من ذكريات طفل عاش يتيما

abaselaqaadغدا هو أول أيام عيد الأضحى, وأهلي أخذوا كل الاستعدادات اللازمة, زوجتي صنعت الكعك من يومين وأنا غادرت آخر معاقلي وأتممت قراءة رواية(الشاهد) للروائي(جوش ماكدويل) ترجمة :منير فرج الله, وهذي ليس لها علاقة بالعيد ولكن لكي أخبركم بأنني فعلتُ شيئا,وأولادي منذ أسبوعين عدوا الأيام بانتظار العيد, واليوم على أحر من الجمر يعدون الساعات ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة لكي يطل العيد عليهم بصباحه الجميل, وعلى مسمعٍ مني حسبوا كم سيحصلون على النقود من أخوالهم وعماتهم وفكروا وخططوا كيف ينفقونها جميعا دون أن يشركوني بالتخطيط أو يشركوا أمهم وحجتهم في ذلك أن هذه النقود ليست مني أو من أمهم ولذلك هم أحرار بها ,وأنا طوال النهار صامتٌ حائرٌ لا أنبس ببنت شفة , حائرٌ جدا, ماذا أقول لأولادي في مثل ذاك اليوم؟ وكيف أستعدُ لآخذهم في أحضاني!!, في الوقت الذي يخطر على بالي أطفال سوريا والعراق وغزة, تخطر على بالي هدايا العيد, كيف أنظر إلى أولادي وهم يلعبون بينما أطفال سوريا يغرقون بالدماء إلى آذانهم, الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم وآبائهم, من سيأخذهم مثلا في أحضانه؟من سيشتري لهم الألعاب والهدايا؟ وحتى وإن توفرت الألعاب والهدايا فهل تلك الرقائق الإلكترونية والألعاب الالكترونية ستغنيهم عن أمهاتهم وآبائهم؟ أنا حائرٌ جدا وحزين على هؤلاء الأطفال, العيد ليس للكبار بل هو للصغار, في كل عيد أبدأ صباح ذلك اليوم بدمعة وبوقفة حزن شديدة لمدة ساعة وأنا أتلوى حزنا وألما وأرقا على الأطفال الأيتام, أنا عشت طفولتي وأنا يتيم وأعرف حقا ما هو شعور الأطفال الأيتام حين كان كل أولاد الجيران يهرعون إلى أحضان آبائهم بينما أنا كنت أذهبُ إلى قبر أبي في المقبرة التي تقع على طرف الوادي من قريتنا وأحتضن حجارة القبر وأمسك التراب وأقبله بفمي بعيون تدمع وبقلب كله حزن وألم وأسى وكنت أحزن أكثر حين يأتي أحد أقربائي ليعطيني بعض النقود لكي يجبر بخاطري, حتى الذين كانوا يعطوني النقود كنت أحزن بسببها أكثر مما أفرح لأنها كانت تشعرني بالنقص, وكنت أبكي أكثر حين يضمني واحدٌ منهم إلى حضنه لكي يعوضني عن حنان الأب, كنت أشعرُ بأنها حركة اصطناعية وأتألم كثيرا بسببها, أنا عشتُ يتيما وأعرف مرارة اليتم والحزن والألم, فلو احتضنني كل آباء العالم واعتبروني ابنهم الوحيد فلن يغنني ذلك عن أبي الحقيقي, المهم أنني لم افرح طوال الخمس سنوات الماضية ولا بأي عيد, وفي كل عيد وبالذات منذ ثلاث سنوات أدخل الحمام لأحلق ذقني وأغلق الباب على نفسي متظاهرا أنني مشغول بالحلاقة بينما أنا في الواقع مشغول بالبكاء وبالحزن وبالأسى, وأشتر الذاكرة وأخطفها من مكانٍ بعيد حين كنت أحتضن صور أبي وخصوصا تلك الصورة الكبيرة المعلقة على الحائط وكيف كنت أغطُ في حزن عميق بينما أولاد الجيران يغطون بالفرح وبالسرور,وبما أنني لا أحب أن يراني أحدٌ يبكي أدخل الحمام لأمارس هذه الرياضة العاطفية دون أن يراني أحد, فالحمام هو الوسيلة الوحيدة الآمنة للبكاء لأنه لا يستطيع أحد أن يدخلها معي , ففي غرفة النوم قد تقتحمها زوجتي عليّ في أي وقت أو أحد أولادي فيرون منظري العاطفي ويتألمون لآلامي أو كعادتهم ربما يتهمونني بالجنون , والمهم في الموضوع وأنا أحلق دموعي تنهمر من على خدودي, فأجر ماكينة الحلاقة بيدي اليمنى بينما أمسح بيدي اليسرى دموعي ربما تسألني زوجتي أن أفتح لها باب الحمام لتأخذ لها حاجة منه , بينما أنا أكون منشغلا بالبكاء أكثر من شغلي بالحلاقة أو بالاستحمام, فأعتذر لها وأقول: لم أنهي بعد عملي, ومن ثم أخرج من الحمام وعيوني مثل الجمر حمراء داكنة اللون مدعيا بأن الشامبو قد دخل إلى عيوني ولهذا السبب أصبحت عيوني حمراء, والكل يصدقني بهذه الأكذوبة و لا أحد من أهل بيتي يعرف بأنني كنت أبكي على أطفال سوريا والعراق وغزة, لا أحد يعلم حجم التعاسة التي أعيشها في صباح كل عيد من أعيادنا الإسلامية, أنا إنسان حساس جدا وعاطفي جدا وأي كلمة تبكيني, أنا أستجيب بسرعة للذاكرة وبما أنني أعرف مرارة اليتم فإنني ولهذا السبب أبكي في ليلة كل عيد.

