وفاء سلطان
سُئل عالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني الشهير
Bertrand Russell:
لنفرض أنك مت ووجدت الله حقيقة، كيف ستبرر إلحادك وماذا ستقول له؟
ردّ على الفور: سأقول له، يا رب لقد خلقتني عالما في الرياضيات، وعالم الرياضيات لا يؤمن بشيء مالم يكن هناك برهان يُثبت وجوده، لماذا لم ترسل لي البرهان؟!!
لكن زميله عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي الشهير
Blasé Pascal
يبدو أكثر تساهلا فيما يتعلق بهذا الأمر، إذ يقول: “هناك احتمالين لا ثالث لهما، إمّا الله موجود وإما غير موجود. إذا آمنت به وكان موجودا ستنال جنته، وإن لم يكن موجودا لن يضرّك الأمر، ولذلك من الأفضل أن تؤمن به”.
يعترض على عبارته الأخيرة ” ولذلك من الأفضل أن تؤمن به” الفيلسوف والمفكر الأمريكي
Richard Dawkins
بقوله:
“الإيمان بالله ليس قرارا تستطيع أن تتخذه، وإنما حاجة ملّحة يشعر بعض الناس أنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بدونها، والبعض الآخر يشعرون أنهم لا يحتاجونها”
هذا صحيح، فقد تذهب كل يوم إلى معبدك وتصلي حتى تقوم الساعة ولكن يبقى في داخلك شكّ بوجود الله. لذلك كل الطقوس والشعائر الدينية التي يقوم بها الإنسان لا تستطيع أن تثبت إيمانه، مادام في داخله شكّ بجدوى ذلك الإيمان.
الأم تيريزا فنت حياتها كي تخدم غيرها، وبطريقة أوحت بها للناس إنها كانت تفعل ذلك في سبيل دينها والمسيح الذي آمنت به. لكنّ رسائلها التي ظلت طيّ الكتمان، بناء على رغبتها، ثم تمّ الكشف عنها بعد موتها أكدت بأنها كانت طوال حياتها تشكّ بوجود الله.
لنفرض جدلا بأن الله موجود، هل سيقبل ذلك الله أحدا يكذب في مشاعره فيخفي منها مالا يظهره؟
هل سيُدخل أحدا في جنته لأنه صلّى وصام والتزم بكل شعائره الدينية، رغم أنه كان يشكّ في أعماق أعماقه بصحة ذلك الوجود وبجدوى ما كان يقوم به؟!!
إذا ما الحكمة من أن نجبر أحدا على اعتناق الإسلام؟ ما جدوى أن نقاتل من لا يؤمن بـ “الله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ولا يدينون بدين الحق”؟ عندما يتظاهر أحدهم بالإيمان خوفا من حدّ السيف، هل سيقبل الله إيمانه؟!!
الإيمان عملية قبول مطلق لفكرة ما رغم عدم وجود برهان لإثباتها. فهل يستطيع إنسان أن يقبل فكرة ما بالمطلق لمجرد أنه يخاف من حدّ السيف؟!!هل يعتبر تظاهره بالقبول إيمانا في تلك الحالة، وما جدوى أن يتظاهر الإنسان بعكس ما يضمر؟!!
الإيمان أو عدم الإيمان هو محض خيار، ويجب أن تكون حرّا في التعبير عن طبيعة إيمانك كي يظل إيمانا، وإلاّ أصبح مجرد قناع يخفي وراءه الحقيقة.
لكن ما الذي يحدث مع الزمن؟!!
قد يلتصق القناع بوجه صاحبه حتى يصبح جزءا حقيقيا منه، وهذا ما حدث لآبائنا وأجدادنا الذين أسلموا تحت حدّ السيف، ثم توارثنا أقنعتهم بلا خيار!
تلك حقيقة أثبتها علم النفس، فاللاوعي يصدق كل ما يقال له ومع الزمن لا يملك القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، فيدفع الوعي إلى تنفيذ ما يثبت صحة ما سمعه.
قد يكذب الإنسان ومع الزمن يصدق كذبته، وتتحول تلك الكذبة بدون وعيه إلى جزء من برمجته العقائدية.
الدين فكرة ويجب أن يبقى الإنسان سيّد أفكاره، وأن لا يسمح لها بأن تسوده.
عندما يُجرد الإنسان من قدرته على طرح السؤال يتحول إلى عبد للفكرة التي يؤمن بها.
