وفاء سلطان
صامت وفاء سلطان ستة أشهر عن الكتابة لتفطر على بصلة! وأيّة بصلة؟! بصلة معفّنة تسوّس لبّها!
عندما يتذّكر القارئ رائحة وقوام البصل المعفّن قد يحتجّ عليّ متسائلا: ماذنبي أنا وقد انتظرت عودتك بفارغ الصبر؟!
ـ ليس ذنبك ياسيّدي، بل هي مسؤوليّتك كما هي مسؤوليتي. العفن يتسلل خلسة إلى الأجيال القادمة، ونحن أصحاب الضمير ـ قراء وكتابا ـ معنيّون بسلامة تلك الأجيال.
من هو الشيخ محمّد؟!
قد يخطر ببال القارئ أنني سأدخل في التفاصيل الدقيقة لحياة هذا الرجل المصيبة، أبدا! لايهمني منها سوى ما يهم عالم مختص في علم الجراثيم والطفيليّات وهو ينظر تحت عدسة مجهره على حشرة متناهية في الصغر، كي يتعرف على بيئتها، طريقة حياتها وغذائها وتكاثرها، علّه يتوصّل إلى طرق لمكافحتها ومقاومتها وتجنيب الناس شرورها وتخريبها!
الشيخ محمّد ليس مجرّد شخص شاءت الأقدار الغاشمة أن يجاورني في مهجري، إنّه ظاهرة مرضيّة وبائيّة استفحلت في العالم العربي والإسلامي وحان الوقت لمكافحتها وعلاجها. إنّها “ظاهرة اللسان الداشر”!.
لقد تحوّل الرجل في هذه البلاد إلى لسان داشر، لاوازع أخلاقي يضبطه ولا رادع ضميريّ يهذّبه!
قد تختلف الظروف التي ساهمت في خلق الشيخ محمّد قليلا، لكنّها لاتختلف كثيرا، عن الظروف التي ساهمت في خلق أمثاله في أيّ تواجد إسلاميّ آخر.
ابتلت الجالية العربيّة في لوس أنجلوس بفئة من الرجال شحّت عقولهم وامتلأت جيوبهم، يقتلهم الهوس بالظهور حتى ولو على رأس خازوق! يدفع الواحد منهم نصف مايملك من أجل الحصول على لقب استاذ علما بأنّه لم يتخرّج من مدرسة ابتدائيّة!
كانت جدّتي ـ رحمها الله ـ تقول: أوقيّة فضّة تحتاج إلى قنطار عقل. هل بامكان أحد فينا أن يتصوّر رجلا يفتقر إلى أوقيّة عقل بينما يملك قنطارا من الفضّة؟!
الكلب يشمّ رائحة جيفته على بعد أميال، والخبث الشرقيّ المتأصل في نفس الشيخ محمّد قاده إلى جيفته، فوجد في تلك الفئة الميسورة الميؤوسة ضالته، ووجدت فيه ضالتها! علّق في رقبته عدسة تصويره وراح ينطّ من محفل إلى آخر. دخل حتّى غرف نومهم، التقط صورهم بمناسبة وبغير مناسبة، وراح يلصقها على صفحات منشوره مرفقة بأطنان من الألقاب! جعل من بائع متجوّل حاملَ دكتوراه في علم الإجتماع، ومن قارئة فنجان حاملة دكتوراه في علم الأرصاد! والغريب ـ كما يقول المثل ـ يكذب بما يشتهي ويريد! نفخ في عقولهم الخاوية ونفخوا في جيبه الفارغ، فازداد غرورهم وازدادت غطرسته!
لم تكن تلك القمامة من البشر، والتي ذخر بها منشوره، كافية لترويج ذلك المنشور، فبدأ الشيخ محمّد يبحث عن قضيّة ساخنة تدرّ عليه تجارة رابحة! وجد في “الدفاع عن الإسلام” ضالته!!
حمل بضاعته في سرجه وراح يدقّ أبواب السفارة السعوديّة، يساومهم على بضاعته!!
