كانت الأشجار وأعمدة الكهرباء، تعدو مسرعة نحو الخلف. مثل زمن شرق أوسطي معاصر، توهم أنه قبض على التاريخ والمستقبل معاً.
اقترحت رفيقتي ، وإحدى الحفيدات الصغيرات، القيام برحلة بالقطار نحو الشمال اليوناني الجميل .
إذن، إنه القطار..
القطار ؟؟
واو.. واو.. صرخت الصغيرة فرحة.
إنها الطبيعة، الذين يعرفون معنى الحب، وحدهم يعرفون معنى الطبيعة. فإذا لم نستطع تذوق معنى الحياة، أعتقد أن حياتنا، حينئذ تبدو مجرد عبث لا قيمة لها.
إنه القطار ..
نودع الكتل الأسمنتية، والتلوث، وصخب المدن الكبيرة، و” راشيتات ” الأطباء، وفواتير عالقة في منتصف الطريق دون دفع ، لبعض الوقت.
سرحت ذاكرتي، نحو قطار الكاتبة الراحلة ” أغاثا كريستي ” في رواية ” قطار الشرق السريع ” . و قطار الصعيد في الأفلام المصرية القديمة . حيث تتقاسم الفراخ أطراف الحديث مع الركاب . أو قطار هندي امتطى صهوته مئات الفقراء.
وكطفل صغير، ارتدت أحلامي القديمة ثوب الحاضر. إنه صفير القطار.. بوم…بوم ، وصوت عجلاته الحديدية، وهي تتزلج على سكتين متوازيتين … توكو …توكو ، وسائق القطار الذي اتشحت ملامحه ، وملابسه بدخان القطار الأسود .
لا دخان أبيض، وقطار الشرق السريع لم يحمل يوماً دخاناً أبيضاً… بل جنوداً واحتلالاً.
قطارنا الحالي، كهربائي ” اكسبريس “. بح صوته واختفت صورته القديمة.
وكذا مقاعده الخشبية القديمة، ونوافذه. وارتدي ” نيو لوك ” جديد . فقد تغلغلت التكنولوجيا في كافة ” زوا ريب ” حياتنا وفي أدغال جملتنا العصبية.
وفي الزمن القادم، يبدو أن الإنسان نفسه على وشك السقوط في متاهة تعقيدات التكنولوجيا. ربما يختفي صوته وتتبدل ملامحه.
ذاك بقرون استشعار، وأخر بخرطوم فيل. مثل أفلام الخيال العلمي..
أو مثل ” كيندفرو ” جسد حصان ورأس إنسان، كما في الميثولوجيا الإغريقية القديمة .أو أن يمتلك ” ثرثاراًَ ” لساناً طويلاً خارج فمه . أو أن تصبح ” الأذن اليمني “ لمخبر أمني مثل صحن الرادار..؟
ترى هل ستختفي في المستقبل وظائف دماغنا الحالية..ربما ؟؟!
عندها سيتحول الإنسان الى حالة جافة، بلا مشاعر كتلة لحم، أشبة بالمسخ في رواية ” فرانز كافكا “. خال من كافة الصور الذهنية، التي تملئ عقولنا الراهنة. ربما هذا ما يعيب أيضا تلك الحالات المتطرفة في سلوكها، وهو غياب المشاعر الإنسانية. فإذا لم تكن تنتمي الى عصرك فإلى أي عصر تنتمي ؟
لا نملك الزمن، بل هو الذي يملكنا، ويفرض غموضه على مستقبلنا. والماضي لا يمكنه تقرير مستقبل الغد.والمنتمي الى عالم الماضي، هو أشبه بالسجين الذي لا يسمح له سوى بالسير الدائري، الممل الرتيب كما في السجون العثمانية.
ثم ماذا بعد ..
لازالت في القطار، وقرب النافذة …
حفيدتنا الصغيرة، تملئ ذاكرتها بصور شتى ،ودياناً وجبالاً . وبدورها سرحت رفيقتي في مكان ما من ذكرياتها . أسوة بكافة المسافرين الى منطقة ” فولوس ” التي تبعد حوالي 500 كلم عن أثينا.
ترى ماذا يجول في رأس كل راكب من أفكار..؟ تخيل لو أن العلم توصل الى مراقبة
” أحلام اليقظة ” مثلاً؟. وماذا يجول في عقل الأفراد …على محطات المواصلات وفي العمل والمنزل . والأهم الموقف من السلطة ” البنكية ” الحاكمة في هذا العالم ..؟!
عندها سنترحم أو سيترحمون على أيام خرافة ” الملائكة ” كما يترحم البعض الأن على أيام الراحلين ” القذافي ” أو “صدام ” ، أو ” ياسر عرفات “.
مصيبة أن تصل الحضارة الى هذا المستوى من التشويه للإنسان .
لا بأس.. قطارنا.. على كلا الحالات، ليس قطار الأحلام القديمة. ولا قطار الزمن القادم، لكنه قطار.
أزرف ..آه حزينة على زمن مضى، أو قطار مضى..
لا فرق كلاهما اختفيا مع ما مضى. وبقي الحاضر الذي يستعد للرحيل، الى مينا ” عكا ” وزوارقها النائمة في حضن السور.
في محطة مدينة ” لاريسا ” كان علينا الانتقال الى قطار أخر .
كلاجئين معاصرين، حملنا حقائب الظهر، نبحث عن عربتنا..
صرخ مراقب حركة القطار ..هيا اصعدوا بسرعة..
تدافعت كافة الحقائب البشرية للصعود.
وهرولت كسلحفاة عجوز، تحمل قواقع سبعين عاماً عجاف من اللهاث خلف قوس قزح. محاولاً الصعود وسط هذا الزحام ..
