نبيّك هو أنت.. لا تعش داخل جبّته! (6)؟

وفاء سلطان

اللغة هي الأداة التي تُستخدم من أجل برمجة الإنسان والهيمنة العقلية عليه، ويعتبر “التكرار” من أقوى الأساليب التي تُضمن نجاح تلك البرمجة. فالفكرة مهما بدت غريبة وغير مقبولة عندما يتم تكرارها على مسمع الغير تتسلل خلسة إلى اللاوعي عندهم. يميل الإنسان دائما إلى تبني المألوف والخوف من الجديد، وهذا بدوره يعطي الفكرة المألوفة والمكررة عبر الزمن فرصة أكبر لتظل سيدة الموقف.
علم التسويق والدعايات الذي يعتبر واحدا من أهم علوم اليوم، يعتمد على قوة “التكرار” كي يتمكن من أن يتسلل بسلعته إلى اللاوعي عند المستهلك، ويدفعه إلى شراء السلعة لاحقا ومهما كان موقفه منها في البداية.
عندما تنفرد فكرة ما دون غيرها فتظل ترقص في ساحة الوعي، تتسرب مع الوقت إلى اللاوعي خلسة، وكلما ازادد رقصها وطال زمنه كلما كانت فرصتها للتسلل عبر الحاجز الفاصل بين الوعي واللاوعي أكبر.
ومن هنا تكتسب العقائد الدينية قوتها، فالأفكار الدينية هي الأكثر تواجدا في ساحة الوعي وزمنها هو الأطول، ولذلك هي الأقوى والأرسخ أمام متطلبات التغيير.
عندما يسمح الواقع لأفكار أخرى بالتنافس مع الأفكار الدينية لا يمكن وتحت أي ظرف إلا أن تخسر تلك الأخيرة قوتها مع الزمن.
الإنسان يتحاور، وهناك طريقتين للحوار: حوار الإنسان مع الآخرين وحواره مع نفسه والذي يستغرق جل وقته. فالإنسان لا يستطيع لحظة واحدة أن يتوقف عن الحوار مع نفسه، وهذا الصوت الداخلي الذي يحدث به نفسه هو إنعاكس لما يدور في حيّز اللاوعي عنده.
ومعظم حواره مع نفسه يتمّ بلا وعيه، وبطريقة آلية تعكس ما يدور داخل اللاوعي عنده.
تهدف عملية الهيمنة العقلية إلى استعمار الصوت الداخلي للإنسان، ومتى فعلت ذلك تمكنت من فرض ذاتها.
يقول المثل العربي: التكرار يعلم الحمار، والحقيقة أن التكرار يهيمن على الإنسان بطريقة أسهل من هيمنته على الحمار.
فالتكرار عند الإنسان يسيطر لاحقا على صوته الداخلي وتصبح الفكرة المكررة ـ بدون إذنه ـ ذلك الصوت، ومتى تحكمت الفكرة بالحوار بين الإنسان ونفسه تكون قد نجحت في هيمنتها وفي برمجته وفقا لتلك الهيمنة.
خير من شرح تلك النقطة هو الكاتب الأمريكي Edward Hunter الذي ألفّ عام 1951كتابا بعنوان: Brain-washing in China أي الغسيل الدماغي في الصين.
شرح فيه كيف تمت عملية غسل دماغ نصف بليون صيني يومها، وخلال فترة قصيرة جدا، لتبني الفكر الشيوعي السوفياتي.
شمل برنامج الغسل ثلاثة محاور:
1ـ تعريف الناس بالشيوعية السوفياتية بطريقة محببة.
2ـ محاربة الفكر الديني وخصوصا المسيحيّة.
3ـ محاربة كل ما هو أمريكيّ.
اعتمد برنامج الغسل Indoctrination program اسلوب “التكرار”. كانت هناك حلقات حزبية تُدار على جميع المستويات الشعبية، وكان يتم تدريب الناس على كتابة مذكراتهم اليومية وإلقائها خلال الإجتماعات، ثم يُكتب تقرير عن تلك المذكرات ويرفع إلى الجهات المختصة التي تقوم بإعادة صياغة تلك المذكرات بالشكل الذي تُريدها أن تكون وتأمر بإعادة قرائتها من جديد على الأعضاء في الحلقة نفسها. وهكذا دوالييك حتى يتم قولبة حياة البشر وفق الطريقة المرسومة. وهكذا تدخل الفكرة المرجوة خلسة وبهدوء إلى اللاوعي عند الناس وتبدأ من هناك بالتحكم بسلوكهم.