إذن قدرة المرء على طرح السؤال حيال ما يؤمن به يحميه من إيمان أعمى قد يقوده إلى حتفه، كما يقود الراعي الماشية إلى مذبحها.
عندما يحتفظ المرء بقدرته على طرح الأسئلة حول جدوى الإيمان بأية فكرة يبقى قادرا على إعادة النظر في إيمانه بتلك الفكرة عندما تفقد مصداقيتها، وبالتالي لا يسمح لها أن تستبد به وتجعله رهنا لها.
………..
لكي يتمكن المرء من طرح الأسئلة المناسبة في الزمن المناسب، يجب أن يصغي بوعي واهتمام إلى ما يسمعه من أفكار كي يتمكن من فهمها على حقيقتها.
يصرّ المفكّر الأمريكي
Stephen Covey
في كتابه: “العادات السبع للناس المؤثرين بقوة” على أن فن الحوار هو أهم المهارات التي يتطلبها النجاح في أي حقل، ويقسّم ذلك الفن إلى أربعة أقسام: الكتابة، القراءة، التحدث والإصغاء، مانحا للإصغاء حصة الأسد بينها من حيث الأهمية.
يقول عبارته المشهورة:
Seek first to understand then to be understood.
انشد أولا أن تفهم غيرك قبل أن تطالب غيرك بفهمك.
……….
لو أصغى الناس باهتمام إلى الأفكار التي يسمعونها أو يقرأونها وفهموها على حقيقتها لألقوا معظمها في سلة المهملات، قبل أن يسمحوا لها بدخول حيز اللاوعي عندهم، وبالتالي لغابت من جهازهم العقائدي.
والسمع هنا يختلف عن الإصغاء، فالسمع هو الآلية الفيزيولوجية التي يتم بواسطتها الإحساس بالصوت، أمّا الإصغاء فهو فهم وإدراك ما تعنيه تلك الأصوات.
عندما تستمع إلى شخص لا يعني هذا بالضرورة أنك تصغي إليه!
عندما أصغي إلى خطبة الجمعة في أي بلد إسلامي وأعي كل كلمة قيلت فيها، استغرب كيف يستمع ملايين الناس إلى تلك الخطب، بما فيهم أصحاب الشهادات العليا من أطباء ومهندسين وعلماء رياضيات وخبراء في علم النفس، ولا يشنقون خطبائهم!
لكن يتبدد استغرابي عندما أعلم علم اليقين بأنّ معظمهم لا يصغي، وبالتالي لايفهم ما يقال في تلك الخطب! وطالما لا يفهمون ما يقال فيها هم لا يستطيعون أن يطرحوا أسئلة حول أخلاقية ومصداقية ما جاء في تلك الخطب.
كيف يصغي طبيب مسلم إلى المأذون السعودي الشيخ محمد المعبئ، وهو يفتي بأنه يحق لولي الفتاة أن يعقد قرانها على من يختاره وهي في السنة الأولى من عمرها، كيف يصغي إليه ولا يطالب بحجره؟!!
كيف يصغي إنسان باهتمام ووعي إلى الآية التالية ولا يسقط هذا الهراء من وعيه؟!!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
المسلمون لا يقرأون القرآن وإنما يتلونه، وهناك فرق كبير بين القراءة والتلاوة. عندما تتلو لا تستطيع أن تصغي لأنك تسقط عبدا للنغمة، أما عندما تقرأ فأنت ملزم بالإصغاء كي تعي ما تقرأ.
منذ ألف وأربعمائة عام والمسلمون يتلون الآية السابقة، هل أحد فيها يعي ما تقوله؟!!
هل أحد فيهم يعرف أين تبدأ الجملة فيها وأين تنتهي؟
……………….
ما هي الأرملة السوداء؟
“الأرملة السوداء” لقب يُطلق على أنثى نوع من العناكب
Black widow spider.
يتلاقح ذكر ذلك النوع مع الأنثى بطريقة غريبة لم يجد لها العلماء تفسيرا.
يقترب الذكر والأنثى من بعضهما عبر حركات رقصية مثيرة للدهشة، وعندما يلتقيان يتوحدان مع بعضهما. بعد أن يمارسا فعل الحياة تهجم الأنثى على الذكر وتضربه حتى يلقي حتفه.
………………..
ما هي “اللامينغز”؟
اللامينغز
Lemmings
حيوانات تشبه القوارض (الجرذان) يغطيها فرو ثخين وتعيش في القطب الشمالي.