مراقب القطار، أعطى إشارة السير للسائق ..؟؟!
صرخت رفيقتي ..انتظر.. توقف .؟
سقطت حقيبتي من يدي ..ثم لم أعد اقوي على المسير.
.توقف القطار، بعد صراخ عدد أخر من الركاب.
في مقعدي الجديد، انكمشت وانزويت أبحث عن صفحة خالية، ترتاح فيها نفسي المتعبة.
آه يا وجع السنين.
عندما جرى ترحيلنا من ” فلسطين ” عنوة، لم تكن هناك حقائب ظهر. ولا خرائط أو
” جي بي اس ” للعالم الخارجي . حملت النساء” بقجة ” أو صرة من الثياب سيراً على الأقدام ،على أمل العودة بعد أيام .. طال الزمن، واستطال طولاً وعرضا، ونمت طحالب وكبر العفن، وأرخى عصر الخرافة ظلاله على كل الأشياء الجميلة.
ثم … أعتقد لا داعي لسرد ما بعد ” ثم “.
قالت رفيقتي، أين سرح خيالك ..؟ مرة أخرى نحو ذكرياتك ؟؟
مرة أخرى أنا خارج النافذة ، كل شئ يركض نحو الخلف ، وجسدي يهرول نحو المستقبل.
ما أجمل الإحساس بالحياة، وأنت تراقب كيف يسابق الزمان المكان، من عربة قطار تحملك نحو الطبيعة.
هناك سيغسل البحر والجبل، خطاياي الصغيرة القديمة.وسأعترف في حضرة ” بوسيدونيا ” إله البحر ، أني أحببت زهرة عباد الشمس، وزهور الدفلة في وادي الأردن والحب والخمر والنساء والطبيعة والموسيقى. ويرقص قلبي فرحاً لفرح الأطفال والكلاب، والقطط الصغيرة.
وسأصرخ في وجه البحر..
يا بحر.. غرق البحر في بحرك، وفي المساء، سأستلقي على ظهري فوق الأعشاب مثل حمار قروي. أعد النجوم دون خوف من “بثور التالول “.
ونحن صغاراً، قالوا لنا إياكم وعد النجوم ففي الصباح ستمتلئ وجوهكم وأيديكم بثوراً …؟!
في البداية صدقنا الرواية، مثل كل قصص الممنوعات الأخرى، خوفاً من غضب “الإله “.. لكن اكتشفنا فيما بعد، كم كان هذا ” الإله ” مظلوماً. وأن ” الخرافات ” الصغيرة ولدت خرافات أكبر، وأصبحنا ضحية هذا الكم المرعب من الخرافة والتقاليد.
أحياناً كنا ننام فوق السطح، بسبب الحر أو ازدحام الغرفة.وأحياناً كثيرة عندما يحين موعد ممارسة الحب بين الكبار.
ويتسامر القمر والنجوم.هناك سقطت نجمة، وهذا شهاب أخر يلاحق ” عفريتاً ” هارباً! من الجحيم . حتى في العقائد الدينية كانت ” العسس ” الإلهية جاهزة للمراقبة والمتابعة وإحصاء الأنفاس.
نعد النجوم ثم نغفو قبل الوصول الى الخمسين ..خمسين ؟؟
كلا عشرين فقط.
نتثاءب في حضن الكون، ونسرح مع القمر في رعي النجوم في الفضاء.
كنا أطفالا صغار، نتوق للفرح، للحياة التي حرمنا منها قطار ” أغاثا كريستي “.
فجأة دخل عربتنا، مفتش التذاكر. وبصوت أشبه بصوت عجلات القطار صارخاً ” من فضلكم بطاقاتكم “. ولا أدري لأي سبب طلب مني قبل الآخرين بطاقات التذاكر. كان أشبه ” بشرلوك هولمز ” مفتش البوليس الانكليزي. لكن دون معطفه الكبرديني . منظره غير مريحاً، ونظرته استعلائية.
قلت في نفسي، ربما بسبب شاربي..وملامحي الشرقية، رغم أن الشيب غزا نصفه.
ترى هل علينا تغيير جلودنا أسوة بالمغني الراحل ” مايكل جاكسون ” ؟؟!
…بيد أن اليونانيين ليسوا من ذوى البشرة الشقراء، ولا البقرة الضاحكة. فهم من شعوب المتوسط.
أصبحنا مثل الطوابع البريدية.. هناك مثل شعبي لدينا يقول ” الذي على رأسه ريشه ” الجميع يعرفه..؟
قال، كم راكب أنت..؟
عبست اللحظة في عيني، وارتفع ضغط الدم في عروقي وفجأة استيقظت شرقيتي من سباتها.
أشرت له بقرف ، بأصابع يدي، ثلاثة. فقد أدركت ماذا يجول في خاطره. ثم توجه نحو العائلة هل هو معكم؟؟!
أجابت رفيقتي بامتعاض ، بل نحن معه يا سيد ..
هكذا تصبح مشبوهاً، بسبب ملامحك الشرقية. لأن هناك قوى عصابية متغربة في داخلها ومنحدرة من ثقافة إقصائية ، اتخذت العقيدة ذريعة لتدمير كافة الأشياء الجميلة . ووطنت الخوف، في مخيلة الأخر المختلف .
المهم بعدا ست ساعات، وصلنا مكان إقامتنا. وتدعى ” المياه العذبة “وهي منطقة سياحية جميلة، هادئة تتميز بخضرتها وأشجارها الباسقة وطيورها. هناك تصالحت مع الطبيعة، وعدت الى الجذور. امضي سحابة يومي بين الأشجار، وعلى شاطئ البحر..بانتظار فنجان قهوة أخر في مقهى الحياة .
سيمون خوري
فولوس 1/9/2016