عندما اكتشف الأمريكيون أنّ خمسة عشر إرهابيّا من أصل التسعة عشر الذين قاموا بتفجيرات أيلول الإرهابيّة من أصول سعوديّة، بدأوا يسحبون بساطهم من تحت قدميّ السفير السعودي في واشنطن، فبدأ هو الآخر بسحب بساطه من تحت أقدام هؤلاء السماسرة!.
سئل مرّة معلّق رياضي أمريكي عن رأيه بعدّاء عالمي مشهور فأجاب: هذا الرجل يفيض حيويّة، وعندما يستقيل سيظلّ حذائه يركض لمدة خمسة أعوام!
السفارة السعوديّة في واشنطن استقالت، ولكنّ أحذية السعوديّين مازالت تركض، لم تنفذ بعد الأموال التي أنفقتها سفارتهم على شراء تلك الأحذيّة، لكنّها حكما ستشرف يوما على الإنتهاء!!
ليس بالقوانين وحدها تصان المجتمعات، القانون يحتاج إلى قاعدة شعبيّة أخلاقيّة، والشعب الذي لا يبلغ مستوى أخلاقياً معيّناً، يعجز عن تطبيق القوانين، بل أيضا عن إفرازها!
أخلاق المجتمع هي التي تفرز قوانيه وهي وحدها التي تضمن تطبيق تلك القوانين. العلاقات الإنسانيّة في المجتمع الواحد متشابكة ومعقّدة، وقد لاتستطيع القوانين التي تنظّم ذلك المجتمع أن تصل إلى كلّ شاردة وواردة في حياة البشر لتكون مسؤولة عن تنظيمها وضبطها. وحدها الأخلاق هي التي تستطيع أن تفعل ذلك!
القانون الأمريكي يضمن للفرد جميع حقوقه وحريّاته. من ضمنها وأهمّها حريّة الكلام والتعبير، لكنّ التربيّة الأمريكيّة ترفع انسانها إلى المستوى الأخلاقي الذي يهيئه لممارسة حريّته الشخصيّة دون أن يتعدّى على حريّات الآخرين.
نحن المغتربون القادمون من بلاد متخلّفة حضاريّا وانسانيّا وتربويّا، لم نمارس يوما حريّاتنا الشخصيّة في تلك
البلاد، ولم ترتقِ بنا نشأتنا الدينيّة والتربويّة إلى المستوى الأخلاقي الذي يهيئنا لممارسة تلك الحريّات.
قفز الشيخ محمّد، وبلمح البصر، من على ظهر بعيره إلى جنح طائرة، نقلته خلال عشرين ساعة طيران، من بلاد يحكمها الشنب والعصا والجزمة العسكريّة إلى بلاد يحكمها المنطق والقانون والأخلاق.
الحريّة مسؤوليّة وليست فوضى. في المجتمعات الحرّة والميسورة تواجه الانسان خيارات كثيرة ومتعددة في أي مجال من مجالات الحياة من أبسطها وحتّى أعقدها. أيّ خيار يتّخذه أو قرار يصنعه يتّطلب منه مهارات معيّنة، كي تساعده في اتخاذ الخيار وصناعة القرار! الانسان الذي لايتسلّح بالحد الأدنى المطلوب من هذه المهارات يضيع بين كثرة الخيارات، ويتخبّط في قرارته عاجزا عن الاستمتاع بحريّته. في البلاد المتخلفة القمعيّة لايوجد خيارات ولا يستطيع الانسان أن يتّخذ أيّ قرار بمحض ارادته. في أجزاء كثيرة من تلك البلاد لايملك الناس خيارا إلاّ أن يشربوا المياه التي يبّولون فيها.
في أمريكا تتدخل الماركت لتشتري فرشاة أسنان، كمثال لأبسط قرار تّتخذه في حياتك اليوميّة، تتوجه إلى القسم المختصّ بالأدوات التي تعتني بنظافة الفمّ، تواجهك هناك عشرات المئات من الخيارات، ثمن فرشاة الأسنان يتراوح بين الدولار الواحد والمائة دولار، هذا من ناحية الثمن، ناهيك عن اللون والشكل والنوعيّة! هنا تجد نفسك ملزما بالاعتماد على مهاراتك كي تحسن الخيار، تلك المهارات التي تتضمن ليس فقط إلمامك بحجم ميزانيّتك، وإنّما معرفتك الشاملة والوافية بنوع لثّتك والمشاكل الصحيّة التي تعاني منها أسنانك!
