رغم انتقادي لدور المثقفين و الأسس الثقافية بصورة عامة في مقالات متعددة الا انني لم أتعود ان اكتب عن سلوك الأفراد و افكارهم لأَنِّي اؤمن بحرية الفكر و السلوك مع الالتزام بالمسؤولية …. لكننا الان بصدد قصيدة شعر بدأت بانفعال شخصي … و لكنها تمثل ظاهرة بدأت تتمدد…و تتمدد ردود الفعل عليها حتى كادت ان تصبح قضية عامة في ظل جو التوتر و فقدان التوازن و عدم الثقة بالاخر و تجلياته الدموية في كل شارع و واد…
هذه الظاهرة تتمثل في نوع من الشعر السياسي غير المحدد الأهداف و الحدود في هذه الأيام … حيث تعيش الأوساط الثقافية العراقية …. ارهاصات زوبعة اخرى من زوبعات سعدي يوسف الكثيرة و المتخذة اتجاهات مختلفة… و الغريب ان بعض تلك الأوساط لا تجد في رد فعلها الا العودة الى لعبة طفولية تاريخانية قديمة …. حرق الكتب… و كأن الأفكار و المعتقدات و الأحاسيس … يمكن محوها هكذا بحرق بضعة أوراق … او حتى حرق اجساد و صلبها… و الأمثلة التاريخية كثيرة لنتعلم منها… ان الأفكار لا تموت و المعتقدات ستعيش أبدا في الذاكرة و الأحاسيس تتفاعل اكثر مع الحرارة…
اعتقد ان مشكلة سعدي يوسف …. و الآخرون من الدوائر الثقافية و السياسية… هي ايضا تكمن في انه لا يتفاعل مع التطور الاجتماعي و إنما يحاول بقدر ما وقف عجلة التطور التاريخي للمجتمعات و هذا ما يدفعه الى الشعور بالغربة و الشعور بالمرارة و الهزيمة نتيجة اعتبار كل ما يحدث في المجتمع … بهذا الاتجاه او ذاك… هو خروج عن صورة نمطية جامدة… ذهنية اكثر مما تكون واقعية و تعتمد على قراءة اختزالية للتجارب التاريخية…
في قصيدته الاخيرة “مصر العروبة… عراق العجم” التي أشعلت نيران … العراق العربي و العجمي… يعلن سعدي ان العراق اصبح عجميا… و للمقارنة بين ما هو عربي و ما هو عجمي فهو يستخدم مصر كمقياس للمفهوم العربي و يذكر هنا إسماء بعض المثقفين المصريين… و ينسى او يتناسى … ان بعض هؤلاء كانوا من المنظرين لمشروع الرئيس السادات الذي انقض على مشروع عبد الناصر القومي العربي…. و بعض منهم يبدون الان افتناناً و ولعاً كبيرين بالثقافة العجمية… او الإيرانية و التركية…. و يستلهمون منها “البعد الثالث” لمفهوم الثقافة و التعايش السلمي….
لكن الأهم الذي ينساه سعدي يوسف او يتناساه في هذا الإطار… ان المجتمع المصري … هو نموذج تاريخي …. للتعدد الثقافي و هذا هو الأساس في طبيعة السماحة الاجتماعية و التعايش السلمي بين المصريين من افارقة و فراعنة و مسلمين و أقباط و نوبيين و عرب و أوروبيين و اتراك و أكراد و شركس و غيرهم كثيرون…. من شعوب و إثنيات و ثقافات مختلفة…. تآلفت على مدى قرون… بل ان ما تشهده خلال السنوات الماضية من احدث مؤسفة و صراعات دموية هي نتيجة محاولة اصحاب المشاريع الضيقة بالتفرد في السيطرة و الهيمنة…
ربما من السذاجة ان نطرح سؤالا علميا عن ماهية تعريف ” العربي” و ” العراقي” عند سعدي يوسف… فالهدف ليس احراج الرجل في مسائل أنثروبولوجية معقدة… لكن السؤال المهم يظل عن التصورات السياسية عن رمزية هذه المفاهيم في مسار مجتمع حيوي يطور ذاته من خلال التفاعل…. السلبي و الإيجابي… بين مكوناته الاجتماعية المختلفة….
لا ندري ان كان سعدي يوسف عرف من التاريخ ان محمد علي الذي بنى الأسس الاولى لمصر الحديثة لم يكن عربيا بل البانياً….. كما ان صلاح الدين الأيوبي… الذي يتغنى بأمجاده القوميون و الاسلاميون العرب… كان كوردياً… و كذا كان اغلب علماء الحضارة الأسلامية من غير العرب…. فرس و كورد و اتراك و برابرة أمازيغ و اخرون من المسلمين و غير المسلمين…
و لنتساءل ايضا عن اية قومية عربية يريد ان ينظر سعدي يونس…. الا يتذكر ان المفاهيم الاولى للقومية العربية كانت من انتاج مثقفين غير عرب كما كان رواد الماركسية العربية من الأقليات المضطهدة و ان التقليدية العربية قد أنتجت داعش و اخواتها…؟؟؟..
انطلاقا من حسن الظن فان من المؤكد ان سعدي يوسف محب للعراق الى درجة الجنون… و لكن هل من الحب ان يخلق هذا الشاعر الكبير العداء للعراقيين داخليا و خارجيا…. نتذكر زوبعته قبل شهور في الانتقاص من قيمة الشعر المغربي بعد ان منحه المغاربة جائزة الارگان… و هذه جائزة ثقافية ذو قيمة كبيرة كون اسمها يؤشر الى شجرة الارگان التي تعتبر رمزا وطنيا مثلها مثل الأرز في لبنان…
نتمنى ان يكون حظ المصريين افضل من حظ المغاربة و ان تقابل رحابة صدر مصر بوفاء اكثر من المغرب…. ام هل يحاول سعدي يوسف الان ان يخلق أزمة مماثلة بين المثقفين المصريين و العراقيين …. ام يهدف الى زيادة التناحر الداخلي الذي لم يترك زاوية في العراق دون جراح و دماء و احقاد…؟؟؟..
هل يعتبر سعدي يوسف قصيدته الاخيرة رسالة حب و إخاء … ام انها مانيفستو لبناء جدار جديد بين العراقيين … و انها… كما هي طروحات الحرق و القتل و التهجير و الاغتصاب…. بضاعة في سوق التكفيريات و لاختزال و الاقصاء الرائجة هذه الأيام …؟؟؟.. نتمنى ان يساهم المثقفون في صنع السلام بين الناس… حبي للجميع…