وفاء سلطان
أقدس غايات الحياة هي الحفاظ على الحياة نفسها.
العقائد تساعدنا على البقاء، ولذلك تتبرمج في الدماغ بطريقة عضوية عصيّة على التغيير.
أي محاولة لتغيير العقائد يجب أن تراعي خوف الإنسان على سلامة حياته إذا خسر عقائده.
يحتار علماء النفس والسلوك أمام ظاهرة تشبث الناس بعقائدهم رغم إثبات بطلانها، ويتساءلون: كيف يستطيع هؤلاء الناس أن يتمسكوا بعقائد وهم يروون بأمّهات أعينهم البرهان العلمي الذي ينفي مصداقيتها؟!
هذه الحيرة، ولسوء الحظ، قادت في الماضي هؤلاء العلماء إلى النظر بإزدراء إلى أمثال هؤلاء الناس الذين لا يغيّرون عقائدهم بعد دحض العلم لها، وقد وصل بهم الأمر إلى اعتبارهم أغبياء أو مجانين. موقفهم آنذاك يؤكد عدم فهمهم للآلية التي تتم بها برمجة العقائد بيولوجيا، وما الحكمة من أن الجهاز العصبي يبرمج تلك العقائد بطريقة يصعب لاحقا تغييرها!
الوظيفة الرئسية للدماغ هو أن يحافظ على حياتنا. طبعا هناك وظائف أخرى ولكن الحفاظ على الحياة هو الوظيفة الأهم.
أضرب مثلا:
عندما يتعرض الإنسان لحادث عنيف ينزف خلاله معظم دمه ولا يبقى لديه مخزون من الدم يكفي لتروية القلب والدماغ، يقوم الدماغ عندئذ بالتوقف عن كل فعالياته كي تقل حاجته للدم فيسمح بضخ ما تبقى منه إلى القلب مركز الحياة. يدخل الإنسان من جرّاء ذلك في حالة غيبوبة، بمعنى أن الدماغ يضحي بـ ” الوعي” من أجل غاية أسمى وهي البقاء على الحياة. الحياة بلا وعي، عند الدماغ، أقدس من الموت بوعي!
كل عمل يقوم به الدماغ مهما كان صغيرا يصب في تلك الخانة وهي خانة “الحفاظ على الحياة”. لا نستطيع أن نفهم أي عمل يقوم به الدماغ ما لم نفهم دور ذلك العمل بالنسبة للحفاظ على الحياة.
حتى بعض الإضطربات السلوكية لا يمكن علاجها ما لم نفهم مهمّة الدماغ للحفاظ على البقاء. أضرب مثلا: في سياق معالجة السمنة الناجمة عن الإفراط في الأكل، وعندما يقوم المريض بانقاص كمية الأكل بغية انقاص الوزن، يظن الدماغ للوهلة الأولى بأن إنقاص كمية الطعام سيساهم في تهديد الحياة، فيصدر أوامره للجسم بتخفيض معدل استقلاب الطعام وبالتالي يخفّض معدل حرق الحريرات. ولذلك يشكي هؤلاء المرضى عادة من أنهم لم يخسروا شيئا من وزنهم رغم أنهم قللوا من كمية طعامهم. هذا يثبت بأن الدماغ مصنوع لغاية سامية وهي الحفاظ على الحياة.
يستخدم الدماغ عادة حواسنا كي يقوم بعمله. فمن خلال الحواس يستطيع الدماغ أن يرصد مكامن الخطر ويعمل على تجنبها. فعندما يواجهنا أسد في غابة لا نستطيع الهرب منه مالم تره أعيننا أولا، ولا نستطيع أن نتصل بالشرطة مالم نسمع اللص يتحرك داخل بيتنا.
فالحواس مهمة ولكنها ليست كافية لحمايتنا، وذلك ببساطة لأن قدرتها على تحديد مكامن الخطر محدودة من حيث المدى ومن حيث العمق.
فلا نستطيع عن طريق الحواس إلا تحديد الخطر الكامن في مساحة محدودة. الدماغ يعي محدودية الحواس ويعرف بأن على الكائن أن يتجنب مكامن الخطر الواقعة خارج مساحة الحواسٍ.