عندما يزداد عددها وتقل مصادر عيشها تختار أحدا منها ليقودها. يمشي القائد ويلحق به سرب من تلك الحيوانات ويذهب إلى أعلى منطقة جبلية قريبة من المحيط ثم يلقي بنفسه بالماء فتتبعه بقية الحيوانات.
يستطيع المراقب أن يسمع حركات اصطدام أجسادها بصخور البحر عند مقتلها.
حتى تاريخ اليوم لم يستطع العلماء أن يجدوا تفسيرا مقنعا لحالة الإنتحار الجماعي التي تقوم بها تلك الحيوانات.
……………
Larry Barker
كاتب أمريكي، معظم كتاباته تتعلق بعلم النفس والسلوك البشري.
في كتابه Listen up! أي: اصغ إليّ، ذكر بأنه ألقى مرّة محاضرة بعنوان
The power of listening
قوة الإصغاء، وقبل أن يبدأ محاضرته عن أهمية الإصغاء كتب على اللوح المعلق:
1ـ الأرملة السوداء
2ـ اللامينغز
3ـ الناس الذين لا يجيدون الإصغاء.
ثم التفت إلى الحضور وسألهم: ما هو العامل المشترك الذي يجمع بين تلك المجموعات الثلاثة؟ فنظروا إليه وهزوا رؤوسهم مندهشين!
عندها تابع:
هذه المجموعات تتشابه في سلوكها، ذلك السلوك الذي نطلق عليه في علم النفس
Self-destructive behavior
أي السلوك الذي يقود صاحبه إلى الهلاك.
بعض الذين لا يجيدون الإصغاء يهلكون أنفسهم كحيوانات اللامينغز، وبعضهم الآخر يهلكون من يحبون كالأرملة السوادء.
العامل الذي لم يصغ إلى التعليمات أثناء نشوب حريق في الفندق والتي حذرته من استخدام المصعد، فاستخدمه واحترق في داخله، هو كحيوان اللامينغز الذي ينتحر . والطيار الذي لم يصغ جيدا إلى التعليمات في مطار لوس انجلوس، والتي حذرته من إستخدام أحد المهابط لوجود طائرة هناك، فاستخدمه واصطدمت طائرته بالطائرة الأخرى وقتل ركاب الطائرتين، هو كالأرملة السوداء يقتل من يحب.
………………..
الإصغاء لا يقتصر على فهم ما نسمع وإنما على استيعاب ما نُقرأ أيضا. يكتب لي الكثيرون من القرّاء بعد نشر مقالة لي أتناول فيها غزوات محمد أو زيجاته محتجين على عدم فهمي للإسلام، ومطالبين إياي بقراءة السيرة النبوية!
بقراءة السيرة النبوية؟ أليست زيجات محمد وغزواته هي وحدها التي تدمغ تلك السيرة؟!!
ومن خلال تساؤلاتي أصل إلى قناعة بأن القارئ لم يقرأ ما كتبته أو لم يستوعب ما قرأ.
……..
عندما كتبت الطبيبة المسلمة البنغلاديشية ـ تسليمي نسرين ـ كتابا تصف به الجرائم التي ارتكبها المسلمون في بنغلاديش بحق اخوتهم من الهندوس صدرت فتوى بهدر دمها، ففرت هاربة خارج بلادها.
تناولت مجلة “العربي” الصادرة في الكويت منذ عدة سنوات موضوعها، وسألت في سياق التقرير أحد البنغلاديشين من العامة عن رأيه بقضيتها، فقال على الفور: كم أتمنى أن أتشرف بقتلها!
سأله الصحفي: لماذا؟ هل قرأت كتابها؟
فرد: لا، ولكنني سمعتهم يقولون أنّها شتمت الإسلام.
من يقدر على قراءة وفهم كل كلمة جاءت في ذلك الكتاب لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يقدم على قتل تلك الإنسانة مهما اختلف معها، ولكن المأساة أننا ابتلينا بقطيع من الماشية مهمّش العقل يلحق راعيه إلى حتفه!
………..
الجهاز العقائدي كالمبيوتر نستفيد دائما من برمجته، لكننا يجب أن نظلّ أسياده فنغير برمجته، كما نغير برمجة الكومبيوتر، عندما لم تعد تلك البرمجة ملائمة لتلبية حاجاتنا.
الجهاز العقائدي هو البوصلة التي ترشدنا، ولكن يجب أن لا ننسى بأننا نحن الذين برمجناه، وعلينا أن نغير تلك البرمجة كلما اكتشفنا بأن بوصلته لم تعد قادرة على إرشادنا إلى الهدف الصحيح.