في بلاده كان الشيخ محمّد ينكش أسنانه بقش المكنسة أو بعود ثقاب، أيّة مهارات اكتسبها هذا الرجل هناك، تستطيع أن تساعده هنا على اختيار فرشاة أسنان؟!! ناهيك عن اختيار طريقة الحوار!!
*************************
وصلت نصف ساعة متأخرة عن موعدي مع طبيب الأسنان، اقتربت من الموظفة المسؤولة وسألتها بلطف: أنا آسفة، لقد تأخرت لظرف خارج عن ارادتي. هل تعتقدين أنني مازلت قادرة على رؤية طبيبي اليوم؟
تفحّصت سجلاّتها وقالت: أحد المرضى ألغى موعده بعد نصف ساعة، إذا كنت قادرة على الإنتظارستتمكنين من رؤية الطبيب. شكرتها وجلست في مقعدي أتفحص بعض المجلات.
في المقعد المقابل جلست سيّدة أمريكيّة ضخمة القدّ، يزيد وزنها عن الثلاثمائة باوند، كأقل تقدير! تحتضن بين يديها طفلة صغيرة، بينما تجلس ابنتها الأخرى على الأرض مجاورة لمقعد أمها. كنت بين الحين والآخر أسترق النظر إلى هذا الجبل البشريّ الذي يحطّ بثقله أمامي، تتدلى هضابه وانثناءاته من الأمام ومن كلّ جانب. يدفعني فضولي إلى التساؤل: أيّ عمل تستطيع أن تقوم به هذه السيّدة كي تدعم أسرتها وتربي أطفالها؟! متطلبات الحياة في أمريكا كثيرة، وعلى الزوجين أن يشتغلا كي يكونا قادرين على دعم الاسرة ماديّا!.
كنت غارقة في تساؤلاتي، عندما نادت الموظفة اسمها. مشت بتثاقل إلى الشبّاك، وناولتها بطاقة التأمين الصحّي التي تمنحها عادة الدولة الأمريكيّة إلى أبناء الطبقة الفقيرة في المجتمع الأمريكي، فجاوبت بذلك على كلّ تساؤلاتي! هذه المرأة، وبلا أدنى شكّ، تنتمي إلى الطبقة الأدنى والأقل حظا ـ ثقافيّا واجتماعيّا ـ في المجتمع الأمريكي. على كلّ حال، سألت الطفلة أمّها، بعد أن بدت عليها علامات الملل: ماما هل ستشتري لي حذاء جديدا؟ ردّت الأم: طبعا لا! حذاؤك جديد ولم يمض على شرائه سوى اسبوعين!
ـ ولكن صديقتي جسيكا قالت إن حذائي ليس جميلا وحذائها أفضل بكثير!
ـ أنت التي اخترت الحذاء، وقلت يومها أنّه جميل جدا!
ـ هل تقصدين أن جسيكا كذّابة؟!
ـ أبدا لم أقصد ذلك! هي عبّرت عن رأيها وعليك أن تحترمي هذا الرأي، لكنك لست ملزمة به!
ـ أريد الآن أن أغيّر رأيي وأتبنى رأي جسيكا!
ـ ليس الأمر بالسهولة التي تظنينها! أنت من اختار الحذاء، وعليك أن تتحمّلي مسؤولية الإختيار. عندما يحين الوقت لشراء حذاء آخر تستطيعين أن تتبني رأي جسيكا!