لنفرض جدلا بأنك دخلت بناية غير آمنة ولم تكن قد دخلتها من قبل، فتقلق لأن حواسك عاجزة عن التقاط كل ما يدور داخل تلك البناية. يضطر الدماغ عندئذ إلى اللجوء إلى العقائد المبرمجة للـ اللاوعي كي تساعده في تخمين مدى الخطورة. فتتساءل: هل هناك رجل مسلح يختبئ خلف الباب….هل هناك قنبلة موقوته ومخبأة تحت الأرض…هل أحد السقوف مهدد بالإنهيار؟!!
تساؤلاتك تلك ستدفعك لإتخاذ المزيد من الحيطة والإحتراس. ولو لم يكن لديك اعتقاد راسخ بأن الرجل المسلح…القنبلة الموقوتة….السقف المخلخل يشكل خطرا على الحياة لما استطعت أن تفكر بالخطر المحدق بك وبالتالي لما استطعت أن تتجنبه.
إذا العقائد تلعب دور الرادار الكاشف للخطر، والذي لا تستطيع الحواس عادة أن تكشفه بسبب محدوديتها.
وظيفيا، يعامل الدماغ العقائد كخريطة تعرفه على مكامن الخطر التي لا يستطيع أن يتعرف عليها من خلال حواسه الخمسة فقط.
لنفرض أنك تستلقي داخل غرفة نومك. أنت لا تستطيع أن ترى سيارتك التي أوقفتها في مدخل بيتك. ولذلك لا تعرف إذا كانت ما زالت هناك أم لا.
صارت السيارة خارج حدود ساحة الحواس، ولكن اعتقادا ما قد رسخ داخل دماغك بأن سيارتك مازالت في البقعة التي تركتها بها.
ولذلك في تلك الحالة ستعتمد على اعتقادك وليس على حواسك لتحديد موقع السيارة.
إذا بالإعتماد على الجهاز العقائدي نستطيع أن نتعرف على أجزاء من العالم المحيط بنا والتي لا تستطيع حواسنا أن تدركه.
قدرة العقائد على زيادة المدى المنظور للحواس تساعد على بقائنا أحياء. لم يستطع رجل الكهف أن يبقى حيا لو لم يتبنى اعتقادا بأن خطرا ما يحدق به خارج حدود الكهف وعليه أن يكون جاهزا لمواجهة ذلك الخطر.
عندما يترتب عليك أن تجتاز طريقا جبليا مظلما وغير آمن، اعتقادك باحتمال أن تواجه بعض الحيوانات المفترسة أو قطاع الطرق يدفعك لأن تسلح نفسك بعصا أو بمسدس وهذا بدوره يزيد من قدرتك على البقاء حيا.
العقائد لا تحتاج إلى الحواس لتقوم بدورها المقدس هذا، ولذلك يعاملها الدماغ كحقائق مقدسة لا تحتاج إلى برهان حتى ولو أثبتت الحواس بطلانها.
…………………
نفهم مما تقدم بأن الدماغ يستخدم الحواس والعقائد كأدوات لتحديد مكامن الخطر المحدق بالعضوية، وبالتالي تساعده على مواجهة ذلك الخطر.
الدماغ يميّز بين الحواس والعقائد كأدوات، ولكن لا يميّز بينهما من حيث الأهمية.
فأهمية الإعتقاد تساوي تماما أهمية الحواس. الحواس تساعد الدماغ على تحديد الخطر في المدى المرأي والمحسوس، والإعتقاد يساعد الدماغ على تحديد الخطر في المدى غير المرأي وغير المحسوس.
العقائد تقوم بوظيفتها بمعزل تماما عن الحواس، بمعنى أنها لا تحتاج إلى الحواس كي تحدد الخطر المحقق.
ولذلك ليس سهلا تغيير العقائد حتى أمام البراهين الحسيّة التي أثبتت بطلانها. لو كان الأمر أسهل لخسرت العقائد أهميتها من حيث الحفاظ على بقائنا، وبالتالي لتهددت حياتنا.
لو نظر رجل الكهف إلى المساحة الممتدة أمام كهفه ولم ير أو يسمع أثرا لوحش، فاقتنع بأن ما قدمته له الحواس كان كافيا لحمايته وخرج دون أن يتأبط عصاه أو سلاحه لما استطاع أن يبقى حيا، ولإندثر بالتالي الجنس البشري.
طالما كانت وظيفة الدماغ هي الحفاظ على الحياة بأي ثمن، إذا يحتاج ذلك الدماغ أن يتبنى ليس فقط ما تثبته الحواس، بل كل العقائد التي تساهم في الحفاظ على الحياة سواء انسجمت مع ما تثبته الحواس أم تناقضت!
