ولد سيدنا الأكرم محمدا(ص) في مكة والتي كانت بمثابة مركزا تجاريا يؤمه العربُ من شتى الطوائف والقبائل, وكان بمكة يهود ومسيحيين عرفوا باسم النصارى, ولكن ما السبب الذي جعل هؤلاء النصارى يأتون إلى مكة؟ أو اليهود؟ أنا لا أريد أن أكتب عن محمد(ص) كلاما عاديا أين ولد وأين نشأ وترعرع, فهذا الكلام مفروغ منه وإنما أريد التركيز على هذه الشخصية التي أدهشت( ول ديورانت) في كتابه قصة الحضارة أو في مشروعه عن قصة الحضارة, كانت مكة عبارة عن شلتر( ملجأ) يهرب إليها الخائفون والمطلوبة رقابهم ليحتموا بتضاريسها الطبيعية, فلم تكن قريش توفر الحماية للخائفين وإنما كان البيت أي الكعبة توفر الحماية من خلال تجارة الحجيج أولا ومن خلال صعوبة الحياة اليومية بسبب شدة الحرارة, لذلك مع المطلوب رؤوسهم من ثارات قبلية هربوا إلى مكة كان قد هرب معهم ( الضالين) و( المغضوب عليهم) وهنا أنا لا أقول عن هذا المصطلح تفسيرا عاديا وإنما أرى شيئا آخر, فما الذي دفع القرآن الكريم ليصف اليهود والنصارى بالمغضوب عليهم؟ هذه المسألة لم ينتبه إليها أحد وأظن أنني قد وضعت يدي على مكان الجرح, وهو أن الرهبان المسيحيين والكهان اليهود الذين كانت لهم خلافات عقائدية في الكنائس الشرقية والبيزنطية قد غضب عليهم أهلهم ومجتمعهم الذي خالفوا فيه طبيعة النظرة لشخصية المسيح ولشخصية موسى, أو لنقل أن بعض المسيحيين اختلفوا مع الرهبان والكنائس وكذلك اختلف بعض الأحبار من اليهود مع أحبارهم أو لنقل مع كبار الرهبان في الهيكل ففروا بدينهم أو بعقيدتهم الفكرية من القدس ومن بلاد الشام يهودا ومسيحيين كون مجتمعهم قد غضب عليهم بسبب جدلهم الذي استمر طويلا حول طبيعة المسيح, وكانت مكة بالنسبة لهم ملجئا يلجئون إليه كون قريش تحترم حرية العبادة أو ليس لها لا ناقة ولا جمل في تلك الخلافات, واباح هؤلاء الرهبان والأحبار لأهل الحجاز عن سبب هربهم من قومهم في بلاد الشام وفي بيزنطة وقالوا: قومنا غضبوا علينا ووصفونا بالضالين وهذا هو الأرجح لقول الرهبان أما بالنسبة للأحبار فقد قالوا: أننا هربا كون قومنا قد غضبوا علينا, وبالتالي المسيحيون الأوائل الذين سكنوا مكة هم من قال عن أنفسهم أنهم ضالون واليهود هم من قال عن أنفسهم أنه مغضوب عليهم, تماما كما يهرب اليوم الراديكاليون المتطرفون من البلدان الديكتاتورية إلى الدول الديمقراطية التي تحترم حرية الدين والاعتقاد, وهذا هو السبب الذي جعل عند العرب في مكة والحجاز واليمن فكرة عن اليهود والمسيحيين أنهم ضالون ومغضوب عليهم, ولهذا السبب أخذ العرب هذه الفكرة وترسخت لديهم, وهذي هي نقطة الخلاف التي لم ينتبه إليها المؤرخون العرب الأوائل فالخلافات الدينية بين الأحبار أو بين اليهود أنفسهم وبين المسيحيين أنفسهم حول طبيعة المسيح وحول سلوكيات الأحبار اليهود ومقاومة الشرفاء منهم للفساد الديني أدت إلى هجرتهم إلى بلد بعيد لا تصل إليه ولا حتى عيون الجواسيس فتم وصفهم بجماعة الضالين والمغضوب عليهم.
