الشرطة في خدمة ” الله ”

إستوقفني قرار منع تظليل السيارات الذي أصدرته السلطات قبل عدة سنوات بدعوى أن تلك السيارات المظلّلة يُمكن أن تُتَخذ أوكاراً لممارسة الرذيلة ، حيث طالبت السلطات ـ الحاكمة بأمر الله ـ جميع المواطنين بإعمال مبدأ ( الشفافية ) والحفاظ على نقاء زجاج سياراتهم من السواد ، وذلك لتسهيل عملية مراقبة سلوكهم من الناحية الشرعية وعدم إرهاق قوات الشرطة الدينية ( النظام العام وهيئة تزكية المجتمع ) وهي تؤدي واجبها العظيم ، واجب البحث في حياة الناس الشخصية للإستيقان من عدم معصيتهم لله ، الأمر الذي يبدوا معه وكأنّ الله عاجزٌ عن القيام بذلك بنفسه فوكلهم نيابةً عنه ، فالشرطة ليست في خدمة الشعب والعياذ بالله ، وأنّما في خدمة الله وشريعته إمتثالاً للعبارة الخالدة ( الشرطة في خدمة الله ) .

ولكن السلطات قرّرت إستثناء المسؤولين بالدولة من قرار منع تظليل السيارات هذا ، وربّما يعود ذلك إلى أنّ تيرموميتر الورع والتقوى ( تقوميتر ) قد سجّل أعلى درجات التقوى لدى المسؤولين بالدولة والمنتسبين للحركة الإسلامية ، وبالتالي لا حاجة لمراقبة سلوكهم ، ولهم أن يُظلِّلوا سياراتهم الفارهة ما شاء لهم ذلك ، فهم فوق الشبهات ويستحيل عليهم أن يخطأوا لأنّهم معصومين لا ينطق الواحد منهم عن الهوى ( إن هو إلاّ كوزٌ يوحى) . وكيف يُخطئ الواحد فيهم وهم قائمين بسد ما عجز الله عنه وهو مراقبة سلوك وحياة الناس الشخصية ؟ كيف يُخطئون وقد عهِد الله جلّ وعلا لهم بثقته في النيابة عنه في كوكب الأرض .
وبالإضافة للمسؤولين الإسلاميين الأتقياء فقد شمل الإستثناء من قرار منع تظليل السيارات بالمثل كلّ من له القدرة على دفع أموال الترخيص بالتظليل ( صكوك الترخيص الغفرانية ) وفقاً لفقه النظام وقواعد معادلاته الكيميائية الدقيقة التي تنص على أنّ ( حرام + ترخيص = حلال ) مع إضافة بعض محفزات التفاعل مثل ( فقه الضرورة ). فالتظليل للسيارات حرام لأنّه يُمكن أن يجعل منها وكراً للرذيلة ، لكن مع دفع مبلغ الترخيص يصير تظليل السيارات حلالاً وتنتفي إمكانية تحويله للسيارة إلى وكر رذيلة .

إنّ ظاهرة الترخيص لممارسات تُعّد ـ في عرف السلطات الإسلامية الحاكمة ـ حراماً وفجوراً وفسوقاً ورذيلة وذلك بمقابل نقدي ظاهرة باتت ملفتة للنظر ولا تقتصر على تظليل السيارات فحسب ، وإنّما تشمل الترخيص لعدّد من المحلات والأفراد والمؤسّسات، مثلما يحدث بمراكز المساج بالعاصمة ، حيث تدفع تلك المراكز ـ التي تحدثنا عنها بمقال سابق ـ للسلطات مبالغ مالية بشكل دوري في مقابل السماح لها ( بالإختلاط التدليكي ) حيث يُسمح للنساء بتدليك أجساد الرجال ، وبالتالي إنتهاك ( النظام العام ) الذي حدّدته الحكومة ـ نيابةً عن الشعب ـ وأنشأت مليشيات لحفظه إسمها ( شرطة النظام العام ) التي أُوكِل إليها مراقبة سلوك المواطنيين وتقدير مدى إنطباق ذلك السلوك مع الشريعة الإسلامية وفقاً لتصور العسكري الذي يقود دورية المراقبة المعنية .
حيث إستحالت مقدمات الجماع ( تدليك النساء الفليبينيات والحبشيات وقليل من السودانيات لأجساد الرجال العراة إلاّ من ورقة التوت بأيديهنّ اللآدنة ) من فعل منكر مستهجن ، إلى فعل مباح في مراكز المساج المُرخّص لها ، بل وصار ذلك فعلٌ مستحب لما يُدِرّه من خيرات مباركة على خزينة الدولة المنهكة ، حيث يتوجب على أصحاب المراكز المساجية دفع مبالغ مالية للسلطات ، فتمنحهم الأخيرة بالمقابل صكوك الغفران ( الترخيص ) ، فتغفر لهم السلطة الكهنوتية تلكم الخطيئة ( التدليكية ) بشكل شهري ، إلاّ لو تأخر أصحاب المراكز في دفع القيمة الشهرية للترخيص ( صكّ الغفرآن ) فحينها فقط يحق للسلطات إستنادا إلى أحكام الشريعة الإسلامية (الغبراء ) إغلاق المركز المتأخر عن سداد قيمة الترخيص .