يعكس هذا الحوار، رغم عفويّته وبساطته، حقيقة المجتمع الأمريكي، بمختلف طبقاته من أدناها إلى أعلاها. إنّ إنسان هذا المجتمع، ومهما انحدر المستوى الإجتماعي الذي ينتمي إليه، يحترم آراء الغير، حتّى وإن لم يتّفق معها، ويتحمّل المسؤوليّة عندما يتّخذ أيّ قرار أو يتبنّى أي خيار. لم يكتسب الإنسان الأمريكي تلك الخصال بين ليلة وضحاها. عمليّة الإكتساب طويلة الأمد، تبدأ منذ اللحظة التي يبصر بها النور، وتستمر طيلة الحياة.
لايوجد قانون يعاقب تلك السيّدة إن هي تهجّمت على رأي صديقة ابنتها ونعتته بأبشع الكلمات، ولكن يوجد عرف أخلاقي يلزمها باحترامه.
لم أسمح لخيالي أن يحلّق بي، ويدخلني غرفة انتظار في مكان ما من عالمنا الإسلامي أو العربي، كي لا أسمع من تلك الأم العجب العجاب! اكتفيت بقراءة ماكتبه عني الشيخ محمّد في منشوره الذي يعكس أخلاق كلّ الأمهات في عشيرته!
توقفت عن الكتابة ستة أشهر، ألزمتني الظروف وبحكم كوني طبيبة أن أعمل خلالها في مستشفى الأمراض
النفسيّة والصحّة السلوكيّة في الكليّة الطبيّة بنيويورك ـ NEW YORK MEDICAL COLLEGE ـ بعيدا عن عائلتي في كاليفورنيا. بعدي عن الأولاد وضغوط العمل وطقس نيويورك الذي لم أستطع أن أقع في حبّه، أنساني الكتابة وهمومها! لم أكد أصل بيتي في كاليفورنيا حتّى استقبلتني هواتف القراء والأصدقاء ورسائلهم الإلكترونيّة ترحّب وتهلّل وتعبّر عن حبّهم لي. الشيخ محمّد لايملك سوى سمومه، وجد في تلك المناسبة فرصة لتفريغ بعضها فكتب يقول: “اختفت إحداهن عن الساحة بعد أن ملأتها بالتهجّم على المسلمين وقيمهم وحضارتهم، ويشاع بأنها الآن محتضنة من قبل بعض أعداء المسلمين والعرب لتدريبها فنيّا وثقافيّا وعلى نفقتهم واعدادها للهجوم على المسلمين والعرب بطريقة علمية وخبرة، وليس مثلما اتفق، ثم استعمالها حصان طروادة، وخادمة لأهدافهم التدميرية”.
عندما كان الشيخ محمّد طفلا صغيرا وراح ينقل لأمه رأي صديقه بحذائه، صفعته صفعة قوية وشتمته: أيّها الغبي لماذا لم تهشّم وجهه وتلقنه درسا لن ينساه، كيف يتجرأ ويقول أنّ حذاءه أجمل؟! منذ ذلك الحين، لايعرف الشيخ محمّد سوى أن يهشّم وجوه الآخرين!
لو كان الشيخ محمّد مهيئاً تربويا وأخلاقيّا لممارسة حريّته الشخصيّة في التعبير والكلام، والتي يمنحه القانون الأمريكي حقّ ممارستها، ولو اعتقد يوما أنّ وفاء سلطان ـ وعلى حدّ تعبيره ـ تتهم الإسلام وقيمه وحضارته، لكتب يقول: “ذكرت السيّدة وفاء سلطان كذا وكذا وكذا، وهي بذلك تتجنب الحقيقة وتزوّر التاريخ! لأن الحقيقة كذا وكذا وكذا” ولكن من أين له أن يفعل ذلك، وهو لم يتعلّم يوما أدب الحوار وأخلاقيّته!
**********************
صدر مؤخرا التقرير النهائي للجنة التحقيات الأمريكية في أحداث أيلول الإرهابيّة، كلّما جاء في التقرير ذكر لإسم أحد الإرهابين الذين نفّذوا العمليّة، يسبق ذلك الإسم لقب السيّد! كذلك الرئيس الأمريكي جورج بوش، كلّما جاء في خطاباته على ذكر أسامة بن لادن يقول السيّد بن لادن. وهو إن يفعل ذلك، لايعطي مصداقيّة لعدوه، وإنّما يثبت مصداقيّة تربيته وأخلاقه وسموّ تلك التربيّة! والشيخ محمّد عندما يدّعي بأنني “محتضنة”، هو لايسيء إليّ، وإنّما يعكس ماتعلمه في قواميسه اللغوية وكتبه الدينيّة.