الإصغاء بوعي إلى ما نسمع وما نقرأ هو الطريقة المثلى التي نغربل بها الأفكار، فنبقي على ثمينها ونطرح غثها، ونضمن بالتالي برمجة عقائدية نظيفة تصلح لزماننا ومكاننا.
يكاد لا يخلو كتاب في أمريكا يتناول عوامل النجاح في الحياة من التركيز على أهمية الإصغاء كمهارة لا بدّ أن يتفوق من يكتسبها ويتسلق سلم النجاح.
كمّا تركز تلك الكتب على أهمية الإصغاء، تتناول أيضا المخاطر والسلبيّات الناجمة عن عدم القدرة على اكتساب تلك المهارة.
عام 1884 دخل رجل فلاح وامرأته بثيابهما القروية البسيطة إلى مكتب السيد تشارليز إليوت
Charles Eliot
رئيس جامعة هارفارد في ذلك الوقت، وطلبا من سكرتيرته أن يقابلاه.
رمقتهما السكرتيرة بنظرة ازدراء، وقالت: السيّد إيلوت دائما مشغول وليس لديه من الوقت كي يضيعه، هل بإمكاني أن أعرف سبب المقابلة؟
ردّت زوجة الفلاح: إنه أمر شخصيّ، ولا بد أن نلتقي به اليوم!
وتحت اصرارها، دخلت السكرتيرة مكتب رئيس الجامعة وعادت لتقودهما إليه.
في المكتب لم يعبأ الرئيس كثيرا بضيفيه وسألهما بتعال: هل من خدمة أستطيع أن أسديها؟
فردّ الوالد: “لقد خسرنا ابنا الوحيد بحادث مؤلم، وكان في سنته الدراسية الأولى في هذه الجامعة. لقد قررنا، وإحياء لذكراه، أن نتبرع ببناء مبنى في الجامعة يحمل اسمه”.
قبل أن يفهم الرئيس ما قصده ذلك الفلاح، ردّ بعنف: لو أقمنا لكل طالب يموت نصبا تذكاريّا لتحولت الجامعة إلى مقبرة!
فردّت الأم: يا سيدي لا نقصد نصبا تذكاريا، وإنما نقصد بناء قاعة أو مخبر أو مسرح كي يحمل اسمه.
فقهقه الرئيس وقال باستهزاء: يبدو أنكما لا تعرفان مكانة جامعة هارفارد، هل تدريان بأن هذه الجامعة قد كلفت خمسة ملايين دولارا؟ هل أنتما قادران على بناء مخبر في جامعة كهذه؟!!
وهنا انتصبت الأم واقفة وهمّت بالخروج وهي تقول لزوجها: “هل يستهزئ بنا؟ لو كنت أعلم أن خمسة ملايين دولار تكفي لإنشاء جامعة كهارفارد لما قدمت إلى هنا لأتبرع بمخبر يحمل اسم ابني، ولبنيت بدلا من ذلك جامعة تحمل اسمه”، ثم انصرفا.
كان هذان الفلاحان هما ليلاند وجين ستانفورد، وهما من أغنى سكان كاليفورنيا يومها، بل كان ليلاند يوما حاكما للولاية. استقلا أول قطار في طريقهما إلى مدينة سان فرانسيسكو حيث يملكان رقعة واسعة من الأراضي الزراعية، وعليها بنوا واحدة من أعرق وأكبر وأشهر الجامعات في العالم، وتحمل اسم ابنهما الراحل ليلاند استانفورد الصغير.
Leland Stanford Junior
…………………..
لقد خسرت جامعة هارفارد السيد ستانفورد كواحد، قد يكون من أكبر المتبرعين في تاريخها، وكان ذلك بسبب فشل رئيسها في الإصغاء إلى ما أراد السيد ستانفورد وزوجته أن يقولاه له.
تلعب تلك القصة اليوم دورا كبيرا كمثال على أهمية الإصغاء في كونه مهارة تمكن صاحبها من فهم الحياة بطريقة أفضل.
عندما يكتسب المسلمون القدرة على الإصغاء سواء لما يسمعوه أو يقرأوه سيكونين قادرين على فهم البرمجة العقائدية التي تتحكم بحياتهم، وسيتوقفون عن مطالبتي بقراءة السيرة المحمدية عندما أكتب عن زيجات محمد وغزواته!!