نفس الأمر ينطبق على محلات بيع الأطعمة بنهار رمضان ، حيث أفتت الجهات المسؤولة عن الُفتيا بالدولة بتحريم فتح المطاعم والكافتيريات نهار رمضان حفاظاً على مظهر الدولة وتوجهها ( الحضاري الإسلامي ) ، ومراعاةً لمشاعر المسلمين الصائمين الذين يجب أن يمتنع كافة البشر بكوكب الأرض عن تناول الطعام أمامهم برمضان ، لأنّ مشاعر المسلمين الصائمين ( الرقيقة والحسّاسة ) لا تحتمل مشهد الطعام وهم جياع ، رغم أنّ بعضهم من ذوي المشاعر ( الرقيقة والحسّاسة ) يستلذون إستلذاذاً بمشاهد الزبح والنحر البشري من الوريد للوريد .
ولكن السلطات الدينية وبعبقريتها الفذة إرتأت بأنّه لاجناح ولا تثريب على محلات بيع الأطعمة أن تفتح أبوابها للزبائن وتنتهك حرمات الشهر الفضيل وتضرب بمشاعر الصائمين من أُمّة النبي الكريم ، وبفتاوى الشيوخ الأفاضل عرض الحائط ، وذلك بمقابل دفع مبلغ من المال للبلدية ( المحلية ) فتُمنَح التراخيص المطلوبة لإنتهاك شرع الله وتجاوز حدوده وبيع الطعام برابعة النهار برمضان للعصاة المفطرين من أُمّة النبي محمد .

وهكذا نرى بأنّ عملية دفع مبالغ مالية من أجل إرتكاب ( الحرآم ) أضحت ظاهرة تتعدى مسألة التجاوزات الفردية ، إلى ظاهرة تتم قونّنتها وتدجينها ، بل وأصبحت نهجاً ومنهاجاً يسير عليه الإسلاميون الذين باتوا على إستعدادٍ لبيع دينهم ووطنهم بل وأمهاتهم من أجل الثراء ، فما أبخس الله وحدوده وأوامره ونواهييه مقابل سطوة وبريق وإغراء الثروة و السلطة .

علمت من إحدى بائعات الخمور البلدية ( العرقي ) بأنّ قوات النظام العام (الشرطة الدينية ) تداهمهنّ بين الحين والآخر وتصادر مخزونهنّ من الخمور ، فيقمنّ ـ أي بائعات الخمور البلدية المقبوض عليهنّ ـ بالدفع مالياً للضابط المسؤول ، فيأمرهذا الضابط بالإكتفاء بجلدهنّ فقط وإعادة الخمور المصادرة لهنّ . وقالت لي تلك البائعة بأنّها ليست لديها مشكلة في أن تدفع المبلغ مقدماً على نحو دوري دون الحاجة لمداهمة وكرها وإفزاع وترويع زبائنها ( الكرآم ) .

وقد ألهمتني تلك البائعة فكرة ( مقترح ) أودُ أن أُقدِّمهُ للسلطات ، وأتمنى أن يجد اذآن صاغية منها ، وهو مقترح بإنشاء إدارة لتحليل الحرآم يُمكن أن يُطلَق عليها ( إدارة تحليل الحرآم ) تطّلع بمهمة تحديد كافة المُحرّمات بالأسلام ومن ثمّ تقوم بتحديد السِّعر المناسب لتحليل كلّ مُحرّم منها ، وتُشرف تلك الإدارة بنفسها على منح التراخيص والصكوك وتحصيل المبالغ من المواطنين الذين قرّروا إرتكاب فعل حرام شرعاً .
وانا على يقينٍ بأنّ ذلك سيفتح مجالاً جديداً للإستثمار الذي سيرفد خزينة الدولة بما يُعوِّضها فقدانها لإيرادات بترول الجنوب ، وأتمنى في خويصة نفسي أن لا تستحي أو تتحرّج السلطات من تنفيذ إقتراحي ، فهي تملك بالفعل إدارات كثيرة تُثير أسمائها الضحك مثل ( إدارة الدرداقات ) و ( إدارة تأجير البنابر والسرائر ) لأصحاب الدكاكين والمحلات وستات الشاي في الأسواق ، حيث تُلزمهم بتأجير الكراسي والبنابر والسراير من المحلية وتمنعهم من شرائها .
وبالتالي ما دام أنّ السلطة ( كده كده) تُمارس ما يُطلِق عليه المصريون ( الفهلوة ) وما يُسميه السودانيون ب( الحنك ) فلا تثريب عليها ولا حرج إن قرّرت أن تُنشئ غداً ( إدارة تحليل الحرآم ) فمهما وُجِهت من إنتقادات للحكومة فإنّها يُمكن أن تُدرج تلك الإنتقادات ضمن إطار المثل القائل ( ضربو الأعور على عينو ، قال: بايظة أصلاً ) .

 

About محمد ميرغني

محمد ميرغني ، كاتب ليبرالي من السودان ،يعمل كمهندس معماري
This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.