**********************
منذ اللحظة الأولى التي يبصر بها الإنسان نور الحياة، يبدأ الوالدان والطاقم التربوي الذي يحيط به في عملية بناء جهازه الأخلاقي والمعرفي والذي سيحدد لاحقا في الحياة خطاه وسلوكه وطريقة تفكيره. كلّ البذور التي يغرسونها في تربته هي في حقيقة الأمر من نتاج تربتهم. يقلعون من أنفسهم ويغرسون في نفسه ليخرج إلى الحياة صورة متطابقة مع صورهم إن لم يكن الشقّ التوأمي لشقّهم!
لكلّ بناء أساس، والأساس الذي يُبنى فوقه الهيكل الأخلاقي يتبلور عادة، وبناء على رأي الكثيرين من علماء النفس والسلوك، مع نهاية العام الأول من حياة الإنسان. عندما ينتهي المربّون من بناء هذا الأساس، والذي ينتهي كما أشرت سابقا مع نهاية العام الأول، يطرح سؤال مهمّ نفسه: “ماهو الدرس الأخلاقي الذي يتعلّمه الطفل عند تلك النقطة في حياته؟!”
يصرّ الكثيرون من الباحثين على أنّه (القدرة على التمييز بين كلمتيّ نعم ولا). يتعلّم الطفل في عامه الأول ماذا يقصد والده عندما يقول له نعم، وماذا يقصد عندما يقول له لا.
وضوح الخطّ الفاصل بين هذين المعنين يرسم ملامح حياته المستقبليّة سلوكيا وفكريّا. فوق هذا الأساس تُشاد كلّ لبنة أخرى في هذا الهيكل الكبير. قوة هذا الأساس ومتانته تحدد قوة ومتانة الهيكل الأخلاقي بأكمله.
إنّ القدرة على تمييز الحدود بين نعم ولا، هي في حقيقة الأمر القدرة على التمييز بين الضدّ وضدّه، بين النقيض ونقيضه، بين الخطأ والصواب، وفي نهاية المطاف بين الشرّ والخير.
ضبابيّة الرؤية عند الطفل، والتي قد تسببها بعض المواقف التربويّة، هي الخطوة الأولى في طريق انحرافه الفكري والسلوكي وبالتالي الأخلاقي، فالأخلاق فكر وسلوك.
الإنسان المسلم يعيش ويموت دون أن يتعلم هذا الدرس بوضوح. يبقى عاجزا طيلة حياته عن الفصل الحدّي بين كلمتيّ نعم ولا. من النادر جدا أن يسمع هاتين الكلمتين منذ عامه الأول وحتى عامه الأخير، والأندر أن يرى مربيه قادرين على الفصل في سلوكهم بين المعنيين. “نعم” اليوم، قد تصبح “لا” غدا، و”لا” في تلك اللحظة قد تنقلب “نعم” في اللحظة التي تليها! يتجنّب الطاقم التربوي في معظم المواقف، والتي يُفترض أن تكون مواقف تربويّة تعليمية، يتجنّب لفظ الكلمة، ناهيك عن تحديد معناها. يستبدل نعم ولا بعبارة انشاء الله.
يسأل الطفل أمّه: هل ستشتري لي بدلة بمناسبة العيد؟ وتردّ الأم: انشاء الله. ويبقى الطفل حائرا، تضيع عنده الحدود، ويعجز عن معرفة ماتقصده الأم! هل انشاء الله تعني نعم أم لا؟ أم كلا المعنيين حسب الظرف؟!
لو سأل طفل أمريكي أمّه نفس السؤال، سيكون الجواب ليس فقط نعم أم لا، بل جوابا كاملا يولّد لدى الطفل حالة استقرار نفسي بعيدة عن الحيرة والارتباك.