عاش سيدنا محمدا (ص) حياة صاخبة بين الفقر والعازة وبمقابل ذلك كانت لديه أخلاق الفرسان والشجعان, والغريب عن هذه الشخصية المثيرة للجدل أنه التف حولها رجال مختلفون في الرأي عن بعضهم البعض, فمثلا شخصية عمر بن الخطاب تختلف في أسلوب إدارتها عن شخصية أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وأرضاه, فقد كان أبو بكر يعطي الصلاحية في اتخاذ القرارات لكل والي على حسب ما يراه مناسبا ولا يتدخل في أسلوب إدارته, أما عمر بن الخطاب فقد كان لا يحب هذا الأسلوب في فن الإدارة فقد كان لا يسمح للقائد العسكري أو للوالي أن يبت في أمرٍ دون الرجوع إليه, والدليل على ذلك الخلاف في الرأي الذي حصل بين أبي بكرٍ الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنه حول ممارسات الصحابي الجليل( خالد بن الوليد) وقصة قتله لمالك بن نويرة, فقد كان يرى أبا بكر أن خالدا هو صاحب القرار بينما بن الخطاب رضي الله عنه كان يرى وجوب الرجوع إلى الخليفة, وأشار على أبي بكر بعزله ولكن أبا بكر قال: ما كان لي أن أعزل سيفا سله الله على أعدائه, مما أدى بالتالي إلى ضمان عزل خالد بن الوليد بعد تولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة.
وهذا ليس موضوعنا بقدر ما هو اختلاف بين الشخصيتين في أسلوب وفن إدارة الحكم والأزمات, فكيف مثلا بشخصيتين مختلفتين في طرائق التفكير كانتا قد اجتمعتا على حب رجل واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم!! هذا لا بد أنه أسلوب فيه عظمة وعبقرية بأن يجمع شخص رجالا مختلفين في الرأي على حبه وإتباع رسالته, وكذلك القبائل التي كانت متناحرة ومتقاتلة فيما بينها, كيف مثلا كلها اجتمعت على حب رجل واحد وهم مختلفون وبينهم من القتل والثارات الكثير الكثير!! إنها العظمة في الشخصية التي تتمتع بفن قيادة الجيوش وإدارة المجتمعات, اجتمع حول سيدنا محمدا بعض من الضالين والمغضوب عليهم الذين هربوا من بطش قومهم وآمنوا برسالته رسالة التوحيد, اجتمع حوله الفقراء والأغنياء وهذا بحد ذاته يعبر عن العظمة في أسلوب فن الحكم وفن السياسة, فمن المعروف عن الأحزاب السياسية أنها غالبا ما تهتم إما بالفقراء وإما بالأغنياء, وقادة الفكر دائما ما يجتمع حولهم إما الفقراء لتشكيل ثورة على الأغنياء وإما الأغنياء لقلب نظام حكم معين, ولكن محمدا آمن بدعوته الرجال والنساء والفقراء والأغنياء والمعذبون والمطرودون والصعاليك وعلية القوم وأكابرهم واذكى الرجال في قيادة المعارك والكرماء والبخلاء , لقد اجتمعت على حب شخصية سيدنا محمدٍ كل فئات وأطياف المجتمعات ومعاييرها الأخلاقية على اختلافها واتساع رقعتها, آمن به عبدة الفرج وآمن به عبدت الأوثان وبدل الكثير أو أغلبهم غيروا وبدلوا حياتهم ونهجوا مع سيدنا محمد حياة جديدة وقلبوا نظامهم الاجتماعي واستطاع سيدنا محمدا أن يجمع حوله القبائل من الكبار والصغار وأمراء القوم وشكلوا إمبراطورية كانت قد قوضت إمبراطورية الفرس والروم وغلبوهم في عقر دارهم واستطاع محمدا صلى الله عليه وسلم ولثاني مرة في التاريخ أن يتخذ من هجرته من مكة إلى المدينة تاريخا للعرب وللمسلمين, وكان هذا بعد التاريخ الميلادي الذي بدأ بأغسطس ويوليوس قيصر مؤسسا دولة الروم أو إمبراطورية الروم.
وبهذا كان سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام مثله مثل المسيح قلب الأنظمة الاجتماعية وهابه قادة الفرس والروم رغم أن حياته بدأت براعي غنم ومن ثم تاجرا أمينا لخديجة أم المؤمنين, وتحول من رعي غنم إلى أكبر مشرع في مجال الدين والسياسة والاقتصاد وقدم صحابته حياتهم فداء ليس له وإنما لعقيدته كما قدمها المسيحيون, محمدا والمسيح شخصيتان عظيمتان لا يمكن أن يتجاهلهما التاريخ.