في الوقت التي كانت تتم بها تلك البرمجة كان تتم ملاحقة أية فكرة أخرى لا تنسجم مع برنامج الغسل.
حتى تاريخ اليوم، لو حاول الصيني غوغلة كلمة “ديمقراطية” أو “حقوق الإنسان” لن يتمكن من الوصول إلى أية معلومات.
لقد نجحوا من خلال احتكار فكرة ما وتكرارها بالسيطرة على ساحة الوعي وتسخيرها كحلبة رقص للفكرة التي تخدم برنامجهم.
…………..
الأمّة الإسلامية أمّة مفلسة على جميع الأصعدة إفلاسا أخلاقيا وفكريا وعقليّا ونفسيّا وتربويّا وحضاريّا، والأهم من كل هذا وذاك إفلاسا لغويّا!
الإسلام كجهاز عقائدي ساهم إلى حدّ كبير في إفلاسها. وباعتبار الإسلام دين عربي ولم تتم ترجمته بحذافيره إلى أية لغة أخرى، لذلك أتوقع بأن عملية إعادة تأهيل المسلمين غير العرب أسهل بكثير من إعادة تأهيل العرب المسلمين.
التخريب العقلي الذي تسببت به اللغة التي تبناها الإسلام أشد حدّة عند العرب، باعتبار لغة الإسلام لغتهم وهم أقدر على فهمها واستيعابها.
لا أظن أن أكثر من 5% من القمامة اللغوية التي ذخرت بها الكتب الإسلامية العربية قد تمّ ترجمته إلى أية لغة أخرى. ولذلك أنهك التخريب الذي تسببت به تلك اللغة العقل العربي أكثر مما أنهك أيّ عقل إسلاميّ غير عربي.
أقول العقل العربي وأعني ما أقوله، إذ لم يسلم العرب غير المسلمين من ذلك التخريب وكان قدرهم أن يكونوا، ربما إلى حدّ أقل من العرب المسلمين، نتاج ثقافة إسلامية شاؤوا أم أبوا.
فالرجل المسيحي العربي، كما هو المسلم العربي، أكثر إلماما وفهما للغة الإسلام من المسلم غير العربي، والآثار السلبية للثقافة الإسلامية متجذرة في شخصيته وتلمسها بسهولة عندما تتعمق في دراسة تصرفاته ولغته.
الإنسان هو ناتج بيئته ولذلك من الطبيعي جدا أن يكون المسيحي العربي مسلما في تصرفاته ربّما أكثر من المسلم غير العربي.
لا شكّ بأن اللغة التي تبنتها المسيحيّة قد ساهمت في تخفيف حدّة ذلك التخريب، لكنها لم تستطع أن تمنع حدوثه. فالمسيحي العربي هو مسيحيّ في بيئته لكنه مسلم في مجتمعه، ولا بدّ للمجتمع من أن يترك بصماته!
هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فالعامل الثاني الذي لعب دورا في ازدياد حدّة التخريب عند الإنسان العربي المسلم فهو القضية الفلسطينية!
لقد نخرت تلك القضية كل خلية في دماغ العربي مسلما كان أم مسيحيا حتى عطّلت فعالياته.
تأتي عبارة “القضية الفلسطينية” في المرتبة الثانية بعد الطقوس اللغوية الإسلامية من حيث تواتر تكرارها.
فلقد تصدرت قائمة المصطلحات اللغوية المستخدمة يوميا على مدى أكثر من نصف قرن واحتكرت، دون غيرها، ساحة الوعي عن الإنسان العربي. خسر الإنسان العربي أرضه، ولم تكن تلك أكبر خسائره. فلقد خسر أيضا
القسم الأكبر من حيّز التفكير عنده، ليقتصر على تلك القضية، تلك الخسارة
التي نحتاج إلى قرون لو حاولنا تعويضها.
لقد حلّ بالإنسان العربي من جرّاء تلك القضية ما حل بالراعي الذي ترك القطيع كله وراح يبحث عن الحمل الضائع، فلم يجد الحمل ولمّا عاد إلى القطيع لم يجد له أثرا، لقد خسر القطيع كله من أجل حمل واحد.