عندما تتعارض العقائد مع الحقائق المحسوسة، ليس بالضرورة أن يعطي الدماغ الأفضلية للحقائق المحسوسة. ولذلك نرى من الصعب على الإنسان أن يتخلى عن عقائده حتى وإن بدت غير منطقية أو مثيرة للضحك أو متعارضة مع أبسط الحقائق المحسوسة. الدماغ لا يهمه أن تتوافق العقائد مع معطيات الحواس، بل كل ما يهمه أن تساهم العقائد في الحفاظ على الحياة.
ليست كل العقائد تساهم في الحفاظ على الحياة، ولكن المشكلة بأن العقائد الدخيلة والتي لا تقوم بتلك الوظيفة قد صارت مع الزمن جزءا من النسيج العقائدي، ولذلك سحب تلك العقائد سيؤدي إلى خللة الجهاز العقائدي بخيره وشرّه.
لنفرض أننا رفعنا بناية واكتشفنا لاحقا بأن إحدى دعائم تلك البناية ضعيفة ولن تقوم على مواجهة الظروف البيئية. لو أردنا تغيير تلك الدعامة سنواجه مشكلة احتمال هبوط البناية كلها فنعمد إلى سند تلك الدعامة بمزيد من الدعائم لكي نبقي عليها.
ولذلك يسعى الدماغ إلى الحفاظ على جهازه العقائدي بأي ثمن، حتى ولو كان خيط ما في نسيج ذلك الدماغ واهنا وبحاجة إلى تغيير. فغاية الدماغ الأولى هي الحفاظ على الحياة دون أن يهمّه نوعية تلك الحياة. لذلك، وكما سبق وأشرنا، يتوقف الدماغ عن العمل عندما تتهدد حياة الإنسان كي يسمح للطاقة المتبقية أن تساعد القلب كمركز الحياة على الإستمرارفي العمل. الحياة بلا وعي، حسب مقاييس الدماغ، أفضل من الموت بوعي.
المسلمون يدافعون بكل قواهم عن أخلاقية وشرعية زواج محمد من الطفلة عائشة، أو من زينب زوجة ابنه بالتبني، أو من صفية السيدة اليهودية التي مارس معها الجنس وهو في طريق عودته من الغزوة بعد أن قتل زوجها وأبيها وأخيها. هم يفعلون ذلك رغم كل الحقائق العلمية والإجتماعية التي تبطل أخلاقية وشرعية جميع تلك الزيجات.
لماذا؟ لأن الإعتراف ببطلان تلك الزيجات سيؤدي بالنتيجة إلى خللة الإسلام كجهاز عقائدي، إذ لا تستطيع أن تسحب خيط من قطعة نسيج دون أن تهدد سلامة النسيج ككل. عندما تكتشف بأن حبات من الكرز معطوبة في صندوق هبط من السماء ستنفي المصدر السماوي لذلك الصندوق!
الأمر لا يقتصر على المسلمين أنفسهم، بل يتعداهم إلى أتباع كل الديانات. الكثيرون من علماء البيولوجيا في أمريكا يؤمنون بنظرية داروين للتطور، والتي تتناقض كليا مع آيات “الخلق” التي جاء بها الإنجيل والتوراة، لكنهم مازلوا يعتبرون أنفسهم مسيحيين أو يهود ويترددون على كنائسهم ومعابدهم.
…………..
يعتقد علماء النفس والسلوك بأن العقائد، وطالما تلعب دورا مهما في الحفاظ على الحياة، لن يكون من السهل تغييرها حتى ولو أثبتت الحواس والدراسات العلمية بطلانها.
لنفس السبب ينصح هؤلاء العلماء أن لا يُجبر الناس بطريقة قسرية على التخلي عن بعض العقائد التي اُثبت بطلانها، ولا على أن يُعاملوا كأغبياء أو تافهين لو أصرّوا على التعلق بها.
ويُنصح هؤلاء العلماء المعنيين بتغيير العقائد أن لا يركزوا في محاولتهم تلك على ما جاءت به الحقائق العلمية وحسب، بل إقناع أتباع العقائد المراد تغييرها بأن تغيير عقائدهم سيساهم في الحفاظ على حياتهم.
بالإضافة إلى شرح الحقائق العلمية، يجب على المعني بالأمر أن يشرح دور تلك الحقائق في الحفاظ على الحياة، وذلك للتخفيف من حدة قلق الناس الذين يودون تغيير عقائدهم ولكنهم يتمسكون بها خوفا على سلامتهم.
