هناك أوجه متعددة لإستغلال العوائد النفطية في البلدان ذوات الإقتصاد الريعي ومن بينها العراق. على أن الفساد المتلازم مع استغلال ثروات شعبنا العراقي يظهر ساطعاً سطوع الشمس في بلد غير ديمقراطي ويسوده الفساد كالعراق الآن. ولكن لنترك المحنة هذة جانباً، والتي يعاني منها بلدنا الحبيب بهذا الوقت، ونقول بأنها محنة عابرة سيعالجها الشعب العراقي الأبي بلا أدنى شك طال الزمان أم قصر، وإن غداً لناظره قريب!
إن واحداً من سيناريوهات إستغلال ثروات العراق النفطية هو أن يقام بخصخصة هذه الصناعة في البلاد. وهذا الأمر، كما يبدو لأول وهلة، عملي جداً. إذ من المعقول أن يقام بخصخصة عمليات التصفية والخزن والنقل والتوزيع وبيع المشتقات النفطية، وحتى خصخصة العديد من الصناعات المتعلقة بالعمليات العليا في استخراج النفط الخام مثل أنشطة الحفر ومختلف الأنشطة النفطية الخدمية المتخصصة. فهذه العمليات تدرّ عائداً سنوياً معقولاً على الأستثمارات المالية التي يتطلبها إنجاز تلك العمليات. وقد يزداد هذا العائد هنا أو ينقص هناك، ولكنه يبقى عائداً عادياً شأنه شأن الإستثمارات الأخرى المماثلة.
ولكن الأمر سيتغير بشدة حينما ننتقل الى ملكية النفط الخام المستخرج، إذ هنا يكمن الريع، وهو الأعلى بين نفوط العالم نتيجة لكلفة الإستخراج الواطئة في العراق. فمن يملك الريع؟ إنه الشعب العراقي بهذه الحالة ولا يجوز، إذن، خصخصة النفط الخام العراقي وهو الحاضنة الطبيعية للريع. فإن كانت الخصخصة تجوز مع العديد من الصناعات النفطية المذكورة كما بينا أعلاه فإنها لا تجوز هنا لكونها عملية تنتهي بسلب الشعب ملكيته وتسليمها للغير دون ثمن. أضف الى ذلك أن نتائج سلبية يمكن أن تنشأ نتيجة لهذه العملية. فبغض النظر عن الإخلال بمفهوم سيادة الدولة الناتج عن التخلي عن ملكية مورد طبيبعي كالنفط، وهذه ثقافة سائدة بالشرق الأوسط، فإن الخصخصة ستؤدي الى نفاذ النفط بأسرع مما لو بقيت الملكية بيد الحكومة. ذلك أن شركة مستثمرة مالكة للنفط العراقي سيكون في مصلحتها استنفاذ هذا النفط بأسرع مما لو بقي بيد الدولة لأن عائد القطاع الخاص، مُحتسب من قبل الشركة المستثمرة هنا، هو أخفض عادة من العائد المجتمعي محتسب من قبل الدولة. هذا ناهيك عن التضارب المحتمل بين توجهات مثل هذه الشركة وتوجهات منظمة أوبك، والعراق عضو بالأخيرة زيادة عن كونه أحد مؤسسيها.
وحتى لو فرضنا جدلاً بأن الخصخصة تمت رغم الأذى المالي االهائل الذي سيلحق بالشعب العراقي نتيجة للضروف السياسية الغير مؤاتية والمحيطة بالعراق في هذا الوقت، فإن أسئلة مهمة أخرى تطرح نفسها ومن بينها: ماذا سيمكن للعراق أن يفعل أمام التدفقات الهائلة من الأموال التي ستأتي مدراراً نتيجة هذه الخصخصة؟ وهل ستتوفر عند المسؤولين العراقيين بوقتنا هذا النزاهة الوافية والكافية للتصرف بهكذا أموال، ناهيك عن الكفاءات المطلوبة للتعامل مع أموال عظيمة ستنزل على العراق فجاءة؟ وهل لدينا بعراق الوقت الحاضر ديمقراطية حقة يمكن بظلها التصرف بحكمة من أجل حماية مصالح ليس هذا الجيل فحسب وإنما الأجيال العراقية القادمة؟ وماذا عن قدرات العراق الإستيعابية للأستثمارات من أجل إعادة البناء وهي بطبيعتها ستبقى محدودة مهما تطورت، وبالتالي كيف التعامل مع الفوائض المالية التي ستتولد حتماً؟
إن ما ورد في الفقرات الثلات أعلاه إنما هي محاولة للتعامل مع سيناريو خصخصة النفط العراقي وتبعاتها، وقد عالجنا أسباب عدم إمكانية حدوثها على وفق ما حدث وما زال يحدث في الولايات المتحدة، وكذلك ما حدث ببعض الدول الأخرى في العالم من بينها النرويج. ولكن لا ينتهي النظر في مسألة استغلال العوائد النفطية بالإقتصار على إمكانية الخصخصة من عدمها إذ أن هناك أموراَ أخرى يتعين في حالة العراق عرضها هنا والتمعن بها باقتضاب. ذلك أن الإقرار بعدم إمكانية خصخصة النفط الخام لا يمس الموارد النفطية السنوية، فهي في صعود مستمر نتيجة للزيادة المستمرة في الإنتاج، وهي أيضاً تتذبذب صعوداً ونزولاً تبعاً لتذبذب الأسعار. لذلك يتعين معالجة العديد من القضايا التي أهملها النظام الحالي. ومن بين تلك الآمور ضرورة تأسيس صندوق لإيداع الفوائض النفطية كما الأمر مع دول الخليج النفطية ومن بينها السعودية والكويت والإمارات وقطر. على أن مثل هذا المشروع ليس كافياً لوحده في معالجة مشاكل العراق المالية. فهو، وإن كان من الضروري والمتوجب في الماضي على الحكومة العراقية الشروع بتأسيسه واستغلاله منذ حدوث الفوائض النفطية الهائلة لديها خلال فترة السنوات 2011 – 2014، إلا أن هذا المشروع لم يتحقق والدلائل تشير إلى أن تلك الفوائض قد اختفت “بقدرة قادر” مع شديد الأسف. وبناءً على تلك التجربة المؤسفة يتبين أن هكذا مشروع ليس مرهما شافياً لوحده في معالجة احتياجات دولة نامية كالعراق خصوصاً بظل حكومة فاسدة تتمكن من فعل ما تريد.