لقد عجّت الكتب العربية على إختلاف أنواعها بتلك القضية، كما واستحوذت على وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئيّة، فلم تترك أمام الإنسان العربي خيارا آخر ليفكر فيه. استنزفت وقته وماله وجهده وكلّ طاقته، وفي حقيقة الأمر وجد فيها مبررا لكسله وتقاعسه وفشله.
وهنا أودّ أن أشير إلى نقطة قد تكون خارج الموضوع لكنها تأتي في سياقه وهو الأثر السلبي الذي تركته على الإنسان الفلسطيني دون غيره. لقد لعب ذلك الإنسان ولم يزل دور الضحية ووجد في ذلك الدور مهربا له من مسؤولياته، فهو في حالة سخط دائم على غيره من العرب رغم كلّ التضحيات التي ساهمت فيها الدول العربية الأخرى والتي مازالت تساهم.
زرت عمّان عام 2003 زيارة عمل، وبقيت هناك حوالي عشرة أيام وكانت معظم تنقلاتي بتكاسي اجرة. لفت نظري أن جميع سائقي التاكسي في عمان، على الأقل الذين صادفتهم، من الفلسطينين. كان يدور بيني وبينهم الحديث نفسه، فمنذ أن أتلفظ بالكلام يردّ عليّ السائق بسؤاله: هل الأخت شامية؟
ـ نعم
ـ أهلا وسهلا بك، هل أعجبتك عمان؟
ـ عمّان مدينة جميلة ولقد تفاجئت بتطورها العمراني وجمال تخطيطها.
ـ الفضل يعود لرؤوس الأموال الفلسطينيّة، ولولا الفلسطينين لكانت عمان مضرب بدو فكل الأردنين بدو ولا يعرفون معنى التحضر.
في أغلب الحالات كنت أعقب على قوله بقولي:
ولكن يُشكرون على الأقل فتحوا لكم بابهم ورحبوا بكم لافرق بينكم وبينهم، وعندئذ كنت اُفاجئ بصمت رهيب.
دُعيت مرّة لحفل سيعود ريعه إلى إحدى الجمعيّات الفلسطينيّة. كنت أمرّ بين الطاولات وأنا أبحث عن طاولتي، فتناهى إلى سمعي أحدهم يقول للجالسين معه على نفس الطاولة:
ـ السبب يعود إلى الكلاب السوريين! فتوقفت وقلت له: أرجوك في المرّات القادمة لا تدعو أي كلب سوري إلى حفلاتكم!
فردّ على الفور: لا تفهميني غلط أنا أقصد الحكام العلويين الكلاب!
تركته وانصرفت دون تعليق.
لي صديق فلسطيني من مواليد الكويت وهو رجل أعمال كبير في إحدى دول الخليج. ناقشت معه اجتياح صدام حسين للكويت والأعمال الإجرامية التي ارتكبها جيشه بحق الكويتين، فاعترف بها لأنها جرت أمام عينيه ولكنه بررها ودافع عن ذلك الإجتياح بطريقة أثارت اشمئزازي إلى حدّ الغثيان. خلته للمرّة الأولى يدافع عن حقّ العراقين في الكويت كولاية عراقية كما يدّعي البعض، لكن الأغرب من ذلك كلّه عندما ذكرنا الشعب العراقي ومعاناته أثناء حكم صدّام انبرى بقوله: هذا شعب يستحق السحق!
في حقيقة الأمر كان يدافع عن الأموال التي اشترى بها صدام حسين مواقف قادة الفلسطينين والمنتفعين من أغنيائهم.
يُشعرك الفلسطيني عندما تتعامل معه بأنك مدين له وبأنك سبب قضيّته.
لم يواجه الفلسطيني عموما قضيّته بمسؤولية ولم يقدّر تضحيات من شاطره تلك المسؤولية. استغل أغنيائه وحكامه تلك القضيّة من أجل تحقيق مآرب ومنافع شخصية. الفرص التي نالها الفلسطينيون عموما لم ينلها أحد من شعوب المنطقة، وخصوصا السوريين والمصريين والعراقيين باعتبارهم أكثر من دفع ثمن القضية الفلسطينية بين العرب. فتحت لم أبواب الهجرة إلى أوروبا وأمريكا أكثر من غيرهم وتدفقت عليهم مساعدات لم يحلم بها معظم فقراء العالم.
……….