وعلى المعنيين بالأمر أن يعترفوا بأن تغيير العقائد أمر ليس سهلا. اعترافهم هذا سيخفف عن أتباع تلك العقائد حدة الأمر. فأية محاولة للتغيير سيعتبرها الدماغ تهديدا لسلامة الحياة وبالتالي سيقاتل من أجل منع ذلك التغيير.
يجب أن تناقش العقائد بطريقة أخلاقية بعيدة عن الإستهزاء والسخرية، وإلاّ فإنها تثير لدى الآخر ردة فعل ضد محاولة التغيير. الإستهزاء والسخرية بعقائد الآخرين تعطيهم الحق بأن يدافعوا عن عقائدهم، وبالتالي تجعل مهمة التغيير أصعب بل أكثر استحالة!
يجب أن تكون غاية المعني بالتغيير أن يخفف من حدة الصراع لا أن يصبّ الزيت على ناره.
لن ينجح المعنيون بالتغيير إلا في حالة واحدة، وهي عندما يعتمدون في حوارهم على الحكمة والإحترام ويتجنبون إثارة المشاعر وإذلال الآخرين.
لكي يتسنى لهم أن يتبنوا الحقائق العلمية يجب أن لا تصرخ في وجههم عندما تنقلها لهم، وهذا لا يعني أن تتنازل عن بعضها كي لا تؤذي مشاعرهم.
هناك شعرة واهية بين أن تقنعهم بهدوء وبين أن يستفزك عنادهم فتصرخ في وجههم. لكن يجب على المعني بالتغيير، وتحت أي ظرف، أن لا يقطع تلك الشعرة حتى لا يخسر تلك المعركة.
عندما كتبت عن تصرفات محمد وأخلاقياته تلقيت الكثير من الرسائل التي تنعتني باليهودية والنصرانية وبأنني سليلة أبناء القردة والخنازير، ناهيك عن الشتائم والتهديدات التي لا تحملها الجبال. طبعا لم ولن أواجههم يوما بنفس أساليبهم، ولذلك استمريت قدر الإمكان في شرح وجهات نظري بطريقة بعيدة كل البعد عن الإستهزاز والسخرية والتجريح.
لم أهاجم في حياتي محمدا كشخص، بل انتقدت تصرفاته وأقواله. لم أنعته يوما بصفة لا تليق بإنسان، ولكنني وصفت تصرفاته الخارجة عن كل لياقة وإنسانية.
لو جاء إليك شخص وقال لك أبوك رجل حقير ستقيم عليه الدنيا ولن تقعدها، حتى في أسوء حالاتك مع أبيك. لكن عندما يشرح لك تصرفات والدك، التي لا تنم إلاّ عن حقارة، ستكون أكثر قدرة على استيعاب الأمر وقبوله.
معظم المعنيين بالتغيير كانوا يوما من المؤمنين بتلك العقائد التي يحاولون تغييرها، ولم يحتاجوا إلى الكثير من التجارب كي يغيروا عقائدهم، لماذا؟
لأن قدرتهم على التغيير وفهم ضرورياته وآليته هي موهبة كأية موهبة أخرى، وليس كل الناس يملكون تلك الموهبة.
الفنان الذي يملك موهبة الرسم عليه أن لايستهزأ بمن لا يعرف كيف يرسم. وهم بدورهم لا يملكون الحق بأن يستهزأوا بمن لا يملكون موهبة القدرة على التغيير وتبني الحقائق العلمية، وعليهم أن يستمروا في محاولاتهم بطريقة ذكية تتبنى الإحترام والمنطق والشفقة.
على المعنيين بالتغيير أن يركزوا إهتمامهم على الهدف البعيد المدى، وليس على منفعة آنية. يجب أن تكون غايتهم فرض العقائد المنطقية التي تحسّن نوعية الحياة، وليس أن يموتوا كي يثبتوا صحة أنفسهم.
المعني بالتغيير يجب أن يكون واضحا في نقله للحقائق العلميّة والمنطقية، ونظيفا كي لا يخلطها بمنافعه الشخصية، ويجب أن يكون في الوقت نفسه قويا كي يتحمل العبء الذي قد يواجهه أثناء محاولاته تلك.
الإنحياز يقتل الحقيقة، وتضارب السلوك مع القول يدفن تلك الحقيقة. فالهادف إلى التغيير يجب أن يكون عادلا وغير منحاز، ويجب أن يتوافق سلوكه مع ما يدافع عنه!
للحديث صلة.
***********