حوار مع القرضاوي 1

عبد القادر أنيس

هذه المقالة الأولى في سلسلة من المقالات سأنشرها حول كتاب الدكتور يوسف القرضاوي ” الإسلام والعلمانية وجها لوجه”.
الإسلام والعلمانية وجها لوجه
طبعا، أنا لم أتحاور مع القرضاوي كما يبدو من العنوان، بل هو يرفض أن يتحاور مع أمثالي من العلمانيين والملحدين ممن ينطبق عليهم قوله في مقدمة كتابه: “وأما الذي لا يؤمن بالألوهية نفسها، ولا يثبت “الغيبيات” أصلا، ويتبنى ما قاله “فويرباخ” بكل تبجح وغرور: “ليس صحيحا أن الله خلق الإنسان، بل الصحيح أن الإنسان هو الذي خلق الله”!!! أي أن القول بالألوهية وَهْم اخترعه الإنسان، أما هذا فمن العبث بالعقول، ومن إضاعة الأوقات والجهود، الحديث معه حول الشريعة وأحكامها، والحدود وتطبيقها، والدخول في متاهات التفصيلات، التي لا تتناهى، وهو يجحد أصل الدين جملة!!”.
ومع ذلك فمن حقي أن أفرض عليه هذا الحوار، أو الحوار غير المباشر، من خلال مناقشة ما جاء في كتابه المذكور آنفا من مواقف لا تستقيم مع المنطق ومن خداع وانتقائية ومن استبداد فكري فرضه عل محاوريه كما هي عادتهم في بيئة عربية إسلامية قامعة كانت ومازالت لا تسمح بحرية الفكر والاعتقاد والتعبير بسبب ما يلجأ إليه رجال الدين، مثلما فعل القرضاوي مع فؤاد زكريا من ترهيب ديني واستعداء العامة عليه ومحاولة حصره في أضيق مكان للإجهاز عليه.
يقول القرضاوي عن محاوره إنه “لم يكن يحمل قلما للحوار، بل سيفا للهجوم، واستغل المساحة الكبيرة، المعطاة له في الصحيفة (سنة 1985)، للتشكيك في المسلمات الأولية عند الأمة الإسلامية، طوال أربعة عشر قرنا من الزمان، حتى اجترأ على التشكيك في أن الشريعة من عند الله! وزعم أن كل ما هو إلهي، ينقلب بشريا صرفا، بمجرد تفسيره وتطبيقه، ومعنى هذا أنه لا فائدة، ولا مبرر أن ينزل الله للناس كتابا، أو يلزمهم بشريعة، يبعث بها رسولا”.
فهل ما دافع عنه فؤاد زكريا باطل ضعيف وما دافع عنه القرضاوي حق قوي كرمه الله به كما زعم؟ هل العلمانية كما دافع عنها فؤاد زكريا يمكن اعتبارها حسب زعم القرضاوي من قبيل: ” المؤامرة المدبرة (التي تصدى لها) الكاتب المسلم اليقظ الأستاذ فهمي هويدي في مقالاته، التي تنشر في “الأهرام”، وفي عدد من الصحف العربية في الأردن والخليج، ونبه إلى أن هناك “تنظيمات متطرفة” للعلمانيين، ينبغي أن تدان، كما دينت تنظيمات دينية متطرفة، مثل التكفير والهجرة، وقال: إن الفرق بين الاثنين هو: أن الأولين “الدينيين” شباب مندفع، سلك طريقه على سبيل الخطأ، وأن الآخرين شيوخ مجربون ـ بعضهم محترفون ـ اتخذوا مواقعهم عمدا، ومع سبق الإصرار والترصد”.
هل فعلا أن التطرف الإسلامي هو من فعل ” شباب مندفع، سلك طريقه على سبيل الخطأ” أم هم إرهابيون مع سبق الإصرار والترصد، بعد أن تتلمذوا على أمثال فهمي هويدي والقرضاوي ولو أنهم خرجوا عليهم وتجاوزوهم فيما بعد بل وكفروهم بوصفهم فقهاء سلاطين؟
هل فعلا أن فؤاد زكريا “”لم يكن يحمل قلما للحوار، بل سيفا للهجوم”؟ أيُّ الرجلين كان ومازال يحمل سيفا لإرهاب المختلفين؟ أهو القرضاوي الذي بارك اغتيال المفكر فرج فوده ودافع عن صديقه الغزالي الذي أفتى بجواز قتله أم هو فؤاد زكريا الذي كان سلاحه الوحيد قلمه وبنات أفكاره التي تدعو إلى إقامة مجتمعات عصرية تسودها المواطنة التامة والمساواة الحقة بين المواطنين مهما تباينت معتقداتهم وأعراقهم ومذاهبهم الدينية والسياسية؟