يميل الإنسان بصورة عامة إلى أن يلعب دور الضحية. هذا الدور يحرره من مسؤولياته ويخفف عنه حدّة الإحساس بالذنب تُجاه تقصيره.
يلوم من خلاله الآخر ويعتبره مسؤولا عن كلّ إخفاقاته، ويرفض أن يتحمّل أيّة مسؤولية. يعتبر الكثيرون من علماء النفس ذلك الدور فعالا وقويا للغاية، فالذي يلعبه يُثير لدى الآخرين، ليس فقط شفقتهم، وإنّما إحساسهم بالذنب تُجاهه. ومتى استطاع الإنسان أن يُثير لدى الآخر إحساسه بالذنب تُجاهه استطاع بشكل عام أن يسيطر عليه، وتزداد السيطرة مع الزمن إلى درجة تجعل من الآخر الضحية الحقيقية.
فالإنسان يكون ضحيّة حقيقية عندما تكون عواطفه تحت سيطرة الآخرين.
خير من يستطيع أن يلعب ذلك الدور ويُجيد إثارة الشفقة لدى الآخر وإحساسه بالذنب هن الأمهات المسلمات في أعمارهن المتقدمة، إذ يلعبن ذلك الدور مع أولادهن وخصوصا الذكور منهم.
المرأة المسلمة تعاني في بيت أبيها وزوجها الأمرّين، وعندما تتقدم في السن وتخف حدّة سيطرة الزوج العجوز عليها تستغل ماضيها الشقي لتُثير شفقة أولادها. وكلما تمكنت من إثارة شفقتهم وإحساسهم بالذنب كلّما استطاعت أن تسيطر على حياتهم.
الرجل المسلم يخضع خضوعا تاما لأمّه مدّعيا إنها أم والله قد أوصى بالأم، دون أن يعترف بحقّ زوجته رغم كونها هي الأخرى أم، وهكذا دوالييك يتكرر السيناريو.
……………..
عندما يقع الإنسان ضحية لواقع ما، لا يستطيع أن يسترد حقّه وكيانه إلاّ عندما يتحرر من إحساسه بأنه ضحية ويرفض أن يظل ضحيّة.
لم يكن قادة الفلسطينين يوما أفضل من أسوأ قائد عربي آخر، ولكن الشعب الفلسطيني من أقل الشعوب العربية انتقادا لقادته وحكومته ودوما يلقي كرته بإتجاه مرمى الآخرين.
ولا أجد تفسيرا لتلك الظاهرة إلا أنه استعذب دور الضحية الذي يلعبه والذي حرره إلى حدّ ما من مسؤولياته، وهو إذ اعترف بتقصير قادته وحكومته سيخفف من حدّة قدرته على إثارة شفقة الآخرين وإحساسهم بالذنب تجاهه.
يرى خبراء النفس إنّ أفضل علاج لتلك الظاهرة هو أن تعالج الناس الذين وقعوا ضحية من يلعب دور الضحية، وذلك بتدريبهم على تجاهل شكواه وانتقاداته ومحاولاته لإثارة إحساسهم بالذنب، ثمّ إجباره على تحمل مسؤولياته الشخصية.
فالابن لا يستطيع أن ينقذ زواجه وبيته من أمه الطاغية، والتي تريد أن تفرض ماضيها على كنتها، إلا بتجاهل مطالب الأم وشكواها كي تضطر أن تلتزم بحدودها، وهذا حكما لا يعني الإساءة اليها.
………….
لقد دفعت الشعوب العربية قاطبة ثمن القضية الفلسطينية باهظا، ولا أقصد هنا أرضا أو بشرا أو مالا أو عتادا أو مجهودا وإنّما أقصد استعمارها للعقل العربي. فلقد زاحمت تلك القضية ثرثرة الكتب الإسلامية واحكترت العقل العربي، إذ أصبح مقياس ثقافة المفكر العربي هو قدرته على الخوض في تفاصيلها حتى اليوم. عندما تحتكر فكرة ما العقل تقضي على إبداعه وعلى كل فرصة لإنتعاشه وإزدهاره، وهذا ما تسببت به القضية الفلسطينية للعقل العربي مخلفة قحطا فكريّا لا يمكن إخصابه إلا بعد زمن طويل من تجاوز تلك القضية وإلزام الفلسطينين أنفسهم دون غيرهم بحلّ مشاكلهم، وهذا حكما لا يعني الإساءة اليهم.

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.