ـ نعم وسنذهب في نهاية عطلة الاسبوع إلى المحل التجاري كذا وكذا، وستنتقي بنفسك ماتريد. أو ربّما يأتي بشكل آخر:
ـ لا فميزانيتنا لاتسمح، وستضطر لإرتداء بدلتك التي اشتريتها لك الشهر الماضي.
قد يخلّف الجواب الثاني لدى الطفل الأمريكي شعورا بالخيبة، لكنّه حكما لن يخلّف شعورا بالحيرة والارتباك!
الصيف الماضي وأثناء زيارتي للوطن الأم، سألت ابنة أخي مداعبة: متى ستزورينني في أمريكا؟! ركضت الطفلة إلى أمّها تسألها: ماما هل تسمحين لي بزيارة عمتي في أمريكا؟ وقبل أن تدع فرصة لأمها كي تجيب تابعت تقول: أرجوك لا تقولي انشاء الله! ضحك الجميع وبكيت أنا!!
قلت مرارا وأكرر القول: الدين هو المصدر الوحيد للتربية في بلادنا. لايوجد على الإطلاق قاعدة تربويّة واحدة في الدين الإسلامي تستطيع أن ترسم الحدود بوضوح بين الضدّ وضدّه وبين النقيض ونقيضه، بدءاً بالقرآن ومرورا بالسنّة والحديث وانتهاء بالاجتهاد!
لايمكن أن تجتمع الأمّة الإسلاميّة على رأي واحد! والسبب الجوهري هو ضبابية الرؤية التي يخلّفها الدين الإسلامي عند الفرد الواحد! لم يستطع انسان أن يعبّر عن تلك الحالة في تاريخ الإسلام، كما عبّر عنها المفكّر الإسلامي عليّ بن أبي طالب عندما قال: لاتحتكم الى القرآن، إنّه حمّال أوجه! عندما يكون المصدر التربوي للإنسان حمّال أوجه، سيخرج هذا الإنسان إلى الكون حمّال أوجه!
العام الماضي أقام الرئيس الأمريكي مأدبة غداء حضرها الكثيرون من رجال الدين اليهودي والمسيحي والإسلامي. استهلّ أحد رجال الدين الإسلامي حديثه عندما جاء دوره بتلاوة الآية التي تقول: “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”. والسؤال: لماذا اختار هذا الشيخ تلك الآية ولم يختر غيرها، كتلك التي تقول: “قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”؟؟؟
يريد هذا الشيخ أن يُسمع الحضور مايريدون هم أن يسمعوه، ولو تواجد على مأدبة غداء أخرى تجمع الزرقاوي أو الظواهري أو ابن لادن، لتلا عليهم الآية الثانية، ولختمها كما ختم الأولى بـ صدق الله العظيم!
أين هي الحدود التي تفصل بين الضد وضده في تلك الآيتين؟ ماهو الواجب الديني الذي يترتب على المسلم أن يلتزم به؟ هل هو قتال الذين لايدينون بدينه، ولا يحرّمون ماحرّم الله ونبيّه؟ أم أن واجبه أن يسرح في الأرض يتعرّف على أهلها شعوبا وقبائل آمنوا بدينه أم لم يؤمنوا؟! كيف يستطيع الإنسان أن يحافظ على سلامة جهازه العقلي تحت تأثير الضغوط التي يخلّفها هذا التناقض الرهيب في كلا الموقفين؟!!
*********************
منذ نعومة أظفار المسلم وهو يدرك الحقيقة التاريخيّة التي تقول: تزوّج النبي محمّد وهو في الرابعة والخمسين من الطفلة عائشة وهي في التاسعة. تلك حقيقة لايختلف عليها مسلمان! ولكن لم يسمح مسلم واحد في تاريخ الإسلام لنفسه أن يرتقي بمستوى وعيه ويسأل: هل يليق هذا الأمر بنبيّ الله؟!