ثم بعد ذلك، ألا يحتمل قول فؤاد زكريا ” أن كل ما هو إلهي، ينقلب بشريا صرفا، بمجرد تفسيره وتطبيقه “صدقا وصوابا؟ لنفكك هذا الكلام خاصة وأنني أشك في قدرة القرضاوي على فهم ما قاله فؤاد زكريا بسبب انغلاقه الشديد ضمن حدوده النصية الدينية بل ضمن حدود مذهبه الأصولي التكفيري على ما سواه بما في ذلك المذاهب المتواجدة داخل هذا الدين.
القرضاوي يزعم أن هناك “معلوما من الدين” متفق عليه، ويقول عن محاوره إنه: ” الوحيد الذي اشترك ممثلا للجانب العلماني في الندوة التاريخية في دار الحكمة، ولأنه أكثر العلمانيين إبانة في فكرته، وأقدرهم على إيراد الشبهات، وسوقها في صورة البراهين، وأجرؤهم على مناقشة القضايا من جذورها، وإن كانت مجافية لأوضح المسلمات الدينية” ولهذا ألف كتابه للرد عليه.
فهل صحيح أن هناك مسلمات دينية واضحة وهل يصدق قوله: ” أما نحن، فموقعنا ـ بحمد الله ـ محدد من جهاته الأربع، وهويتنا واضحة بينة كالشمس في رابعة النهار”؟ هل يصدق هذا الكلام أمام محك النقد العلمي المنطقي وأمام وقع الإسلام والمسلمين ماضيا وحاضرا؟
أقول لا. فرغم أن القرآن واحد (بعد حرق كل النسخ الأخرى المختلفة) وأن النبي واحد إلا أن الاختلاف بل والتناحر بين المسلمين بسبب هذا الاختلاف لم يتوقف أبدا. وكان بدأ في حياة مؤسس هذا الدين الذي كان يضطر إلى نسخ آيات كثيرة ينسبها إلى الله وأنها مسجلة في لوحه المحفوظ تلبية لحاجات مستجدة. كذلك اختلف المسلمون مباشرة بعد موته حتى تأخر دفنه وانتفخ بطنه حتى كان ينفجر وفاحت رائحته. ثم اختلفوا واختلفوا حتى قال أقربهم إلى محمد “لا تجادلهم بالقرآن.. القرآن حمال أوجه.. القرآن كتاب مسطور بين دفتين لا ينطق وإنما ينطق به الرجال”. قيل هذا الكلام في حق الخوارج الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أقرب الناس إلى الإيمان الصحيح، وهم أصحاب “حاكمية الله” قبل المودودي وسيد قطب بقرون.
فأي الرجلين أقرب إلى هذا الكلام المنسوب إلى علي بن أبي طالب عندما اختلف عمن خرجوا عليه؟. بل إن هذا الإمام قال قبل ذلك عن القرآن : “كلمة حق أريد بها باطل” في موقعة صفين عندما أوعز معاوية إلى جيشه برفع المصاحف بعد أن كاد يهزم بغرض شق صفوف جيش علي.
هؤلاء صحابة محمد وبعضهم من كتاب الوحي وبعضهم مبشرون بالجنة ومع ذلك اختلفوا حول ما يزعمه القرضاوي حول “المعلوم من الدين”.
المسلمون إذن لم يكونوا متفقين حول هذا المعلوم من الدين منذ فجر الإسلام وانقسموا شيعا وأحزابا وفرقا راحت تتشظى على مر العصور وتتناحر بلا رحمة، وتاريخ الإسلام والمسلمين في هذا لا يختلف عن غيره لولا هذه الاستماتة من طرف الإسلاميين المعاصرين للتستر عليه.
فأيهم كان المسلم الحقيقي في جيش معاوية وجيش علي؟ وأيهم الكافر أو الزائغ والزنديق وكل الصفات التي لم يكن المختلفون يقتصدون في إطلاقها على بعضهم لتبرير الاقتتال والقمع والاضطهاد. السنة يكفرون الشيعة والشيعة يكفرون السنة وداخل كل فريق مذاهب يكفر بعضها بعضا؟ فهل كان يحدث كل هذا لو كان هناك معلوم من الدين متفق عليه مثل مواثيق ودساتير اليوم التي لا يتوقف الناس عن تعديلها نحو الأفضل لأنها غير مقدسة؟
من هنا فإن قول فؤاد زكريا: بـ” أن كل ما هو إلهي، ينقلب بشريا صرفا، بمجرد تفسيره وتطبيقه” صحيح. عندنا في الجزائر مثلا نشب خلاف هذه الأيام وخيّم عليه كثير من النفاق سبق أن تعرضت له في مقال لي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&userID=2611&aid=209527