يبدو أن السيناريو المتبع الآن في الإنتفاع من العوائد النفطية هو استغلالها بصورة رئيسية لتمويل ميزانية الحكومة السنوية. فهل هناك سيناريو آخر يمكن اتباعه؟ إن من بين السيناريوهات الممكن النظر بها ومناقشة إمكانية تطبيقها ببلد كالعراق واحد يتضمن توزيع العوائد النفطية السنوية على أفراد الشعب بدلاً من ذهابها لخزينة الدولة ثم فرض الضرائب على الدخل الناتج من تلك العملية لتمويل ميزانية الحكومة. ولكن رغم أن هكذا إجراء سيكون له الأثر الفوري بزيادة دخل الفرد العراقي، ولكنه سيقود الى نتائج سلبية في عدة نواحي من بينها: إن مثل هذا الدخل لكل فرد، أو مجموعة أفراد ممثلين لكل عائلة، سيولد تضخماً بالأسعار حتماً إذا ما توجه الصرف بصورة رئيسية نحو الإستهلاك على حساب الإستثمار. إن هذا ما سيحدث بالعراق على الأرجح نظراً لعدم ترسّخ ثقافة وطنية – إستثمارية في البلاد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حقيقة الأنتاج داخل العراق لمواجهة الطلب المحلي بأشكاله المختلفة متدنية جداً على مستوى القطاع الخاص وكذلك العام. ولهذا سيزداد زخم الأستيراد وستطول مدته تبعاً لمدى استجابة المسؤولين في الدولة لتوجيه الأقتصاد العراقي نحو الإستثمار المحلي سداً للطلب المتزايد باستمرار، ثم التوجه نحو تصدير ما يفيض من الإنتاج. وبالتخطيط المحكم ستتطور لدى العراق تدريجياً قاعدة إنتاجية أساسها القطاع الخاص، وكذلك تطوراقتصاد ضريبي ما سيقلل بمر الزمن من اعتماد الحكومة على الريع النفطي المستحكِم بالإقتصاد العراقي في الوقت الحاضر. على أننا يجب أن نستدرك هنا ونقول بأن القطاع الخاص، رغم اهتمامه بجودة المنتجات وتقليل كلفة الإنتاج حرصاً على النجاح في المنافسة، لكنه لن يستثمر إلا في المجالات التي سيحقق بها أرباح. وهو بذلك سوف لن يستثمر بمجالات النفع العام كالبنية التحتية والصحة والتعليم وما شاكل ذلك من أمور، إذ تبقى تلك المسؤولية برقبة الحكومة. لهذا ستكون عملية توزيع العوائد النفطية على أفراد الشعب غير كفوءة اقتصادياً ما لم تقم الحكومة بحجز كافة المصاريف الضرورية لتنفيذ الأنشطة ذات النفع العام قبل القيام بتوزيع أي من العوائد النفطية. وبهذا نستنتج أن سيناريو توزيع العوائد النفطية على الشعب غير واقعي في حالة العراق.
قد تكون هناك سيناريوهات أُخر قابلة للتطبيق في مجالات الأستخدام الأكفأ لعوائد العراق النفطية. على أن المهم في هذه القضية هو أن السيناوريوهات هذه ليست مانعة لبعضها البعض. ذلك أن أي مجموعة منها يمكن تبنيها من قبل الحكومة وبما ينسجم مع توجهاتها وسياساتها التي تتغير بين فترة وأخرى تبعاً لما تستوجبه مصالح الشعب، كما هو مفروض. كما نتوقع نحن، بصفتنا ذوي مسؤولية وطنية تجاه عراقنا الحبيب، أن يتم حصر إستخدام العوائد النفطية لإعادة بناء البنية التحتية بالدرجة الأولى، وكذلك من أجل الصحة والتعليم والحفاظ على بيئة نظيفة. وبموازاة ذلك سيكون من المفضل إستحداث صندقون متواضع لخزن العوائد النفطية الفائضة عن الحاجة، وذلك من أجل تأمين توازن الأقتصاد العام، وكذلك القيام بتوزيع سنوي لجزء معقول من عوائد النفط على الشعب مباشرة، مع الإحتفاض بما يتبقى للأجيال العراقية القادمة.
ختاماً، يتوجب على العراق أن يغذ السير دون كلل أو ملل من أجل تحقيق ديمقراطية كاملة غير منقوصة. كذلك يتحتم تطوير مجتمع مدني نابض بالحياة وبمعية نظام رصين من الكوابح والتوازنات، ويأتي في مقدمة ذلك كله صحافة حرة. إن كل ما ورد في هذا الختام المقتضب سيكون الضامن الأفضل ضد فساد الحكومة وسوء إدارة ثروات البلاد.
الأربعاء في 18/10/2017