بعد مجزرة أيلول الإرهابيّه، وجد الإنسان المسلم نفسه، وخاصة في البلاد الغربيّة، أمام سيل من الأسئلة التي يستحيل الإجابة عليها بمنطق وعقلانيّة دون الهرب خارج حدود إسلامه!
حسين عبيش مسؤول كبير في الجمعيّة الأمريكيّة العربيّة المناهضة للتمييز العنصري، ظهر مرةّ في أحد البرامج التلفزيونيّة على الشاشة الأمريكيّة. سأله أحد المحاورين: هل صحيح أن نبيّكم تزوّج وهو في الرابعة والخمسين من طفلة في التاسعة من عمرها؟! ثارت ثائرة حسام وأجاب بالنفي المطلق.
ماهي الأسباب النفسيّة الكامنة وراء نفي السيّد حسين، علما بأنّه يدرك في حيّز وعيه أنّ الأمر حقيقة تاريخيّة لاجدل حولها؟!!
في حيّز وعيه يدرك السيّد حسين صحّة ذلك الحدث التاريخي، وفي حيّز اللاوعي عنده يرفضه منطقيّا وأخلاقيّا!.
الصراع بين الحيّزين والذي أثاره سؤال المحاور، أوقع السيّد حسين تحت ضغط نفسي، لم يجد مخرجا منه إلاّ بتكذيب ماهو حقيقة في حيّز وعيه!!
تألمت كثيرا عندما شاهدت تلك الحادثة. لم أتألم من موقف السيّد حسين بقدر ماتألمت عليه! أن يقع الإنسان تحت ضغط هذا الصراع دون أن يكون مؤهلا تربويّا ونفسيّا لمواجهته، حالة نفسيّة لا أحسد، كطبيبة، أحدا عليها!
أحيانا لاتملك إلاّ أن تشعر بالحزن والأسف، على أمّة تركها دينها معلّقة في الهواء، تتأرجح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ولا تستطيع أن تقف على مستقر! المسلمون اليوم سدس سكان الأرض، أو في أفضل الظروف خمسهم. أربعة أخماس سكان الأرض لايؤمنون بالإسلام، ولا يطبقون قوانينه في التحريم والتحليل. المسلمون في منتصف الطريق يتأرجحون بين النعم و اللا، هل يعلنون الحرب على الأربعة أخماس كما أمرتهم عقيدتهم، فقد أعطى نبيّهم لهذا القتال صفة الأبديّة بقوله: سأظلّ أقاتلهم حتّى يشهدوا أن لاإله إلاّ الله وإنّ محمدا رسوله! أم يجب عليهم أن لا يأبهوا لكفر هؤلاء فإلى الله مرجعهم وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون، على حدّ قول آية أخرى؟!!
هذه الفوضى الفكريّة التي سقط بها العالم الإسلامي أنهكته وشلّت القدرات العقليّة لإنسانه! هذا الإنسان الذي يتذبذب في مساره بين الضد وأقصى ضدّه. أسامة بن لادن يمسك بأحد طرفي المسار، ووفاء سلطان تمسك بالطرف الآخر والناس منقسمون بينهما، لايقف اثنان منهم على نقطة واحدة في هذا المسار! والسؤال: هل تستطيع أمّة مشتتة كهذه أن تجد لها موقع قدم بين الأمم؟!
عقل المسلم أصبح كالزئبق، من المستحيل أن تصنع منه شكلا ثابتا! تدخل في حوار مع أحدهم فتظنّه في اللحظة الأولى غاندي أو ربّما المسيح، يرفض أن يرجم امرأة حتى ولو كانت زانية، لينقلب في اللحظة التي تليها فيصبح الشيخ ياسين يبارك لمرأة فجّرت نفسها داخل حافلة للركّاب، وتركت وراءها رسالة صوتيّة تقول: سأدقّ أبواب الجنّة بجماجم اليهود! هل يستطيع أحد فينا أن يتصوّر عمق الفجوة التي تفصل بين االله الذي يقول: من كان منكم بلا خطيئة فليرميها بحجر، وبين الله الذي يقول: لن أفتح أبواب جنتي إلاّ لمن يدقّه بجماجم البشر؟!! هل يستطيع أحد فيكم أن يتصوّر حجم الضغط النفسي والعقلي الذي يعيشه رجل يتذبذب بين هذا الإله وذاك؟!! لم يعد أمام الإنسان المسلم من خيار إلاّ أن يحاول ردم تلك الفجوة قبل أن يقفز فوقها! العالم اليوم قرية صغيرة، وأيّة أمّة فيه تحوّلت إلى مجرّد فرد، مهما التزمت بتعاليمها عليها أن ’تراعي الخطّ العام!