حول إلغاء عقوبة الإعدام. أسوأ ما في هذا الخلاف أن الأحزاب والجمعيات الدينية تبنت مواقف متباينة من عقوبة الإعدام حسب مرتكبها. فلا عقوبة عندهم عندما يكون المرتكب إرهابيا قام بها “تحت شبهة الجهاد” كما ذهب إلى ذلك رئيس حزب إسلامي متواجد ضمن الائتلاف الرئاسي الحاكم. أما إذا ارتكبها مواطن عاد فيجب محاكمته إعدامه تطبيقا لشريعة الإسلام. يقولون هذا مع أن الآية واضحة “وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً”.
هذه الانتقائية المقيتة الخبيثة نجدها أيضا عند القرضاوي. ففي إحدى خطبه نقرأ:
الانتقائية المقيتة الخبيثة
“…هناك بدعة جديدة في عالمنا العربي والإسلامي اسمها توريث الرئاسة الجمهورية، بأن تورث الرئاسة من الآباء للأبناء أو من الأجداد للأحفاد، كأنها عزبة. وليست هذه هي الديمقراطية التي نريدها، نحن نريد ديمقراطية حقيقية تقوم على الشفافية والمصارحة وإعطاء الحرية للناس، ديمقراطية تمنحهم الحق في النقد والمعارضة”.
بعد هذا الكلام يأتينا بكلام غاية في النفاق والانتقائية وهو يتملق الملكيات العربية المتخلفة: “إذا كانت الملكية تورث الحكم؛ فإنها تعلن ذلك، ولها نظامها الخاص وحدودها وقوانينها المعروفة والمعلنة، لكن الغريب هو الجمهوريات الدائمة، والأصل في النظام الجمهوري تداول السلطات وتداول الرؤساء، لكن عندنا الرئيس مخلد ولا يزول عن ملكه أبدا!!”.
القرضاوي إذن كذب علينا عندما قال وهو يرد على فؤاد زكريا: ” وسيعلم الدكتور أننا ـ دائما ـ أصحاب الحجة الأقوى، والمنطق الأسد، سواء حاضرنا أم كتبنا، لأننا نعبر عن الحق، الذي قامت به السموات والأرض، والحق أحق أن يتبع، وأولى أن يستمع، والباطل مهما انتفش واستطال، فهو لابد زائل (وقل جاء الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا).
فأين الحق يا شيخ عندما تفضل الملكيات العربية على الجمهوريات العربية؟ وما الفرق بين التوريث هنا والتوريث هناك ما الاستبداد واحدا بل هو أقبح في الملكيات؟ هل لأنها قائمة باسم الإسلام؟ ومن جهة أخرى وإذا كانت الجمهوريات العربية تسعى لتوريث الحكم بطريقة همجية متخلفة، فهل يصدق قولك: ” إذا كانت الملكية تورث الحكم؛ فإنها تعلن ذلك، ولها نظامها الخاص وحدودها وقوانينها المعروفة والمعلنة”؟ وأي نظام خاص وأية حدود وقوانين معروفة ومعلنة في هذه الملكيات، بما فيها إمارة ولي نعمتك، تبيح لهذه الأسر البدوية القبلية أن تتربع على عروش بلداننا في غياب دساتير ديمقراطية تحد من جبروتها مثلما هو شأن الملكيات الدستورية في أروبا التي لم تعد تحكم بلداننا بالمعنى الصحيح للحكم بعد أن تخلت أو اضطرت إلى التخلي عن كل الصلاحيات التي كانت لها طوال قرون باسم الحق الإلهي؟
فؤاد زكريا محق لأن فعل القراءة بالمفهوم العصري لم يعد يستهدف معرفة الحقيقة، أي لم يعد يكتفي بمجرد “وصف أو كشف أو اطلاع على الخلائق والحقائق والمقاصد باسم مبدأ غائب أو معني مستتر، بقدر ما أصبح مشاركة في لعبة الخلق، باختراع الأسماء، أو اجتراح الدلالات، أو خلق الوقائع التي تتغير معها سلاسل الإحالة وخرائط الإدراك أو حسابات العقل وعلاقات القوة”. حسب الدكتور علي حرب:
http://www.azzaman.com/index.asp?fname=2010-03-03-24-686.htm&storytitle=
ولا أخال القرضاوي يفهم هذا بسبب ثقافته القروسطية المبنية على تقديس النصوص أو بأسلوب فقهي الانتصار للنقل على حساب العقل لأنه لا اجتهاد مع النص.
يتبع

عبدالقادر أنيس فيسبوك

About عبدالقادر أنيس

كاتب جزائري
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.