ساخرة، ورددت همسا: أما انا مجنونة بصحيح هو انا لسة حاعرف بيت أبويا من أول وجديد !! إذا كنت ما تركتوش ليوم واحد من يوم ما اتجوزت.. لكن ايه حكاية الشنطة اللى جابها عمو نجيب دى ؟

فى اليوم التالى إتصلت سهام بأخيها لتخبره أن حالة أمهما الصحية بدأت تتأخر وأنها أصبحت تهذى بأشياء لا معقولة مؤخرا، كما انه يستحسن أن يحضر فى أقرب وقت لأنها لا تستطيع التنبؤ بما قد تؤول اليه الأمور.

شعرت سهام فى هذا اليوم بميل الى تصديق ما قالته أمها .. فلماذا لا يكون وراء هذا الهذيان حقيقة أو جزء من الحقيقة، أى أنه قد يكون هناك بعض المال الذى خبأه أبوها كتحويشة عمر أو شيئا من هذا القبيل، أو قد يكون شيئا متبقيا مما ورثه عن جده الأزهرى واحتفظ به الى ان مات ولم يطلع أحدا عليه سوى أمها وصديقه الاستاذ نجيب، ومن الجائز أن يكون تمثالا أثريا قد جلبه من إحدى رحلاته الاستكشافية مع مستر دوبلر العالم الأثرى الذى كان أبوها فى صحبته دائما فى كل زياراته لمصر .. لكن أم سهام قالت أن صديق والدها الاستاذ نجيب قد جاء ووضع حقيبة داخل الضلفة السحرية، إذن هو كنز مشترك بينهما ولأن الاستاذ نجيب أستاذ الفيزياء لم ينجب وقد ماتت زوجته ففضل أن يرث أبناء صديقه .!!! إحتمال بعيد ، إذن فماذا وضع الاستاذ نجيب فى دولاب أمى؟ إتجهت سهام نحو الدولاب المائل للأمام ووقفت تنظر خلفه، قد تجد أى علامة تدل على تلك الضلفة السحرية التى ذكرتها أمها لكن دون جدوى.. بعد أن أرهقها التفكير، ذهبت ونادت على أم صفوت : ايه رأيك يا طنط فى حالة ماما ؟ مش شايفة إنها بتتأخر!!

ردت السيدة فى استنكار : ليه يا بنتى !! انتى حتأخريها ليه ما هى زى الفل أهى.. ليه بتقولى كده؟

جاوبتها سهام : أصلى ملاحظة كده انها بتقول كلام غريب الأيام دى.

أم صفوت : زى ايه ؟

سهام : كلام كده عن عم نجيب المرصفى .. فاكراه ؟ بقى له مدة ما زارناش.

أم صفوت : ليه يا بنتى ده كان لسة هنا إمبارح بعد ما روحتى جه وزار والدتك وقعد معاها ييجى ساعة،عملت له شاى شربه وبعدها مشى، والنبى دايما يفكرنى بسي المرحوم أبوكى ولا يتخيرش عنه، هم الناس دول يتعوضوا، مابقاش موجود الصنف ده.

تركت أم صفوت سهام وهى فى حالة من الدهشة، فلم تكن تصدق ما قالته والدتها عن أن الاستاذ نجيب قد حضر، إذن موضوع الحقيبة هذا صحيح.

دخلت سهام لحجرة أمها وجدتها جالسة فى الفراش وهو الشئ الذى لم يحدث طوال السنتين الماضيتين منذ ان أصابها الشلل، إقتربت منها سهام وهى تهلل فرحة: الحمد لله على سلامتك يا ماما .

إبتسمت أمها بضعف وقالت : أشعر أن أجزاء من جسدى بدأ يسرى فيها الاحساس من جديد.

ثم نظرت لإبنتها بحزن وقالت: أخوكى مش ناوى ييجى وأنا ما عادش فاضل لى وقت.. ومن يوم ما إتدروش وربى دقنه إتغير خالص، حتى أم صفوت بتقول إنه نجح فى إنه يأثر على إبنها صفوت بكلامه والشاب إبتدى يغيب مدد طويلة قاعد فى الجامع وساب شغله ورغم إنه هو اللى مسئول عن أمه لأن معاشها ضعيف أوى بعد المرحوم جوزها.. لكن برضه سايق فيها، الولاد دول مش حيعرفوا قيمتنا إلا لما نموت ويفقدوا الطريق.