وفي نفس الوقت أعرف بأنني مطالب في صباح كل عيد بأن أمسك أولادي جميعا وأقبلهم وأمد يدي إلى جيبي وأعطيهم بعض النقود لكي ينفقونها على شراء الألعاب والهدايا, وفي نفس الوقت أنا مطالب كإنسان شريف بأن افعل شيئا لأطفال سوريا والعراق وفلسطين, لماذا مكتوبٌ علينا أن نحزن في كل عيد؟ ولماذا مكتوبٌ عليّ أن أغلق باب الحمام في كل عيد لكي أبكي وأحزن وأتألم؟ أنا لا أدري شيئا عن كل تلك التناقضات وأحمل الطغاة والإرهابيين ومنظمات حقوق الإنسان مسئولية ما يحدث لي في كل عيد, أنا مُطالَبٌ في صبيحة العيد بأن أقدم لأطفال حارتنا ابتسامة مزيفة وأغنية عيد مزيفة وقطعة نقود حقيقية وليست مزيفة, ومطالبٌ بأن أقول لجيراني كلمة كل عام وأنتم بخير وأعرف بأن هذه الكلمة مزيفة, فهي لا تخرج من قلبي أبدا, لا يمكن أن أصدق بأن العالم الإسلامي سعيد بهذا العيد, لا يمكن بأن أبقى مستمرا في تزييف الكلمات وتزويرها, أنا لا أعرف يوما على طول أيام السنة إلا وفيه ذكرى من دماء وأشلاء وتفجيرات وعمليات انتحارية, أطفال ييتمون ورجال ينتحرون ونساء تعيش أرامل, وأرامل يهرعون إلى المقابر وأطفال مثلي يذهبون إلى المقابر في كل عيد لكي يقبلوا الأتربة والحجارة, ونحن نقف عاجزون عن فعل أي شيء لهم, فلو احتضناهم ولو قبلناهم ولو أعطيناهم النقود فهذا لن يخفف أبدا من مصابهم.

ربما أن طريقة تفكيري تختلف عن طريقة تفكير الناس العاديين, أنا أحمل بداخلي حزنا شديدا على هذا العالم وأبكي بصمت أكثر مما أبكي بكاء عاديا, فكل الأشياء التي ألمسها بأصابع يدي تؤلمني جدا, الصور, الذكريات, الابتسامات, كعك العيد, الألعاب, المراجيح, القهوة, كل شيء يؤلمني ولا شيء يسعدني فحين أشاهد الأطفال بصحبة آبائهم أحزن جدا وأتألم على مصير أولئك الأطفال وهم يقفون على حافة الطرق بانتظار أن يأتي ملاك من السماء لكي يلعبوا معه, بينما عقول الآباء والمجرمين تتخيل شيئا آخر, يتخيلون بأن الملائكة تقاتل معهم وتفجر نفسها في الأسواق المزدحمة بالناس, أطفال ينتظرون ملاكا طائرا يأتيهم صباح كل عيد بهدايا وألعاب, بينما رجالٌ أشرارٌ يَذبحون ويُذبحون, ولست أدري كيف ترتفعُ أصوات المساجد بجملة ألله أكبر, ولست أدري كيف تقبل بعض الأمهات أن تفرح في يوم العيد وأعداد الأطفال اليتامى تزداد في كل يوم وأطفال في الشوارع يمسكون بأيادي أمهاتهم وأطفال آخرون مثلي يذهبون إلى المقابر يبكون ويذرفون الدموع ويقبلون الحجارة ويروون الأتربة من ماء عيونهم.

About جهاد علاونة

جهاد علاونه ,كاتب أردني
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.