وصلني شريط تسجيل من صديق عزيز، تستطيع أن تصغي من خلاله الى أحداث ندوة أقيمت مؤخرا في إحدى الكنائس هنا في جنوب كاليفورنيا، موضوع الندوة كان الإرهاب وضرورة التعاون بين جميع الأديان لمواجهته وفتح بابا للحوار. تسلل الشيخ محمّد الى الكنيسة وهو مطمئن أنه في مأمن، وإذ به يفاجئ بالميكرفون وبسؤال عن رأيه! وقع في نفس المطّب الذي وقع به حسنين! حسنين شاب صعيدي ـ على البركة! ـ تقدم بوظيفة حاجب شاغرة في إحدى الشركات. سأله مدير الشركة في محاولة لسبر معلوماته: كم يساوي خمسة في خمسة ياحسنين؟ ليس في جعبة حسنين من مهارات سوى غريزة البقاء، التي دفعته ليردّ بسرعة البرق: زي مانتا عاوز يابيه!
مسك الشيخ محمّد بالميكرفون، واعتذر أولا عن عدم قدرته للتحدث بالإنكليزيّة وبذلك أسقط عنه مسؤوليته أمام، على الأقل، نصف الحضور ثم تابع: الله محبّة وعلينا جميعا أن نلتزم بتعاليم المسيح التي تدعو الى المحبّة! لم يجد في جعبته من مهارات سوى تلك التي كانت في جعبة حسنين: زي ماأنتا عاوز يابيه! لقد أسمع الحضور مايريدون أن يسمعوه، وليس مايريد أن يقوله!
عدت الى أسماء الله الحسنى في كتب الشيخ محمّد، لم أجد تسمية واحدة تتوافق مع تلك الصفة التي أطلقها عليه! ولم أجد آية واحدة تشير الى تعاليم المسيح. لاأعرف من أين أتى بهذا الجواب! إنّها سياسة الزئبق: مثلما مالت أميل!!
***********************
في مقابلة أجرتها مرّة صحفيّة أمريكية مع الرئيس حافظ الأسد، طرحت عليه السؤال التالي: سيادة الرئيس إذا توصلتم إلى اتفاق مع اسرائيل، هل ستقيمون علاقات دوبلوماسيّة وحسن جوار معها؟ وراح سيادة الرئيس يتأرجح في جوابه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، رافضا أن يستقرّ على رأي! قاطعته الصحفيّة بجرأة: لم أفهم ماقصدت! هل تستطيع أن تجيبني على هذا السؤال فقط بنعم أم لا؟ وراح سيادة الرئيس مرّة أخرى يتأرجح رافضا أن يستقر على جواب! أوقفته، بعد أن يئست وقبل أن يوغل في تأرجحه: دعنا ننتقل إلى سؤال آخر!!
لم تستطع تلك المسكينة أن تصنع من الزئبق شكلا! والمضحك المبكي كلّما ازداد الرجل في بلادنا زئبقيّة، كلّما ازداد وصف الناس له بالحنكة والذكاء! مات الرئيس ـ رحمه الله ـ قبل أن يتمكّن أكبر محلل سياسي في العالم من أن يفهم مواقفه، هل هو رجل حرب أم سلام أو مابينهما؟ يستحيل أن تفهم!! أكثر المواقف سخرية تلك التي تقف عندها في منتصف الطريق حائرا بين النعم واللا: هل تضحك أم تبكي؟!!
للحديث صلة!