نظرت سهام لأمها وكأنها تراها لأول مرة ، واندهشت لتغير أسلوبها وأحست أن أمها لم تكن مشلولة جسديا فقط وإنما عقليا أيضا وأن هذه الصحوة المفاجئة هى إما يقظة روحها قبل الموت، أو أنها شفيت فعلا تماما.

بعد عدة أيام عاد هشام، وقابل ترحاب أخته وأمه ببرود وفظاظة من يشعر أن هناك مهمة ثقيلة يجب أن ينتهى منها فى أسرع وقت.

تحدث هشام كما لو كان يصدر تعليمات ودون أن ينظر لأخته أو أمه الراقدة: على فكرة انا جاى يومين فقط وعندى ميت حاجة لازم اعملها.

دون كلام نظرت له أمه بتأثر ثم بيأس لفت ذراعيها خلف رقبتها وقامت بفك السلسلة التى ترتديها والمعلق بها مفتاح الدولاب، خلعتها وفكت منها المفتاح ومدت يدها تناوله لسهام.

مدت سهام كفها بتلقائية واستسلام من تعرف أخيها وكأنها تلقت إشارة دون كلام من أمها أن تفتح الدولاب وقامت متجهة نحوه فى تصميم.

تسمرت سهام أما الدولاب للحظات وكأنها تريد التراجع ، لا تعرف لماذا إنتابها شعور بالخوف وكأنها بمجرد ان تضع المفتاح فى كالون الدولاب ستكون قد ضغطت زر تفجير قنبلة.

هناك هشام جالس فى تحفز وعدائية غير معروف سببها يحملق فى أخته : ما تخلصينا يا سهام .. هى كيميا ؟

سهام : حاضر حاضر حلمك علينا شوية يا سي هشام انت جاى حامى كده ليه؟

وضعت المفتاح فى الثقب المخصص له وأدارته مرتين وفى الثالثة إنفتحت الضلفة فكان فى الدولاب عدة أرفف تحتوى أوراق قديمة أطرافها مشققة ولونها أصفر وفى المنتصف جزء مربع ومقبض صغير جذبته سهام للخارج وفتحت الضلفة الصغيرة، مدت سهام يدها بالفتحة فسقط فى يدها لفافة من الورق وكأن هناك من يقف خلف الدولاب وبمجرد أن مدت يدها سلمها اللفافة، هى مجموعة من أوراق البردي الملفوفة والمربوطة بشريط وكانت تظهر أيضا حقيبة صغيرة سحبتها سهام من مكانها وكانت ثقيلة وحين فتحتها وجدت كتابا عنوانه الخروج الى النهار، قلــَّبته ثم فتحت أولى صفحاته فوجدت،

إسم المترجم / عز الدين حماد

الاهداء : الى أبنائى سهام وهشام .. خارطة طريق.

وجدت مبلغا من المال فى ظرف مكتوب عليه من الخارج من أجل زغاليل. فتحت سهام اللفافة فوجدت فيها كتابة باللغة الهيروغليفية ومكتوبا أسفل الورقة الأخيرة باللغة العربية ، قمت بالترجمة لأن هذه الأوراق هى الدليل والنبراس، أرجو أن تسلم أوراق البردي لمستر دوبلر المُعَّلِم الذى عشق ترابها.

قَرَأت السطور بصوت عالى فنهض هشام متجها نحوها بعصبية : يا نهار اسود ..!! إنتوا جايبينى من السعودية عشان شوية الكلام الفارغ ده ؟ أنا عارف إنه كان مجنون .. طول عمره مجنون ، ما كفاهوش يطلــَّع جنانه علينا وهو عايش كمان وهو ميِّت.

اختطف ورق البردي والكتاب من يد سهام وحدق بهما لحظة ثم رمى بهما فى الأرض، لم ينتبه للظرف وأنصرف بزوبعته كما جاء بها.

نظرت سهام لأمها والدموع فى عينيها وقالت : بكرة يعقل.

 ‎فاتن واصل – مفكر حر

About فاتن واصل

كاتبة ليبرالية مصرية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.